تصاعد النزاع خلال شهر رمضان هذا العام بين حركة أنصار الله (المعروفة شعبياً بجماعة الحوثي) والإخوان المسلمين (المكون الرئيس في التجمع اليمني للإصلاح)، حول إمامة بعض المساجد في العاصمة صنعاء. وتمثلت أبرز أحداثه وأكثرها حدة في النزاع حول جامع الريان بحي نُقُمْ، وجامع التيسير بحي الزراعة. وتصاعدت الحملات الإعلامية بين الطرفين، عبر القنوات الفضائية والصحف المحسوبة على كل منهما أو الموالية لهما، وفي وسائل التواصل الاجتماعي بين ناشطي الجماعتين، حيث يتهم نشطاء الإخوان المسلمين جماعة الحوثي بأنها جماعة مسلحة تريد الانقلاب على النظام الجمهوري، وإحياء النظام الإمامي، والاعتداء على المراكز والمؤسسات التابعة للتجمع اليمني للإصلاح، والعمالة لإيران، وسب الصحابة، ومنع صلاة التراويح في المساجد التي يسيطرون عليها، وممارسة العنف تجاه مخالفيهم من السنة في المناطق التي يسيطرون عليها، بينما يتهم الحوثيون خصومهم الإخوانيين بالتكفير، والمشاركة بشكل مباشر وغير مباشر في الحروب الست التي خاضها الجيش ضدهم في الفترة بين عامي 2004 و2006، والتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، والالتفاف على ثورة الشباب، والعمالة للسعودية. مع ذلك فإن هذه التهم المتبادلة بين الطرفين، على كثرتها، لا تفسر حالة العداء المستحكم بين الحركتين، التي ترجع إلى أسباب أكثر عمقاً.
استقطاب مذهبي
يقدم التجمع اليمني للإصلاح نفسه منذ تأسيسه عام 1991 باعتباره حركة سياسية ذات توجه إسلامي، لا تؤمن بالمذهبية. وبالمثل ينفي أنصار الله تهم المذهبية التي يلصقها بهم خصومهم. ففي ورقتهم المقدمة لمؤتمر الحوار الوطني حول قضية صعدة، أشاروا إلى أن مشروعهم «مشروع قرآني ذو طابع نهضوي إحيائي»، «متحرر من أي أطر مذهبية أو طائفية أو جهوية». مع ذلك تبين العلاقة بين الحركتين خلال السنوات الماضية أنهما ورثتا ثقافة النزاع المذهبي بين أكثر مذاهب السنة والشيعة تطرفاً، حيث تقاربت بعض الزيدية مع الجارودية والإثني عشرية، وتقارب بعض الشافعية والزيدية مع السلفية الوهابية، ما شكل بداية للتفريط بالتسامح المذهبي الذي عرفت به اليمن تاريخياً، حيث كانت الزيدية توصف بأنها شافعية الشيعة، وتوصف الشافعية بأنها شيعة السنة. وبات الإخوان المسلمون وأنصار الله يسعى كل منهما لأن يكون بديلاً عن الآخر، عوضاً عن أن يكون متعايشاً معه، أو منافساً له وفقاً لقواعد النظام الديموقراطي الحديث، وقيم الدولة المدنية، لا سيما في ظل تبني الحركتين أيديولوجيات واستراتيجيات تنظيمية وأساليب نشاط متماثلة. فالحركتان تتبنيان ايديولوجيا دينية، وتمارسان التعبئة والحشد على أساس الهوية، وتستخدمان المساجد ودور العبادة للتعبئة السياسية، وتوظفان شبكات الموالاة في التأطير التنظيمي، وتعتمدان مبدأ السمع والطاعة مبدأً حاكماً للعلاقات التنظيمية الداخلية، وتستخدمان وسائل الاتصال الفردي كالمحاضرات المسجلة على أشرطة الكاسيت والأقراص المدمجة، للوصول إلى الفئات الاجتماعية الأمية وشبه الأمية، وتتنافسان على قاعدة اجتماعية واحدة، تتمثل في أبناء المناطق القبلية، والفئات الاجتماعية الشعبية. لذلك ترى كل منهما أن أي مكسب سياسي أو انتشار تنظيمي للأخرى يأتي غالباً على حسابها. وقد تعززت روح التنافس والنزاع بين الحركتين بسبب ما يتوفر لهما من وسائل العنف المادي. فجماعة الحوثي تمتلك (كجماعة) ترسانة ضخمة من الأسلحة، بما في ذلك أسلحة متوسطة وثقيلة. وعلى الرغم من أن التجمع اليمني للإصلاح لا يمتلك (كحزب أو جماعة سياسية) أسلحة متوسطة وثقيلة، فإن شيوخ القبائل ورجال القبائل المنتمين للتجمع اليمني للإصلاح يمتلكون ترسانات ضخمة من الأسلحة، لا تقل كماً ونوعاً عن تلك التي تمتلكها جماعة الحوثي، وبإمكانه تعبئتها في حال الصراعات المسلحة. وقد حدث ذلك في النزاعات المسلحة بين الطرفين في بعض مديريات محافظات صنعاء والجوف وحجة وعمران، خلال عامي 2011 و 2012.
استقطاب قبلي وإقليمي
منذ ستينيات القرن العشرين، ارتبطت رموز التيارات الثلاثة التي أسست في ما بعد التجمع اليمني للإصلاح (وهم السلفيون، الإخوان المسلمون، وشيوخ القبائل) بعلاقات جيدة بالسعودية، لمواجهة التيارات السياسية والفكرية الحديثة (اليسارية والقومية)، وبهدف تحويل المناطق الشمالية الغربية من اليمن، التي ينتمي كثير من سكانها للمذهب الزيدي، من منطقة عبور ثقافي إلى منطقة عزل ثقافي تحول دون نقل أفكار التغيير الاجتماعي إلى سكان مناطق جيزان ونجران وعسير التي استقطعتها السعودية من اليمن عام 1934، وسكانها ينتمون الى المذهب الإسماعيلي. لذلك، وفي ضوء معطيات الخريطة المذهبية والاجتماعية والسياسية لليمن، انحصر التنافس والنزاع والصراع بين حركة أنصار الله (منذ تأسيسها) والتجمع اليمني للإصلاح، على المنطقة الشمالية والشمالية الغربية التي يتركز وجود جماعة أنصار الله فيها، والتي تشمل محافظات صعدة، عمران، الجوف، صنعاء، وحجة، فضلاً عن محافظات ذمار، مأرب والمحويت، التي من الممكن أن تحقق بعض التواجد فيها مستقبلاً. وهذه المحافظات الثماني هي المحافظات التي ينتمي معظم سكانها قبلياً لاتحادي حاشد وبكيل، ومذهبياً للمذهب الزيدي. أما المحافظات الاثنتا عشرة الأخرى، فسكانها ينتمون مذهبياً للشافعية، وقبلياً لاتحادات قبائل مذحج وحمير وحضرموت، فضلاً عن أمانة العاصمة التي يتوزع سكانها مذهبياً وقبلياً على مختلف المذاهب والقبائل.
وقد وظفت الحركتان التنافس القبلي والطموحات السياسية لشيوخ قبائل حاشد وبكيل لتحقيق مكاسب سياسية وتعبوية، سواء التنافس بين اتحادي قبائل حاشد وبكيل، أو التنافس بين البيوتات المشيخية في إطار كل قبيلة من قبائل هذين الاتحادين. فاستطاعت حركة الإخوان المسلمين كسب ولاء عدد من شيوخ قبائل حاشد وبكيل منذ ستينيات القرن العشرين، الذين نظروا إليها باعتبارها قناة لتحقيق طموحاتهم السياسية. ومع إحياء الهوية الزيدية في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، بات هؤلاء أقرب إلى السلفية أو الوهابية منهم إلى الزيدية التي كانوا ينتمون إليها. وخلال السنوات الماضية استغلت حركة أنصار الله الصراع بين قبيلة سفيان (البكيلية) وقبيلة العصيمات (الحاشدية) في محافظة عمران، فضلاً عن التنافس والنزاعات بين البيوت المشيخية في قبيلة سفيان ذاتها، لمد نفوذها في مديرية سفيان. وشَكّل ذلك بداية لتمدُّدها خارج معقلها الرئيس في محافظة صعدة.
تنافس على الغنائم والنفوذ
بعد اندلاع ثورة الحرية والتغيير في 11 شباط/ فبراير 2011، أعلنت حركة أنصار الله والتجمع اليمني للإصلاح عن انخراطهما في الثورة، والمطالبة بإسقاط النظام. ولم يبدأ التباين في مواقف الحركتين إلا بعد إعلان اللواء علي محسن الأحمر (قائد المنطقة الشمالية الشرقية والفرقة الأولى مدرع) والشيخ صادق بن عبد الله الأحمر (شيخ مشايخ حاشد) في 21 آذار/ مارس 2011 عن دعمهما للثورة وحماية الثوار. واتسعت فجوة الاختلاف في مواقف الحركتين بعد طرح مبادرة مجلس التعاون الخليجي والتوقيع عليها في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011. فجماعة أنصار الله تتهم اللواء علي محسن الأحمر والشيخ صادق الأحمر بالاضطلاع بدور رئيس في الحروب الست التي شنها النظام ضدها، وأنهما يسعيان لإفراغ الثورة من محتواها، والسعي إلى استغلال الثورة لتحقيق مكاسب حزبية للتجمع اليمني للإصلاح. وقد بدأت أول مواجهة بين الطرفين على غنائم النظام السابق في اليوم نفسه الذي أعلن فيه اللواء علي محسن والشيخ صادق الأحمر عن انضمامهما للثورة، حيث استولى رجال قبائل محسوبون على التجمع اليمني للإصلاح على اللواء 115 مشاة في محافظة الجوف، وعلى المجمع الحكومي ومعسكر الأمن المركزي بالمحافظة، وفي المقابل نَصَبَتْ جماعة الحوثي الشيخ فارس مناع محافظاً لمحافظة صعدة، بدلاً عن المحافظ طه هاجر، الذي غادر المحافظة في 24 آذار/ مارس 2011. وبذلك فرضت جماعة الحوثي سلطة أمر واقع على محافظة صعدة. وفي 11 ايلول/ سبتمبر 2012، عين الرئيس هادي محافظين (محسوبين على التجمع اليمني للإصلاح) لمحافظتي عمران والجوف، المُحاذيتين لمحافظة صعدة، ما أثار حفيظة جماعة أنصار الله، التي اعتبرت هذا التعيين (واعتبره آخرون) تحيزاً من الرئيس هادي ضدها وخدمة مجانية لخصومها، بهدف تطويق مركز نفوذها في محافظة صعدة، وكبحاً لتمددها وانتشارها في المحافظات المجاورة، ما دفعها إلى رفض هذا التعيين والانخراط في مواجهات مسلحة ضد نشطاء وأنصار التجمع اليمني للإصلاح في محافظة عمران في الأيام التالية، ومواجهات أخرى في محافظة حجة.
متطلبات المستقبل
ارتبطت حركة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها بعلاقات تحالف مع شيوخ القبائل الموالين للسعودية، ومع نظام علي عبد الله صالح منذ وصوله للسلطة في صنعاء عام 1978، ما مكنها من استغلال البنية التحتية للدولة لتحقيق مكاسب سياسية وإيديولوجية آنذاك. إلا ان هذه الاستراتيجية باتت عبئاً على الإخوان المسلمين، وكابحاً لتطورهم السياسي والتنظيمي بعد تشكل حركة أنصار الله، التي سعت منذ تأسيسها للبحث عن دعم مالي وفني وربما عسكري إيراني (رغم إنكارها ذلك) لمواجهة النفوذ والدعم السعودي لخصومها، ما مكنها من أن تقدم نفسها لكثير من أبناء القبائل باعتبارها المخلِّص لهم من القمع السياسي والاجتماعي الذي يمارسه النظام وحلفاؤه ضدهم، لا سيما أنها استطاعت فرض النظام في محافظة صعدة، فشكلت بديلاً عن الدولة وعن البنية القبلية. ويبدو (من تحليل ورقة التجمع اليمني للإصلاح بشأن قضية صعدة في مؤتمر الحوار الوطني) أن الإخوان المسلمين قد أدركوا مخاطر استمرار تحالفهم مع القوى التقليدية، مع ذلك ينبغي لهم أن يدركوا أيضاً أن تحالفهم مع القوى السلفية والوهابية وشيوخ القبائل المدعومين من السعودية، وعدم احترام التعددية الثقافية، هما المسؤولان عن دفع أنصار الله إلى البحث عن دعم إيراني لمواجهة هذا التحالف. في المقابل، على أنصار الله أن يدركوا أن استراتيجيتهم القائمة على الصراع على أساس الهوية، هي الأخرى قد بدأت في استنفاد ما يمكن أن تقدمه من خدمة لتطورهم، وأن حملات خصومهم التي تتهمهم بالسلالية والطائفية والمذهبية، والسعي لإحياء النظام الإمامي، سوف تنجح في المستقبل بتغيير تعاطف الرأي العام تجاههم، بما في ذلك تعاطف قوى الحداثة التي قيمت تشكل جماعة أنصار الله باعتباره خطوة مهمة باتجاه تكريس مجتمع تعددي، وبالتالي بناء نظام ديموقراطي حقيقي، فلا يمكن بناء نظام ديموقراطي في مجتمع أحادي الثقافة... لكن استمرار هذا التقويم الإيجابي مرهون بتوسيع نشاطها، وتحولها إلى حركة ناشطة على مستوى وطني، ومدافعه عن الديموقراطية وحقوق الإنسان لكل المواطنين، لا سيما في ظل ما اعتبره بعض هؤلاء تراجعاً في التوجهات الايديولوجية والفكرية لحركة أنصار الله، وتحولها بعد عشر سنوات من نشأتها من حركة مذهبية (زيدية) إلى حركة سلالية (هاشمية)، عبر فكرة الاصطفاء التي تم التأكيد عليها في الوثيقة الفكرية والثقافية للزيدية التي شاركت في صوغها والتوقيع عليها في 13 شباط/ فبراير 2012. لذلك فإن على جماعة أنصار الله في المستقبل أن تقدم نفسها لليمنيين باعتبارها حركة سياسية على مستوى الوطن، معتمدة على الدعم الشعبي الداخلي، إذا ما شاءت توفير ضمانة حقيقية لاستمرار قوتها السياسية، حتى لو تغيرت خارطة توزيع القوى الإقليمية. وبدون ذلك فلن يكون للحركة مستقبل سياسي.