لم يعد التونسيّون يريدون أن يعملوا! أصبحت هذه العبارة عقيدة يومية تتردّد على ألسنة العديد من المواطنين، ومدراء المؤسسات، والمستثمرين الزراعيين. أليست المقاهي الممتلئة بالزبائن طيلة النهار خير دليل على ذلك؟ ففي حين تبقى عشرات آلاف فرص العمل شاغرة، فإنّ ما يقارب خُمس القوى العاملة لا تزال عاطلة عن العمل. في النهاية، يمكن اعتبار تونس حالة تُدرَّس عن البطالة الطوعية التي نظّر لها عدد من الاقتصاديين الليبراليين...
بطالة طوعية؟
لا يصمد هذا التحليل التبسيطي طويلاً، حالما نتعاطى مع الوقائع بطريقة أكثر جدية. لقد تدنّت نسبة القوى العاملة التي لم تحصّل تعليماً ابتدائياً من 16 في المئة عام 2000، إلى 9 في المئة عام 2011. أما نسبة القوى العاملة التي حصّلت تعليماً ابتدائياً، فقد تدنّت من 41 في المئة عام 2000، إلى 33 في المئة عام 2011. وخلال الفترة ذاتها، زادت فئة حمَلَة الشهادات العليا من 9 في المئة إلى 19.5 في المئة. كل ذلك يعني أن خزّان العمّال تقلّص بشكل كبير، بالتزامن مع ارتفاع عدد الكوادر المهنية. هذا التطوّر يواكب التقدم وليس خاصيّة حصريّة بتونس. فقد أنجزت دولة كماليزيا تقدُّماً مماثلاً، لكن البطالة ظلّت تناهز 3 في المئة، لأنها نجحت في تحويل بنية اقتصادها لامتصاص حملَة الشهادات الجدُد، بعكس تونس والعديد من الدول العربية. لن نتوقف طويلاً عند هذا المظهر من الأمور، وهو جانب نال نصيبه الكبير من التعليقات منذ اندلاع الثورات العربية. بل نركز على الجانب الآخر من المسألة، وهو النقص في اليد العاملة. والقطاع الزراعي هو من بين القطاعات التي تسجّل صعوبة متزايدة في اجتذاب العمّال.
من يقطف الزيتون؟
في الفترة الأخيرة، ارتبك الرأي العام التونسي إزاء النقص في اليد العاملة بقطاف الزيتون، وخاصة أنّ المحصول وفير، وأنّ زيت الزيتون هو منتج رائد في تخفيض الخلل بالميزان التجاري على صعيد الزراعة التونسية. لماذا يعاني المزارعون إلى هذه الدرجة في العثور على عمّال موسميّين، رغم الأجور اليومية المرتفعة نسبياً في بعض الحالات؟ بالدرجة الأولى لأنّ هذا العمل يتطلب نشاطاً جسدياً مضنياً، ويُنظَر إليه بدونيّة اجتماعياً (تحديداً عندما يتعلّق الأمر بشخص حصل على شهادات أكاديمية)، والسبب الرئيسي في ذلك النقص هو أنّ العمل المعروض، موسميّ ولا يحظى بالحماية. في الواقع، وإن استثنينا المناطق الساحلية، حيث تحتاج الزراعة المرويّة إلى يد عاملة على امتداد أشهر السنة، فإنّ الوظائف الزراعية لا تتيح لأصحابها أن يعتاشوا منها كلّ السنة. وتزداد صحّة هذا الواقع في أعوام الجفاف. فضلاً عن ذلك، يبقى العمال الموسميون عمالاً غير رسميين، من دون مساعدات اجتماعية، وهو ما يجبرهم على العمل حتى سنّ متقدّم جداً.
استيراد عمال زراعيين؟
ما العمل إذاً لحلّ هذه المشكلة التي تشكّل عائقاً بشكل متزايد أمام تنمية الزراعة التونسية؟ تاريخياً، لجأت الدول إلى نوعين من الحلول. أولاً، الهجرة الوافدة للعمال الموسميين التونسيين إلى ايطاليا على سبيل المثال، والمغربيين إلى إسبانيا أو العمال السوريين إلى لبنان. وإن كان هذا الحلّ يبدو مغرياً بسبب الفروق في تكلفة اليد العاملة، فإنه يصعب تطبيقه على وضع تونس. فجيران تونس، الجزائريين والليبيين هم أنفسهم مستوردون لليد العاملة، بفضل الريع النفطي المتوفر عندهما. ويمكن لتونس استقدام عمال مغربيين أو صحراويين، غير أن تكلفة التنقّل قد تصبح باهظة بالنسبة لفترة قصيرة. يمكن أخذ العمالة المهاجرة في الاعتبار بالنسبة للعمّال الدائمين، لكنها تطرح مشاكل أخرى يجب الاستعداد لمواجهتها قبل اتخاذ القرار بالسير بهذا الخيار. لدى التونسيين خبرة طويلة مع الهجرة، بالتالي فهم يدركون جيداً إيجابياتها وسلبياتها.
أم المكننة؟
أما الحلّ الآخر المعتمَد خصوصاً في الدول المتطورة، فهو المكننة. المكننة هي التي سمحت بزيادة المحصول الزراعي بشكل ملحوظ. غير أنّه لا يمكن تطبيق المكننة إلا على الاستثمارات الزراعية الكبرى، بينما المشاريع الزراعية في تونس غالباً ما تكون مجزّأة، والعديد منها مُقام على أراضٍ يصعب استخدام الآلة عليها. في المقابل، وعلى عكس حال الدول المتقدمة، فإنّ موارد السياسة الزراعية في تونس محدودة، وبالتالي يتعين استيراد جميع هذه الآلات من الخارج، وهو ما سيؤدّي إلى رفع الأسعار بالنسبة للمزارعين والاقتصاد عموماً.
هناك حلول أخرى
يمكن اقتراح حلين آخرين خلاَّقين ومكمّلين: الأول يقوم على توزيع جزء من المزارع الزراعية التي تملكها الدولة ــ والتي كانت في معظمها بين أيدي العائلات الممسكة بالسلطة، والتي كانت تستخدمها كمنتجعات للنقاهة ــ على الفلاحين المحرومين من الأرض. بهذه الطريقة، سيكون لكل فلاح قطعة صغيرة من الأرض، وسيكون بإمكان الدولة تشجيع قيام إدارة تعاونية لهذه المشاريع. ومن خلال تحصيل الفلاح حدّاً أدنى من المدخول لقاء استغلال هذه القطعة من الأرض، سيكون بإمكانه زيادة دخله عن طريق القيام بنشاطات زراعية موسمية (وتعدُّد النشاطات الزراعية أمر رائج في الأوساط الريفية).
أما الحلّ الثاني، فيقوم على حثّ القيّمين على القطاع الخاص على تأسيس شركات وسطية بين العرض والطلب بالنسبة للعمّال الزراعيين الموسميّين، الذين من شأنهم أن يصبحوا عمالاً رسميّين مع ضمان حماية اجتماعية لهم. وبإمكان الدولة تشجيع مثل هذا النشاط عبر دفع الحوافز المالية للعمال الموسميين الذين يعملون أكثر. يجدر أيضاً إيلاء اهتمام أكثر للفترات الزمنية التي تشهد ذروة النشاطات الموسمية، من خلال الحدّ مثلاً من التوظيفات في ورش الأشغال العامّة في المناطق الريفية خلال المواسم الزراعية.
بالتأكيد، هناك حلول أخرى مثيرة للاهتمام. ما يسجل الحاجة لاستكمال النقاش حول هذه المسألة، ولدفع السكان المعنيين إلى الانخراط فيها، بالإضافة إلى المتخصّصين بالعالم الريفي الذين يعملون ميدانياً، ويعرفون جيداً الواقع اليومي والعوائق التي تواجه المزارعين والعمال.