مطلع العام الجاري، قرر «مؤتمر الحوار الوطني» توزيع اليمن على ستة أقاليم، اثنان منها في الجنوب وأربعة في الشمال. كان القرار سياسياً بامتياز، يرسم مصير اليمن و25 مليون إنسان من دون كثير مراعاة للعوامل الجغرافية والاقتصادية والثقافية والسكانية والتاريخية. نشر «السفير العربي» ملامح آزال وعدن وحضرموت والجند وتهامة ويقدم سادس الاقاليم.
يتكوّن إقليم سبأ من ثلاث محافظات: مأرب، الجوف والبيضاء، وتبلغ مساحته الإجمالية 78390 كم2، وهو ما يعادل 91 في المئة من مساحة دولة الإمارات العربية المتحدة. ومحافظة الجوف وحدها تزيد مساحتها عن مجموع مساحة الكويت وقطر والبحرين معاً.
وهذا الإقليم هو مخزن الموارد الاقتصادية لليمن. ففي محافظتي مأرب والجوف ثروة كبيرة من النفط والغاز لم يُستغلّ منها سوى النزر اليسير، فضلاً عن المعادن الأخرى. كما أنّ معظم أراضيه صالحة للزراعة، وهي من أخصب أراضي اليمن، غنية بالمياه الجوفية ومياه السيول الموسمية المُنسابة إلى محافظتي مأرب والجوف من صعدة وصنعاء. كما يمتلك إقليم سبأ المؤهلات اللازمة لإنشاء صناعة تحويلية إلى جانب الصناعة الاستخراجية. وهو مؤهل ليكون الأول سياحياً، لتركّز كل آثار حضارة مملكتي سبأ ومعين في محافظتي مأرب والجوف، وأثار الدولة الطاهرية في محافظة البيضاء. فضلاً عن امتلاكه رأسمالا ثقافيا كبيرا، حيث استطاع سكانه تطوير بنى ثقافية ومنظومة قيم قبليّة حافظت «نسبياً» على النظام العام في ظل غياب شبه كامل للدولة خلال معظم فترات تاريخه الوسيط والحديث، وشكّلت ضابطاً لسلوك الأفراد والتعامل بين الجماعات لقرون طويلة. ولو أن الحكومات المتعاقبة (منذ سبعينيات القرن العشرين حتى الآن) أحسنت توظيف هذه الموارد الطبيعية والاجتماعية والثقافية وإدارتها، لتمكنت من بناء حضارة حديثة لا تقلّ أهمية عن الحضارات القديمة التي تأسست في هذا الإقليم. لكن كما يقول المثل: «جوهرة بيد فحّام».
مجتمع اللادولة
تكاد تكون الدولة مغيّبة بالكامل عن اقليم سبأ. في محافظة الجوف مثلاً، يقتصر وجودها المادي على مبنى المحافظة في مدينة الحزم. لا وجود للمحاكم، والنيابات، وأقسام الشرطة، والسجن المركزي، ولا حتى لجامعة أو كلية حكومية. لا يختلف الأمر كثيراً في محافظتي مأرب والبيضاء، فعشرون من مديريات المحافظتين لا وجود فيها لمحاكم ولا لأقسام شرطة. وبدلاً من نشر مؤسسات الدولة في الأقاليم، فوّض النظام معظم سلطاته للمشايخ، بدءاً من حراسة أنابيب النفط والغاز وصولاً إلى خطوط الطاقة الكهربائية. كما فوّضهم ببعض المهام السيادية كحراسة الحدود مع المملكة العربية السعودية. وهكذا تعاملت الحكومة مع المواطنين عبر شيوخ القبائل، بدلاً من اعتماد آلياتها الخاصة ومؤسساتها، مانحةً إيّاهم امتيازات مادية وتحويلات مالية منتظمة، ما أدى إلى تشكّل نخبة قبليّة تستفيد من غياب الدولة أو ضعفها.
في ظل هذه المعطيات، بات من الطبيعي انتشار حيازة وتجارة السلاح واستخدامه في الإقليم. وتشير تقديرات خاصة إلى استحواذ إقليم سبأ على 30 في المئة من مخزون الأسلحة الموجودة خارج سيطرة الدولة في اليمن، مقابل امتلاك إقليم أزال المجاور حوالي 40 في المئة، وتتقاسم الأقاليم الأربعة الأخرى الثلاثين في المئة المتبقية. وتتوضّح خطورة الأوضاع عند الكشف عن معدّل مخزون الأسلحة الموجود خارج سيطرة الدولة، المتراوح بين خمسين وثمانين مليون قطعة سلاح، ما يعني أن ما يمتلكه السكان في إقليم سبأ قد يتراوح ما بين 13 إلى 24 مليون قطعة سلاح خفيف ومتوسط وثقيل.
حروب قبلية وثارات
في ظل غياب الأجهزة الأمنية، وانتشار الأسلحة، والأميّة، واستمرار قوة البنى والعلاقات القبليّة، انتشرت النزاعات والحروب القبلية وظاهرة الثأر في هذا الإقليم منذ عقود طويلة (بعض النزاعات الثأرية عمرها ثلاثة وحتى أربعة عقود)، ولعلّ أشهرها هو النزاع بين قبيلتي «الشولان» و«همدان» في محافظة الجوف، الذي بدأ في مطلع ثمانينيات القرن العشرين حول حفر بئر ماء في المنطقة.
لم يستطع القضاء القبلي والتسويات حلّ معظم قضايا الثأر في محافظات الإقليم الثلاث، على الرغم من بعض إيجابياته التي تؤهله لردم فجوة غياب القضاء المدني. لكنه فعليّاً غير قادر على ردم فجوة غياب القضاء الجنائي، كونه يقوم على التسويات وليس على العقوبات الجنائية، ما عزّز انتشار ظاهرتي الإفلات من العقاب والثأر. وفي ظل انتشار ظاهرة الثأر بات كثير من أبناء محافظتي مأرب والجوف غير قادرين على مغادرة قراهم لسنوات، ولا الانتقال إلى عواصم المحافظات أو صنعاء. وخوفاً من الثأر، لا يستطيع كثيرٌ من الأطفال والشباب الذهاب إلى المدارس والجامعات، إلا بعد إتمام عقود صلح قبليّة وهي غالباً مقصورة على فترات محدودة، قد تمتد أشهراً أو عاماً... أمّا المضحك المبكي فهو اضطرار بعض شباب القبائل للتنكّر من أجل مواصلة التعليم الجامعي في بعض المحافظات البعيدة عنهم. وإذا كانت الآثار السلبية لظاهرة الثأر تنحصر أساسا في إطار سكان الإقليم أنفسهم، فإن الآثار السلبية لظاهرة الإفلات من العقاب تؤثر مباشرة على الاقتصاد الوطني، وبالتالي على كل سكان اليمن. فبسبب ضعف الأجهزة الأمنية في محافظة مأرب خاصة، باتت ظاهرة الاعتداء على خطوط نقل الطاقة الكهربائية وأنابيب نقل النفط والغاز، شبه يومية خلال العامين الماضيين. ويقدر الخبراء الخسائر التي تكبدها الاقتصاد اليمني نتيجة تفجير أنابيب النفط والغاز وخطوط نقل الطاقة الكهربائية خلال العامين الماضيين بأكثر من أربعة مليارات دولار. مع ذلك فإن الأجهزة الأمنية لا تستطيع القبض على مرتكبي هذه الأعمال التخريبية رغم معرفتها بأسمائهم وأماكن وجودهم، ولا يتم القبض على بعضهم إلا إذا كانوا في العاصمة صنعاء.
تجارة الاختطاف
دُشّنت ظاهرة اختطاف الأجانب في اليمن باختطاف الملحق الإعلامي بالسفارة الأميركية في صنعاء من أحد شوارع العاصمة، في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1993، ونقله إلى محافظة مأرب. وشهدت المحافظة في 13 نيسان / أبريل المنصرم اختطاف الطبيب الأوزبكي «ساليف مؤمن». وما بين الحادثين شهدت اليمن ما لا يقلّ عن 200 حادث اختطاف لأجانب، معظمها في محافظة مأرب (أو تمّ نقل المخطوفين إليها بعد العمليّة). وبات الاختطاف تجارة رائجة في كلّ الأقاليم القبلية وليس في سبأ فقط، كأزال وحضرموت. أمّا دوافع الخطف، فتعدّت الرغبة في لفت نظر الحكومة للمطالب التنموية في المناطق المحرومة (كما كانت تروج وسائل الإعلام الرسمية وبعض وسائل الإعلام الأجنبية)، بل تتركز معظمها حول مطالب غير قانونية تتمثل في الإفراج عن سجناء، والمطالبة بفدية مالية وأحياناً بيع المختطف لتنظيم القاعدة. واتسعت خلال السنوات الماضية، ظاهرة الاختطاف لتشمل بعض رجال الأعمال اليمنيين وأقاربهم بهدف الابتزاز المالي.
القاعدة وعصابات الجريمة
في ظل هذا الانفلات الأمني، اتخذ تنظيم القاعدة من وادي عبيدة ملجأً له، واستطاع الانتشار في محافظات البيضاء، أبين، شبوة وحضرموت. وعلى الرغم من عدم وجود دليل قطعي على تقديم النظام السابق دعماً مباشراً لتنظيم القاعدة، إلا أنّ مسؤوليته واضحة في سيطرة القاعدة على بعض مديريات إقليم سبأ، وذلك عبر تغييب الدولة عن الإقليم وعدم إنفاذ القانون والتساهل مع الفوضى والثارات والاختلال الأمني، فضلاً عن عدم اتخاذ إجراءات حقيقية للقضاء على التنظيم.
فكلّ عمليات الاختطاف التي نفّذها القاعدة ورجال القبائل، انتهت بالتفاوض وتقديم فدية مالية في بعض الحالات، وتلبية مطالب الخاطفين. ولا يقتصر الأمر على الجماعات الإرهابية، بل أيضاً عصابات الجريمة المنظّمة والسرقة. فقد ظلت عصابة «أبو راوية» تعيث فساداً على طريق صنعاء ـ مأرب وبعض مناطق الجوف، ولم تستطع (أو في الحقيقة لم ترد) أجهزة الأمن القبض عليها أو قتل أفرادها، حتّى قامت جماعة الحوثي بقتل أبي راوية.
مستقبل محفوف بمخاطر
انعكست ظاهرة الثأر والفوضى الأمنية على التنمية عامّةً والتنمية البشرية خاصّةً، فمعدلات الالتحاق بالتعليم الأساسي والثانوي والجامعي في إقليم سبأ هي الأدنى على مستوى كل الأقاليم، بما في ذلك إقليم أزال المجاور والذي تتشابه بناه الاجتماعية والقبلية مع بنى إقليم أزال، وتنتشر فيه ظاهرتا حمل السلاح والثأر، وإن بنسب أقل. هذا الأمر سوف يؤثر سلباً على الموارد البشرية اللازمة للتنمية في الإقليم مستقبلاً. ويزداد الأمر سوءاً في ظل التوترات والمواجهات المسلحة التي تندلع بشكل متواتر منذ أشهر بين المليشيات المسلحة التابعة لجماعة الحوثي والمليشيات المسلحة الموالية للتجمع اليمني للإصلاح. وهي نزاعات مرشحة للتحول إلى حرب شاملة خلال الأشهر المقبلة. وإذا لم تفرض الدولة وجودها وهيبتها بقوة خلال السنوات المقبلة، فإن كل محافظات الإقليم مرشحة لدورات متتالية من العنف والنزاعات المسلحة بين الجماعات والقوى السياسية عموماً وبين جماعات الإسلام السياسي خاصة خلال المناسبات الانتخابية التشريعية والمحلية، وهي ظاهرة ليست جديدة على الإقليم، ولكنها مرشحة للتزايد خلال السنوات المقبلة. فمعظم مديريات محافظة مأرب خلال الانتخابات المحلية عام 2006 لم تجرِ فيها انتخابات تنافسية حقيقية، بل تم اختيار ممثلي المديريات عبر التسويات القبلية.
وكادت الانتخابات التنافسية لمحافظ الجوف عام 2008 أن تؤدي إلى حرب قبلية، وتم التوافق على تنازل المرشحين اللذين ادعى كل منهما الفوز، لمصلحة محافظ توافقي اختاره الرئيس السابق علي عبد الله صالح وأصدر قراراً بتعيينه في مخالفة صريحة للقانون. ولكن، في ظل العلاقة الصراعيّة بين شيوخ القبائل المنتمين للمؤتمر الشعبي العام والمشايخ المنتمين للتجمع اليمني للإصلاح، والموالين لحركة أنصار الله (جماعة الحوثي)، يبدو التوافق في الانتخابات القادمة أمراً مستبعداً.
رغم هذا الواقع المؤلم، فإن الأمل معقود على شباب إقليم سبأ في صياغة مشروع للتحول الاجتماعي والسياسي في إقليمهم مستقبلاً، حيث بدأت بعض الحركات الاجتماعية الشبابية في التشكل خلال الأعوام الماضية، ما يشير الى إمكانية أن يستفيد شباب إقليم سبأ من تجارب آبائهم. وهي حركات تدرك أن ما يحدث في الإقليم من فوضى تحركه جماعات مصالح من خارجه، وهي مستوعبة للأهداف المشبوهة لتجار الحروب.