بعكس القرن العشرين الذي قدّم لنا مروحة واسعة من الخيارات في مجال الايديولوجيات الاقتصادية، فإنّ القرن الواحد والعشرين، وفي غضون عقده الأول، صفّى جميع النماذج التي سبق وأُرسيَت حتى يومنا هذا. لقد تحوّلت التجربة الشيوعية إلى الشمولية، وهي لم تعد موجودة إلا في كوبا وكوريا الشمالية منذ انهيار جدار برلين. كما لم يعد للنيوليبرالية من مصداقية منذ أزمة العام 2008، وإنقاذ المصارف من خلال أموال المكلفين بالضرائب. حتى تيار الاشتراكية ـ الديموقراطية، فقد بدأ يسلم روحه نتيجة استدانة الدول وانخفاض قدراتها على إعادة توزيع الثروات. إننا في مواجهة أزمة في الفكر الاقتصادي العالمي، ربما تتيح للعالم العربي فرصة تطوير فكر اقتصادي خاص به، تكون متلائمة مع سياقه الخاص وظروفه وغاياته. ما هو هذا السياق الخاص وهذه الغايات؟
طريقان
الخاصية الرئيسية للعالم العربي هي هيمنة الاقتصاد الريعي عليه، أكان ريعاً نفطياً أو جيوبوليتيكياً أو ناتجاً عن الهجرة... وتبدو الخاصية الجوهرية الثانية، هي انعدام العدالة في الوصول إلى الثروات بين النخب السياسية ــ الاقتصادية وباقي فئات الشعب. لم يسمح وجود دول قوية بتقليص الفارق المتعاظم بين هاتين الشريحتين في المجتمعات العربية. على العكس من ذلك، فقد عزّز من سلطة النخب، مع الاهتمام في الوقت نفسه بالحفاظ على السلام الاجتماعي من خلال آليات دعم للأسعار، أو عبر خلق وظائف في القطاع العام ذات "هدف اجتماعي" (أي استيعاب اليد العاملة المتعلّمة). لقد كشف انفجار البطالة، خصوصاً في أوساط الشباب من حملة الشهادات، أنّ هذه الإدارة ذات المدى القصير، وهذه العملية القائمة على سدّ الثغرات، عاجزة عن أن تكون علاجاً لأمراض الاقتصادات العربية.
منذ اندلاع الثورات العربية، ظهر توافق على إعادة النظر بنموذج التنمية المعتمَد سابقاً. في المقابل، ليس هناك من إجماع على كيفيّة استبدال هذا النموذج. فمن جهة، يشدد النيوليبراليون على أننا لم نفعل الكفاية فيما يتعلق بفتح اقتصادياتنا، وأنّ الوصفات النيوليبرالية تمّ تشويهها، وأنّ الأنظمة القائمة لم تطبّق الاصلاحات الضرورية إلا جزئياً. ومن جهة ثانية، يلفت معارضو النظام النيوليبرالي إلى وجوب إعادة النظر بكل شيء، لكن من دون أن يقولوا لنا ما هي الاستراتيجية البديلة المتماسكة وذات المصداقية.
الملاحظة الأولى هي أن البلدان العربية التي عرفت ثورات، انخرطت في سياق استمرار الأنظمة السابقة على المستوى الاقتصادي، مع نتائج اقتصادية مخيّبة أكثر للآمال. على سبيل المثال، فإنّ الحكومات المتتالية في مصر أو تونس وجدت نفسها عاجزة عن تحديد مسار جديد، وأعطت الانطباع بأنها بمثابة سفينة من دون قبطان. وفي حين واجهت هذه الحكومات ضغوط قصر المرحلة المنقضية حتى الآن، فهي لم تفعل سوى التخفيف من الغضب الشعبي من خلال القيام بتوزيع أموال عامة زادت من العجز والدين العامَّين.
المبادئ الثلاثة الموجِّهة
وأيّ تحديد لسياسة اقتصادية، يفترض أن توجّهها ثلاثة مبادئ: الفعالية والإنصاف والسيادة. وينبغي الأخذ بهذه المبادئ في الاعتبار بشكل متزامن. بالنسبة للقرارات التي تتعارض وهذه الغايات، فيجدر إخضاعها للتحكيم، لكن من دون تعريض أي غاية من هذه الغايات للخطر لفترة طويلة.
ستُفرض على السلطات الجديدة مهمة الإعراب عن النيّة بالقطع مع السياسات السابقة، من خلال القيام بتغيير جذري للعلاقات السائدة بين الدولة وعالم الأعمال. لقد تميّزت هذه العلاقات حتى اليوم بالطابع الشخصي، بدل الإطار المؤسساتي الشفّاف الذي يفرض نفسه على الجميع. وقد دفع ذلك بالمستثمرين ورجال الأعمال إلى البحث بنشاط عن الفوز برعاية القيادة السياسية من أجل الاستحواذ على الريع، بدل الاستثمار في نشاطات إبداعية ومحفوفة بالمخاطر. هناك خياران ممكنان للوصول إلى هذه الغاية. الأول، وهو الذي تحمل لواءه المؤسسات المالية الدولية، ويقوم على تقليص دور الدولة لمنع الزبائنية ومحاباة الأقارب. يكمن عيب تلك المقاربة في أنها تحدّ من أدوات التحكم وتسمح مثلاً بتعزيز القطاعات الأكثر ربحية على حساب النمو، أو على حساب القطاعات التي تُعتبَر استراتيجيةً على صعيد السيادة الوطنية. أما الخيار الثاني، فيكمن في أن يكون لدينا دولة توجّه النشاط الاقتصادي وفق غاياتها في تحقيق التنمية. لكن المشكلة هنا تقع في ضمان نزاهة جهاز الإدارة والممسكين بزمام القرار السياسي.
معيار صالح للكشف عن نيات سلطات ما بعد الثورات
من شأن كيفية معالجة ملف رجال الأعمال الذين ازدهرت أعمالهم بفضل سخاء الأنظمة المتهاوية تجاههم، أن يشكّل إشارة قطع مع سياسات الماضي، أو بالعكس استمرارية لها. ففي حال تمّت معالجة هذه المسألة بشفافية كاملة، مهما كانت نتيجة ذلك، فإنّ الاقتصادات العربية ستكون قادرة على الإقلاع من جديد على أسس أسلَم. أما إذا قررت السلطات الجديدة توظيف عفوها عن رجال الاعمال الفاسدين مقابل موافقتهم على تغيير هوية راعيهم السياسي، فعندها نكون قد غيّرنا كل شيء ليبقى كل شيء على حاله! إنّ مأسسة العلاقات بين الدولة وعالم الأعمال، يسمح بالتقدم على أساسي الفعالية والانصاف في آن. لكن من أجل حصول ذلك، يفترض توفُّر إرادة سياسية قوية، وممارسة الضغط من قبل المواطنين، وتحديداً من قبل المستثمرين ورجال الأعمال المستثنين من شبكة الريع. في تركيا مثلاً، لم يكن ممكناً تطبيق إصلاحات مطلع أعوام الألفين، التي أدّت إلى نموّ مدعَّم طيلة عقد من الزمن، لو لم تظهر فئة جديدة من المستثمرين ورجال الأعمال دعمت السلطة الجديدة، حين تعارضت مشاريعها مع مصالح البورجوازية الريعية.
وتطهير القطاع المصرفي
إنّ مسألة تطهير القطاع المصرفي هي أساسية من ناحية كونها إشارةً إلى سلوك مسار جديد، وأيضاً من أجل إعادة إطلاق الاستثمارات على أسس جديدة. فقد شكّل الوصول إلى القروض المصرفية، المصدر الرئيسي لاغتناء الفاعلين الاقتصاديين، وللتمييز بينهم. وكان بعضهم يملك قدرة غير محدودة في الوصول إلى هذه القروض، بينما كانت توضع على آخرين شروط توفير ضمانات تعجيزية، تدفعهم إلى أحضان شركات الرهن leasing أو المرابين أو القطاع الاقتصادي الموازي. إنها أحد أسباب الازدواجية في اقتصادياتنا، بين من جهة المجموعات الكبرى التي وظّفت أموالها في جميع القطاعات (من دون توفّر منطق صناعي بالضرورة خلف ذلك)، مع استفادتها من قدرتها غير المشروطة على الوصول إلى القروض، ومن جهة ثانية، المؤسسات الصغيرة (التي غالباً لا تعمل في الاقتصاد الرسمي او المصرح عنه) والتي تجد صعوبات لتتطوّر، وينتهي جزء كبير منها الى الزوال عند وقوع أصغر أزمة.
ما هي السيادة؟
من ناحية أخرى، عاد النقاش حول السيادة إلى جدول الأعمال بشكل حيوي جداً، خصوصاً عند أصحاب الفكر الاقتصادي البديل. ويعود ذلك إلى السرعة الكبيرة في بيع بعض الحكومات العربية الانتقالية أملاكاً استعادتها من عائلات الديكتاتوريين، وأيضاً بسبب مشاريع بيع مواقع استراتيجية (استخراج معادن...) لقوى أجنبية، وبسبب عودة صندوق النقد الدولي بعد 25 عاماً الى برامج التصحيح الهيكلي. يفرض الحدّ الأدنى من السيادة الوطنية وضع خطوط حمراء بشكل جماعي يحظَر تجاوزها، كبيع الأراضي الزراعية إلى الأجانب، وأن يصبح الأمن الغذائي هدفاً حقيقياً وليس لفظياً وبلاغياً، من خلال تحديد استراتيجيات فعّالة، ووضع الوسائل المناسبة في خدمة ذلك. كما يجدر أن يشكّل الحفاظ على المديونية عند مستوى منطقي، أولويةً بالنسبة للحكام الجدد، وذلك لتفادي الوقوع في الوضع الذي تعيشه بعض الدول الأوروبية اليوم. لكن ذلك يعني أيضاً امتلاك الشجاعة للسيطرة على تطوُّر النفقات العامة غير الإنتاجية، وزيادة التكليفات الضريبية، مع السهر على أن يساهم جميع المعنيين وفق إمكاناتهم. هذه المسائل الرئيسية مُهملة اليوم حيث تطغى نزاعات فكرية/اجتماعية بين الاسلاميين ومعارضيهم، وهو ما يليه صراع شرس على السلطة.
دور للاقتصاديين العرب؟
لكن أين هم الاقتصاديون العرب من هذه النقاشات؟ الملاحظة الأولى تفيد بأنّ هناك مؤسسات وطنية قليلة في البلدان العربية، تمتلك القدرة على إحياء مثل هذه النقاشات، والشرعية الكافية لذلك. عادةً ما تكون الجامعات العربية مزوّدة بالقليل من الوسائل، والاقتصاد اختصاص لا يجذب النخبة مثلما تجتذبها دراسة الطب أو الهندسة والقانون والاختصاصات المالية. علاوةً على ذلك، فعلت السلطات المهيمنة كل ما هو ممكن من أجل فصل الاقتصاد عن السياسة، من خلال تحويله إلى اختصاص تقني لا يهدّد فعلياً مصالح الطبقة المحظيّة. كما أنّ استحالة الوصول إلى المعطيات البحثية الاقتصادية والاجتماعية المعلومات (المحجوبة لمصلحة عدد قليل جداً من الأشخاص، والسيطرة على المعطيات والمعلومات الفعلية واحدة من أبرز ادوات التحكم بالسلطة)، ساهمت بدورها في إبعاد الباحثين عن المواضع الأكثر أهمية، كتحليل انعدام المساواة، والبطالة، او تقنين الحصول على القروض. وينتج عن ذلك اليوم نقاش فقير نسبياً، يكتفي غالباً بالتعليق على الأرقام المنشورة من قبل المؤسسات الإحصائية، أو مشككاً في صحتها. ويبدو تطوير المؤسسات الاقتصادية المستقلة عن الحكومات، والتي تضمّ الباحثين وكذلك الفاعلين الاقتصاديين الاساسيين، أمراً له أهمية حاسمة اليوم.
على الاقتصاديين العرب أن يحرّروا أنفسهم من الوصايات النيوليبرالية أو تلك المعادية لليبرالية، وتحفيز التفكير والأعمال التجريبية معاً، والانفتاح على اختصاصات أخرى كالعلوم السياسية أو العلوم الاجتماعية، من أجل الإمساك بموضوع دراستهم بشكل أفضل. ذلك أنه لا يجب نسيان أن الاقتصاد هو قبل كل شيء، مسألة تتعلّق بالبشر.