لم يكتفِ الحراك العراقي، الذي ملأ شوارع وسط وجنوب العراق بالشباب، بإطلاق تسمية الإعلام على تحرّكهم بالاحتجاج أو الانتفاضة، وإنما أصرّ على تسميته بـ"ثورة الجياع". وبمعزل عن دقّة تسمية "الثورة" على حراك الشباب، إلا أنه يتضمّن، بلا شك، تحرّكاً للجياع ضد طبقة سياسية يزداد ثراءها فحشاً. وعليه، فإن الجانب الاقتصادي من الحراك يشكّل محرّكاً أساسياً للتظاهر ضد النظام، فضلاً عن المطالبة الصريحة بإسقاطه.
أثرياء وفقراء
شهد العراق في الأعوام الأخيرة تفاوتاً اقتصادياً كبيراً جرّاء سياسات الحكومات الاقتصادية المتعاقبة التي لم تستهدف تغيير أحوال الفقراء إلى الأفضل، وإنما اكتفت بمراكمة الأموال في الحسابات البنكية للطبقة السياسية. فالعراق الذي دخل له من إيرادات النفط أكثر من تريليون دولار منذ عام 2003 وحتى العام الماضي، لم يعمل على صناعة مشاريع تنموية حقيقية تخدم المجتمع. لقد بددت جميع هذه الأموال على مشاريع وهمية ومنحت كرواتب لموظفي الدولة الذين عينت الأحزاب جزءاً منهم للهيمنة على مقدرات الوزارات مالياً وسياسياً، وكذلك عَبر منْح انصارهم السابقين في معارضة النظام السابق رواتب شهرية من خلال مؤسستي "السجناء" و"الشهداء".
وبالمقابل، فالقاعدة الأساس للمشاركين في التظاهرات، هي من العاطلين عن العمل بالدرجة الأولى. وهؤلاء يزداد عددهم يوماً بعد آخر، اذ تدفع الجامعات العراقية كل عام بأعدادٍ تتراواح بين 200 الف إلى 350 ألف شاب بشهادات مصدّقة، بينما ترمي الحكومة بهؤلاء الخريجين إلى الاقتصاد غير النظامي.. الذي يُسمى بالاقتصاد الموازي. وهناك يتعرض هؤلاء الخريجين إلى أشد أنواع الاستغلال الوظيفي، مثل قلة الأجور، وزيادة عدد ساعات العمل بدون أجور، وعدم وجود ضمان صحي وتقاعدي، والفصل الاعتباطي من العمل، وغير ذلك. الاقتصاد الموازي هذا على الرغم من مساوئه وجشعه، وقبول الكثيرين للعمل في مفاصله، لا يستطيع بطبيعة الحال استيعاب هذا العدد الكبير من الخريجين والعاطلين عن العمل. أما الدولة العراقية فعجزت عن انشاء قطاع خاص حقيقي يستطيع أن يستقطبهم، ذلك أن ما يسمى قطاعاص خاصاً في العراق الآن هو عبارة عن مجموعاتة من المقاولين - يتبع الكثير منهم للأحزاب - وينفذون المشاريع التابعة للدولة. نتيجة لهذه الفوضى الاقتصادية، فإنه عندما تقل إيرادات الحكومة، مثلما حصل في العام 2014، ينهار القطاع الخاص أو قطاع المقاولين، وترتفع الخطوط البيانية للعاطلين العمل والفقراء!
مليارات.. مليارات
وضعت الحكومات العراقية المتعاقبة خطط بملايين الدولارات لتطوير الاقتصاد، من بينها الخطط الخمسية، واستراتيجية تخفيف الفقر وغيرها. وقد أُنفقت ملايين الدولارات على كتابة هذه الخطط، وصرفت ملايين أو مليارات على تنفيذها.
- هل نفّذت؟
- نعم!
- كيف؟
- بغاية السهولة.
تضمنت خطط الحكومة أكثر من 9 آلاف مشروع تتعلّق بالخدمات والتربيّة والصحة والاقتصاد، إلا أن غالبيّة هذه المشاريع كانت وهمية، أو "فضائية" بحسب ما يسمّيها سكّان العراق. خصصت مبالغ هائلة لهذه المشاريع من الموازنات الانفجارية، وتم تحويل الأموال إلى حسابات المقاولين المرتبطين بقيادات النظام السياسي الحالي. وفي نهاية الأمر لم ينبت أي مشروع على أرض العراق! ولذلك تسمّى المشاريع "فضائية"، إذ أن لا وجود لها على الأطلاق على أرض الواقع.
الاقتصاد العراقي مصاب بخلل مهول في استحصال الأموال وانفاقها، إذ أنه يعتمد على إيرادات النفط بنسبة 94 في المئة من مداخيله، وبنسبة 6 في المئة على الإيرادات غير النفطية التي يحصِّلها عن طريق الضرائب والرسوم وبعض الشركات الرابحة في وزارتي الصناعة والنقل. الكثير من الأموال المستحصلة هذه تنفقها الحكومات المتعاقبة على رواتب موظفي الدولة والرعاية الاجتماعية، فضلاً عن مئات آلاف المتقاعدين الذين اعتبروا "متقاعدين" من دون لم يدفعوا في حياتهم السابقة أية أموال لصندوق التقاعد. لكن هناك الأموال تسلك طريقها إلى حصّالات الأحزاب واللجان الاقتصادية التابعة لها ومقاوليها.. ويجري هذا الفساد في شرايين الدولة على الرغم من التشكيلات الرقابية الكبيرة مثل "هيئة النزاهة" و"مجلس مكافحة الفساد" ومكاتب المفتشين العموميين.
وضعت الحكومات العراقية المتعاقبة خطط بمليارات الدولارات لتطوير الاقتصاد، من بينها الخطط الخمسية، واستراتيجية تخفيف الفقر وغيرها. وأُنفقت ملايين الدولارات على كتابة هذه الخطط، وصرفت مليارات على تنفيذها. تضمنت هذه الخطط أكثر من 9 آلاف مشروع تتعلّق بالخدمات والتربيّة والصحة والاقتصاد... إلا أن غالبيّة هذه المشاريع كانت وهمية، أو "فضائية" بحسب ما يسمّيها العراقيون.
والحال هذه، فالنظام السياسي الحالي اعتمد على تفريغ العراق من الأموال، إذ ساهم في تعطيل الصناعة والزراعة والصحة والتعليم، فالأموال التي تدفعها الدولة كرواتب تذهب لإحياء اقتصادات الدول المجاورة، لأن العراق يأكل ويلبس ويستهلك ما تنتجه هذه الاخيرة. وحجم استيرادات العراق من السلع يبلغ سنوياً أكثر من 35 مليار دولار (استيرادات القطاع الخاص)، بالإضافة إلى استيرادات الحكومة العراقية التي تبلغ سنوياً أكثر من 3 مليارات دولار، وهو رقم كبير جداً. ولا يمكن لاقتصاد يبلغ ناتجه الإجمالي 197 مليار دولار، الاستمرار بهذه السياسة، لاسيما وأن حكام هذا النظام وضعوا عراقيل امام أي فرصة لإحياء الصناعة أو الزراعة من قبل الدولة أو القطاع الخاص، لأنه ليس من مصلحتهم الشخصية خسارة الأرباح من البضائع الرديئة التي يستوردها العراق. الغريب في هذا كلّه هو أن العاملين في الصناعة العراقية اليوم (وهي معطلة تماماً) يبلغون 500 ألف موظف، مسجلون في المصانع الحكومية، وهم عاطلون عن العمل لأن مصانعهم متوقّفة عن الإنتاج. وبينما تقترض الدولة رواتبهم من المصارف الحكومية، فإنها لم تكلف نفسها بوضع استراتيجية تستثمرهم في تطوير الصناعة.
تدمير المُدمّر
لم يكتفِ نظام الأحزاب الحاكمة اليوم بتهديم الصناعة والزراعة وغيرها، وانما بدأ مؤخراً بتضييق الخناق على الطبقات الفقيرة والمسحوقة، وذلك عبر حملات إزالة البسطات وعدم إيجاد بديل لها لتدّر الرزق على أصحابها. وكذلك شرع بهدم العشوائيات التي يسكنها نحو 3 ملايين شخص، هربوا من ارتفاع أسعار العقارات في المدن. والمدن العراقية تعدّ من أغلى البلدان في المنطقة في أسعار العقارات، إذ على الرغم من افتقار العراق للخدمات العامة مثل التعليم الجيد والصحة والكهرباء، إلا أن سعر المتر الواحد في المناطق السكنية المتوسطة ارتفع إلى أكثر من ألف دولار، بينما يمتلك العراق مساحات كبيرة وفارغة وغير مستغَلة. الحكومات المتعاقبة وعدت بتوزيع الأراضي وتخطيطها، لكنها لم تفعل، وعوضاً عن ذلك هدمت منازل العشوائيات دون أن تقدّيم بديل لساكنيها.
خطط نجاة!
فاقمت حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي من غضب الشباب العراقيين، إذ أنها لم تكتفِ بقمع التظاهرات، وبفرض حظر شامل للتجوال في بغداد، وإنما قطعت خدمة الانترنت وهو ما تسبّب بخسائر كبيرة حتّى لأولئك الذين يمتلكون أعمالاً بسيطة مثل سائقي شركة "كريم" والعاملين لحسابهم الخاص بمشاريع صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
سياسات القمع الحكومية أدت ليس فقط إلى خسائر بشرية، وإنما أيضاً إلى خسائر ماليّة للشركات التي تتمتع بهامش قليل من الاستقلالية الاقتصادية، إذ تعطلت المصارف وأدوات الدفع الالكتروني الحديثة التي بدأ يعتمدها العراق للحد من الفساد المالي والإداري، وتوقفت شركات السفر ومشاريع ريادة الاعمال، خصوصاً أن خدمة الانترنت التي تقدمها شركات الاتصالات ما زالت متوقفة، مما يبعث برسالة إلى جميع الشركات العالمية تقول أن بيئة الاعمال في العراق يشوبها الكثير من الفوضى ولا يمكن لأي شركة عالمية الدخول للسوق العراقية والعمل فيها في ظلّ قرارات فوضوية واعتباطية كهذه.
النظام السياسي العراقي الحالي اعتمد على تفريغ البلاد من الأموال، إذ ساهم في تعطيل الصناعة والزراعة والصحة والتعليم. والأموال التي تدفعها الدولة كرواتب تذهب لإحياء اقتصادات الدول المجاورة، لأن العراق يأكل ويلبس ويستهلك ما تنتجه هذه الاخيرة.
لم يكتفِ نظام الأحزاب الحاكمة اليوم بتهديم الصناعة والزراعة وغيرها، وانما بدأ بتضييق الخناق على الطبقات الفقيرة والمسحوقة، عبر حملات إزالة البسطات وعدم إيجاد بديل لها، وكذلك هدم العشوائيات التي يسكنها نحو 3 ملايين شخص..
وفي النهاية قُدرت الخسائر المالية لجميع هذه الفئات بنحو نصف مليار دولار، وفقاً للجنة الخدمات في البرلمان.
خطط النجاة من غضب الشارع التي أطلقها عبد المهدي تضمر أيضاً انتحاراً ليس لحكومته فحسب، وإنما للنظام السياسي برّمته. ففي محاولة منه لتهدئة الشارع الغاضب، أطلق عبد المهدي خططاً تتمثل بزيادة عدد موظفي الدولة - التي يطالب صندوق النقد الدولي أساساً بضرورة تقليلهم سنوياً على الأقل بنحو 40 ألف موظف عبر احالتهم على التقاعد وعدم توظيف أي شخص إلا للحاجة الماسة في قطاعات الامن والتعليم والصحة. كما ان دوائر الدولة غير قادرة على تأهيل الشباب العاطلين عن العمل واكسابهم خبرات لزجّهم في سوق العمل وتحديداً في القطاع الخاص، نتيجة عاملي ضعف التعليم في العراق الذي يخرّج الالاف سنوياً بعيداً عن احتياجات السوق، وفقدان المؤهلات لغالبية الشباب العراقي. كما أن خطة الحكومة الإصلاحية ستقتلها البيروقراطية والتشريعات النافذة التي تعود إلى عهد "مجلس قيادة الثورة" خلال حكم حزب البعث، والتي أدت إلى إيقاف الإصلاحات الاقتصادية التي أطلقها رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي.
الحاجة والعجز
يحتاج العراق في الوقت الحالي إلى عدة إجراءات سريعة لتخفيف احتقان الشارع، تتمثل بإنهاء أزمة السكن، وتغيير سياسة التعليم.. فالتعليم حالياً يعتمد على تغذية القطاع العام المتخم بالموظفين، والعراق بحاجة ماسّة إلى جعل هذا القطاع يواكب احتياجات القطاع الخاص. وقبل ذلك، يجب خلق قطاع خاص حقيقي لا يعتمد على الدولة، عبر تشريعات تضمن حقوق العاملين فيه من رواتب تقاعدية وضمان صحي ووظيفي وإيقاف نزيف الأموال عبر الرواتب التي تُمنح للعراقيين وهم خارج البلد من خلال مسالك تعويض غير عادلة.
لكن النظام السياسي عاجز تماماً عن توفير هذه الحاجات الأساسية لأنه أصبح غير قادر على إدارة دفة الاقتصاد نتيجة لهبوط أسعار النفط في السوق العالمية. وستبقى أسعار النفط تتراوح بين 50 و 70دولاراً وفقا للمنظمات المختصة بمراقبة السوق، بينما يحتاج العراق سنوياً إلى 59.3 مليار دولار كنفقات حاكمة مقسمة إلى 40.3 مليار دولار كرواتب للموظفين والمتقاعدين والرعاية الاجتماعية، بالإضافة إلى 15 مليار دولار كمستحقات ديون وفوائد للمنظمات العالمية والبلدان التي اقترض منها والتي ستستمر ما يقارب 10 اعوام، و4 مليار دولار كنفقات حاكمة لشراء الادوية والحنطة والشعير واستيراد الطاقة الكهربائية.. مما يعني أن الاقتصاد العراقي غير قادر على تحقيق التنمية الاقتصادية لعجزه عن إعادة اعمار المناطق المحررة، وتطوير البنى التحتية المتآكلة، وزيادة الانفاق على الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم.
وليس لدى العراق القدرة على التحكم بسوق النفط العالمية، ولا يمكنه إقناع العالم بعدم التوجه إلى الطاقة النظيفة والاستمرار بالاعتماد على النفط، مما يعني أن أية هزة اضافية في أسعار النفط ستؤدي إلى الإطاحة بالنظام السياسي الحالي الذي لن يتمكن من توفير رواتب الموظفين والمتقاعدين، وهم آخر فئة في العراق تدافع عن بقائه، ولو بعدم دراية منها!