اتسم التركيب الاجتماعي للمجتمع اليمني التقليدي بالتراتبية الشديدة، واحتلّ السادة الهاشميون والقضاة وشيوخ القبائل المواقع العليا في سلم المكانات الاجتماعية، فكانت مخاطبتهم من قبل العامة وتدوين أسمائهم في الوثائق الرسمية تُسبق دائماً بالكنية الدالة على مكانتهم الاجتماعية تماماً مثلما كان يتم التعامل مع الباشوات في مصر قبل 1952.
بعد ثورة 1962، لم يستطع ضباط الثورة بقيادة رئيس الجمهورية المشير عبد الله السلال، تجسيد كثير من أهدافها في الواقع، وبخاصة الهدفين ـ المتلازمين ـ المتعلقين ببناء جيش وطني قوي و«إذابة الفوارق بين الطبقات». فالجيش الجمهوري كان منشغلاً بمعارك الدفاع عن الثورة والجمهورية، ولم يساهم شيوخ القبائل الذين دعموا الثورة في تقويته، بل راح كثير منهم يشن دعايات معادية لضباط الجيش ورئيس الجمهورية، ويؤسسون ميليشيات قبلية بمسمّى «الجيش الشعبي»، واستطاعوا تحقيق ثروات من خلال هذه التجارة الرائجة آنذاك، ومعظمهم لم يكونوا في الحقيقة يرغبون بأن يتمخّض عن الثورة تحوّل اجتماعي وسياسي راديكالي، بقدر ما كانوا يسعون لإجراء تعديل محدود على النظام السياسي، تغيير في شكله وفي ميزان القوة السياسية والاقتصادية، ما يضمن لهم إقصاء السادة الهاشميين من المواقع التي كانوا يحتلونها في النظام الإمامي والحلول فيها بدلاً عنهم. وقد تحقق لهم ذلك في ظل حكم القاضي عبد الرحمن الإيراني (1967 ـ 1974)، الذي وصفه الكاتب البريطاني روبرت ستوكي ب«إمام جمهوري».
وخلافاً للشمال الذي بنى دولة تقليدية محافظة بعد ثورة 1962، تبنت السلطات الثورية في الجنوب بعد الاستقلال توجّهات راديكالية على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، من شأنها تحديث البنى والعلاقات الاجتماعية، وأعدّت تقسيماً إدارياً جديداً يعتمد معايير تنموية عوضاً عن التقسيم الإداري القديم الذي كان متطابقاً مع الانقسامات القبلية، واستبدلت أسماء المحافظات بالأرقام (المحافظة الأولى والثانية... حتى الخامسة)، وخوّلت وظائف الدولة والنخب التقليدية (السادة والمشايخ والقضاة) في الأرياف للجان الدفاع الشعبي. وعلى المستوى الرمزي، ومنذ تأسيس الحزب الاشتراكي العام 1976، حلت كنية «الرفيق» في لغة الخطاب اليومي بين المواطنين، لاسيما المنتمين للحزب. أما في الوثائق الرسمية فلم تعد تستخدم الكنى التقليدية عموماً، وإن بقيت الألقاب العائلية، كالبيض والعطاس والسقاف... وابتداء من العام 1974، اتخذ الرئيس إبراهيم الحمدي خطوات مشابهة في الشمال، رغم اختلاف وسائلها ومصطلحاتها، فتبنّى استراتيجية لبناء دولة وطنية مؤسسية، وقلص امتيازات النخب التقليدية وفي مقدمها شيوخ القبائل، واتخذ إجراءات إدارية وسياسية واقتصادية واجتماعية لتفعيل المواطنة المتساوية وتكافؤ الفرص، وأصدر تعميماً رئاسياً بإلغاء الكنى التي تدلّ على المكانة الاجتماعية للمواطنين في الوثائق الرسمية، واستخدام كلمة «الأخ» بدلاً عنها.
انقلاب ديموقراطي رجعي
في 17 تموز/ يوليو 1978، اختار مجلس الشعب التأسيسي علي عبد الله صالح رئيساً للجمهورية في صنعاء، خلفاً للرئيس الغشمي الذي اغتيل بعد ثمانية أشهر من توليه السلطة. وخلال فترة حكمه، ظل صالح يفاخر بأنه الوحيد من بين الرؤساء الشماليين الذي وصل بأسلوب ديموقراطي. ولو سلّمنا جدلاً بوصف وصوله للسلطة بالديموقراطية، فإن الوصف الملائم لفترة حكمه التي امتدت أكثر من 33 عاماً، هو أنها انقلاب ديمقراطي رجعي. فقد قضى على كل منجزات الرئيس الحمدي في مجال بناء الدولة، فأعاد سلطة شيوخ القبائل وعظّم تأثيرهم على الدولة وعلى مؤسسات صناعة السياسات العامة. وعلى الرغم من التزام معظم مؤسسات الدولة باستخدام كلمة الأخ في الوثائق الرسمية، إلا أن كثيراً منها كانت تستثني شيوخ القبائل، فتسبق أسماءهم في وثائقها بكلمة شيخ، بما فيها وثائق اللجنة العليا للانتخابات، التي يفترض فيها الحياد التام وتكافؤ الفرص. والأهم من ذلك اعتماده سياسات عامة متحيزة لمصلحة شيوخ القبائل الذين استند عليهم في توطيد حكمه واستمراره، ومنحهم امتيازات مالية واقتصادية وسياسية كثيرة. وتصرف كثير من هؤلاء كما لو أن هدف الثورة ليس إسقاط النظام الإمامي، بل تحطيم قاعدته الاجتماعية المتمثلة برئيس من فئة السادة الهاشميين، وقاعدته الإيديولوجية المتمثلة بالمذهب الزيدي، فسهّلوا للجماعات السلفية والوهابية النشاط في المناطق الزيدية، بما في ذلك تأسيس مركز «دار الحديث» في قرية دماج على بعد كيلومترات قليلة من مدينة صعدة التي توصف تاريخياً بأنها كرسي الزيدية. وخاض الجيش خلال فترة حكمه ستة حروب ضد جماعة الحوثي في صعدة نيابة عن النخب التقليدية.
سادة جدد
شكّل الضباط الذين ينتمون لعائلات هاشمية نسبة كبيرة من تنظيم الضباط الأحرار الذين فجروا ثورة 1962، إلا أن فشل النظام الجمهوري في بناء دولة وطنية حديثة، وهيمنة شيوخ القبائل على مؤسسات صناعة القرار، وتمتّعهم بامتيازات اقتصادية وسياسية وإدارية غير قانونية، ولّد شعوراً سلبياً تجاه الثورة والنظام السياسي الجمهوري، يرى أن شيوخ القبائل حوّلوا الثورة إلى مجرد انقلاب لا يستهدف عائلة الإمام حميد الدين فقط، بل معظم العائلات الهاشمية. ومع تأسيس مركز «دار الحديث»، تعاظم إحساس بعض علماء الزيدية بأن هويتهم المذهبية مستهدفة، فراحوا «يواجهون التحدي بالتحدي» (حسب تعبير علي عبد الله صالح). ففي مقابل الدعم المالي الذي تقدّمه المملكة العربية السعودية لشيوخ القبائل، بحث أتباع السيد حسين الحوثي عن دعم مالي إيراني. وفي مواجهة الميليشيات القبلية لشيوخ القبائل استطاعوا كسب ولاء بعض الشيوخ المنافسين لمنافسيهم... وخلال السنوات الأولى من القرن الحالي تحولت الحركة الحوثية إلى حركة إسلام سياسي في مواجهة حركات الإسلام السياسي السنية، ثم تحوّلت جزئياً في السنوات التالية إلى ميليشيا مسلحة، استطاعت مواجهة قوات الجيش في ستة حروب خلال السنوات 2004 2010. وعلى الرغم من أن معظم الذين شاركوا ضمن ميليشيات الحوثي في هذه الحروب هم من أبناء القبائل، إلا أن نسبة لا بأس بها كانوا أيضاً من السادة الهاشميين، ما يشير إلى تشكل فئة جديدة من هؤلاء، ذات خصائص اجتماعية وثقافية مختلفة عن الصورة النمطية التقليدية لأسلافهم، الذين كانوا تاريخياً فئة «مُهَجَرَةْ» وفقاً للعرف القبلي، لا يشاركون في القتال.
حرب الشيخ والسيد في عمران
مع اندلاع ثورة شباط/ فبراير 2011، كان الحوثيون قد أكملوا سيطرتهم على محافظة صعدة، وتحولت ساحات المواجهات بينهم وبين خصومهم إلى محافظة عمران بشكل أساس، ومحافظات حجة والجوف وذمار. ومنذ بداية حروب محافظة عمران، كان الحوثيون ينفون مشاركتهم في الحرب كطرف رئيس، ويقولون بأنهم مجرد داعمين لرجال قبائل عمران الأحرار. أما الأطراف المقابلة لميليشيات الحوثي المسلحة، فرغم تعدّد هوياتهم (عسكريين، سلفيين، نشطاء حزبيين أو أنصار للتجمع اليمني للإصلاح)، فالغالبية العظمى منهم كانوا من رجال القبائل الشمالية عموماً وقبيلة حاشد بشكل خاص. وبالتالي فالحرب كانت بين أبناء قبائل حاشد، يقتل بعضهم بعضاً، والمستفيد هو الشيخ أو السيد. وهي حرب على مصالح سياسية واقتصادية واجتماعية وليست حرباً مذهبية (حتى اليوم على الأقل). فعلى الرغم من أن الشيخ حسين بن عبد الله الأحمر قادها في بدايتها تحت عنوان مذهبي، فظهر على التلفزيون يقول إن قبيلة حاشد السنية تخوض حرباً ضد الروافض الشيعة والمجوس، إلا أن اليمنيين جميعاً يعرفون بأن قبيلة حاشد ليست قبيلة سنية، بل هي قبيلة زيدية، وكانت توصف خلال فترة حكم الإمام يحيى وابنه الإمام أحمد بأنها أحد جناحَي الإمامة.