التظاهرات العراقية.. مشاهدات حيّة

هذا جيل ناشئ يكاد يخلو من عقد الماضي، قريباً كان أم بعيداً، جيلٌ يحمل همّ المستقبل متذوقاً مرارة الحاضر، مجبولاً بوعي الرفض لا الخنوع، وهو صنع بالاحتجاج أملاً جديداً لشعب غادره أمل العيش الكريم، واستقبل الرصاص نيابةً عن المسحوقين، ليتنفس شعور الوطنية القديم من جديد.
2019-10-10

ليث ناطق

إعلامي من العراق


شارك

يدفع الممرض مصطفى العبيدي السدية في الممر المزدحم بأقصى سرعة ممكنة، متوجها نحو غرفة العمليات في مدينة الطب في العاصمة العراقية بغداد، صارخاً بالناس ليفسحوا المجال بسبب خطورة حالة المصاب. يعيد المصاب، وليد، ناظريه نحو مصطفى، قائلا "على كيفك على كيفك، فدوة للعراق" (أي مهلاً مهلاً كرمى للعراق) في محاولة عجيبة لتهدئة خوف وحماس الممرض.

كان وليد قد رفض نزع قميصه وأصرّ على إجراء عملية رتق جرحه الذي اخترق بطنه مرتدياًإياه. يقول مصطفى: "لفت هذا المصاب أنظارنا لحظة إدخاله على الرغم من العدد الكبير الذي يملئ ردهة الطوارئ، بسبب ارتدائه علم العراق".

ينفث مصطفى دخان سيجارته ويستكمل حديثه عن حالة أُخرى هذه المرة: "كان يافعاً لا يتجاوز عمره عشرين عاماً، لاحظنا عليه إصابتين بالرصاص، واحدة في الصدر وأُخرى في الساق ولم يكن فاقداً وعيه". قام مصطفى وزميل له بإسعافه. وأثناء ذلك قلبوه ليتفحصوا قفاه فإذا بثالثة أقل خطورة في ظهره. قال حين نبّهه الممرض إليها "إنها قديمة، أصابتني أثناء تظاهرة أمس"، ليتضح أنه عاد مع جرحه الأول في اليوم الذي بعده للاحتجاج والمطالبة بالحقوق.

مشاهد كثيرة يستغرق مصطفى في سردها، جميعها وقعت في سبعة أيام من التظاهرات التي تفجّرت ظهيرة الأول من تشرين الاول / أكتوبر الجاري في ساحة التحرير وسط بغداد للمطالبة بتحسين الواقع الخدمي وتوفير وظائف وإصلاح النظام السياسي.

شباب العالم المنسي

ليست كسابقاتها من التظاهرات. لم يتأخر هذه المرة رد السلطات العنيف، فقوبلت لحظة انطلاقها بالرصاص وخراطيم المياه الساخن والهراوات وقنابل الغاز المسيل للدموععلى الرغم من سلميتها المطلقة، الشيء الذي يفضح خشية رئيس الوزراء ومحيطه من إفلات ما يعتبرونه "الفرصة الأخيرة"، وتسرّب المكاسب غير القابلة للحصر من مقابضهم.

في المقابل كان لهذا العنف دورٌ في استنهاض عاطفة الناس وغضبهم، فتضاعفت أعداد المتظاهرين في اليوم التالي، وتوسعت رقعة هتافاتهم إلى حد "الشعب يريد إسقاط النظام"،وتطورت أيضا وسائل القمع وتضاعف الرصاص، جالباً معه الموت.

اشتدت التظاهرة مرة أخرى بعد خطاب رئيس الوزراء المخيِّب، الذي حذّر فيه قائلاً "إننا أمام خيارَي الدولة واللا دولة"، لتثبت أحداث الجمعة التي تلت الخطاب أن اللا دولة ترتدي ثوب الدولة وتعامل الناس على طريقة العصابات...

في غفلة من قراءات وتنظيرات النخبة، تم التحشيد للتظاهرة في عالم موازٍ لا يغري باستكشافه، عالم الشباب والمراهقين الذي تدور اهتماماته في فلك لعبة "ببجي" والأغاني الهابطة، وبدوافع الافتقار للحياة الكريمة وانعدام العدالة الإجتماعية، وبفتيل إحالة القائد البارز في جهاز مكافحة الإرهاب "عبد الوهاب الساعدي"، والذي يتمتع بمكانة شعبية عالية، إلى دائرة الإمرة في وزارة الدفاع، وقمع اعتصام أصحاب الشهادات العليا المهين، والذي كان يطالب هو الآخر بفرص عمل واحترام لمكانتهم.

كذلك كانت طبيعة المتظاهرين: شباب يافعون ينحدر أغلبُهم من مناطق شعبية فقيرة تنعدم فيها الخدمات، ولد أو نشأ  أكثرُهم بعد الإجتياح الأمريكي لبغداد 2003، يدفعهم انعدام الأمل لخلق أمل جديد بأيديهم.

نفاد تأثير الوعود

بالإضافة للقمع الوحشي، استخدم المسؤولون أداةً قديمةً أُخرى لامتصاص الغضب والإصرار الجماهيريين يتمثل بالوعود،حين انتظر الشعب والمجتمعُ الدولي خطاباً كان يتوقع أن يخرج خلاله رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الاستقالة التي تبيت في جيبه منذ توليه رئاسة الوزراء، ليظهر في ساعة مبكرة من فجر الجمعة 3 تشرين الاول/ أكتوبر وبعد خميس راح فيه ما لا يقل عن 30 قتيلاً، متهماً "مندسين" بالتخريب والمتظاهرين برفع شعارات "غير مقبولة" وملوّحاً بإصلاحات وواعداً بتوزيع أراضٍ سكنية ورواتب على العوائل الفقيرة. ولم ينس عبد المهدي في خطابه ذكْرَ ذرائع الخراب الذي يصيب الحكومة والمنظومة السياسية، ولم يفته أيضا التعريج على مكسب "الديمقراطية" الذي تتذرع به الطبقة السياسية وتدعي مراراً صنعها له وتشدد على ضرورة الحفاظ عليه.. الخدعة التي بددها الرصاص الذي استقر في صدور ورؤوس المتظاهرين العزّل.

أصبح صعباً على وسائل الإعلام المحلية والأجنبية تغطية التظاهرات ومتابعة أحداثها وتوثيقها، فأخذ شبان متظاهرون على عاتقهم مهمة توثيق أحداث التظاهرات التي أصبح الإصرار هوية لها على الرغم من قسوة العنف.

كان ناشطو التظاهرة من الصحافيين يجتمعون في مقاهي منطقة الكرادة في بغداد لتبادل المقاطع المصورة بهدف نشرها وإطلاع العالم الخارجي على حقيقة ما يحدث في العراق الذي تحوّل الى سجن كبير.

وألحق زعيم التيار الصدري، رجل الدين مقتدى الصدر، موقف عبد المهدي هذا بمطالبة باستقالة الحكومة والتوجه نحو انتخابات مبكرة بإشراف أُممي، ثم جاء موقف المرجعية الدينية الشيعية المتمثلة بالسيد علي السيستاني الذي استنكر من خلال وكيلِه أحمد الصافي في خطبة الجمعة العنف الذي تعرض له المتظاهرون وطالب بالإصلاح.

صناعة القضبان

سبق ذلك كله إجراءات أمنية ينقصها فقط عنوان "حالة الطوارئ". فقد فرضت السلطة حظراً للتجوال وأوقفت خدمة الإنترنت تماما في العراق (عدا إقليم كردستان)، وتلقت وسائل الإعلام التي غطت التظاهرة بحذر تهديداتٍ من جهات مجهولة وتم إغلاق بعضها بالقوة في وقت كانت تحاول وسائل إعلام أخرى، قريبة من الطبقة الحاكمة أو مملوكة لشخصياتها، رسم صورة بعيدة عن الواقع وتصوير الوضع على أنه طبيعي واتهام المتظاهرين بالتخريب. اشتدت التظاهرة مرة أخرى بعد خطاب رئيس الوزراء المخيّب الذي حذر فيه قائلاً "إننا أمام خيارَي الدولة واللا دولة"، لتثبت أحداث الجمعة التي تلت الخطاب أن اللا دولة ترتدي ثوب الدولة وتعامل الناس على طريقة العصابات...

مقالات ذات صلة

كانت ساحة التحرير مقصداً بعيد المنال للمتظاهرين بعد أن وُضعت الكتل الكونكريتية الشاهقة في طريقهم إلى الساحة وبعد أن تضاعفت قسوة أجهزة الأمن أو الأجهزة التي كان أفرادها يرافقون أجهزة الأمن وويرتدون لباسهم الرسمي. واستمر حظر التجوال في محاولة لشل حركة الناس ومنعهم من الوصول إلى مركز التظاهرة في قلب العاصمة، فباغتَ هؤلاء السلطة بتظاهرات متفرقة قرب مناطق سكناهم، كان أشدها تلك التي شهدتها منطقة الزعفرانية جنوب شرق العاصمة، والأخرى التي صنعها شبابُ منطقة الحسينية شمال شرق بغداد، بالإضافة لتضخم تظاهرات المحافظات وخصوصاً تظاهرتا محافظتَي ذي قار والديوانية. وأصبح صعباً على وسائل الإعلام المحلية والأجنبية تغطية التظاهرات ومتابعة أحداثها وتوثيقها، فأخذ شبان متظاهرون على عاتقهم مهمة توثيق أحداث التظاهرات التي اصبح الإصرار هوية لها على الرغم من العنف والقسوة...

من بين من جندوا أنفسهم لهذه المهمة، شابان كانا يبدآن يومهما على ظهر دراجة نارية صغيرة يراوغان بها الرصاص ويخترقان الغازات المسيلة للدموع ويسجلان على الهواتف مشاهد القتل والقمع، وينهيانه بتوزيع المقاطع على وسائل الإعلام والناشطين بتغطية التظاهرات. كان ناشطو التظاهرة من الصحافيين يجتمعون في مقاهي منطقة الكرادة في بغداد لتبادل المقاطع المصورة بهدف نشرها وإطلاع العالم الخارجي على حقيقة ما يحدث في العراق الذي تحوّل الى سجن كبير بفعل ممارسات وإجرءآت السلطات، والحذر يقود خطاهم نتيجة الإنتشار الأمني غير المسبوق والذي صار يلاحق الجميع.

القتل بذريعة المؤامرة

في وقت تكررت فيه مواقف السلطات الواعدة بالإصلاح وتوفير الخدمات وفرص العمل، دون ذكر كيفية تحقيق ذلك خصوصاً مع عجز سنوي يصيب الموازنة العراقية لا يقل عن 20 مليار دولار حسب خبراء وتوقعات بركود سيصيب الأسواق العالمية العام المقبل وهبوط في أسعار النفط لما دون 50 دولاراً للبرميل الواحد،وهو –النفط - يمثل أكثر من 90 في المئة من واردات الخزينة في العراق.

قال أحدالمسعفين في مستشفى الكندي في بغداد، أن شباناً جاؤوا بمصابين، فتبعهم عناصر أمن بهدف احتجازهم، ولم يكن هناك من مهرب سوى الموت.. أو التظاهر به، فقام كادر المستشفى بتخبأتهم في ثلاجات الأموات لحين مغادرة العناصر الأمنية.

وفي زحمة الخطابات التي توّجَها رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض بموقف مخيّب آخر حين تحدث الإثنين 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بعد عودته من زيارة إلى واشنطن، عن كشفه ورفاقه أهداف مؤامرة التظاهرات، وتوعّد "المتآمرين" بالقصاص والملاحقة،كانت هناك اعترافات ضمنية بوجود قوة حملت السلاح واستهدفت المتظاهرين وقتلتهم، أو وجود عصيان للأوامر العسكرية وارتجال قاتلٍ استمر اسبوعاً كاملاً وخلّف أكثر من 100 قتيل ونحو 7000 جريح. وهذا ما أشار إليه رئيس الجمهورية برهم صالح في كلمة ألقاها على الشعب العراقي الإثنين أيضاً، حين ذكر تأكيد الحكومة والقيادات الأمنية والعسكرية عدم إصدارهم أية أوامر باستخدام الرصاص.

في خضم مواقف السياسيين هذه، كانت التظاهرات في بغداد تعود، بفعل الرصاص والقنابل الغازية، من المناطق القريبة لساحة التحرير نحو مدينة الصدر/الثورة شرقي بغداد، لتكون مركزاً جديداً للتظاهر والاختناق بالغازات والموت.

المضي نحو الحياة

حين كانت شوارع ودرابين (أزقة) التظاهر جحيماً مستعراً برصاص القناصة،كان هناك شباب يحاولون الوصول إليها غير مؤمنين بالوعود والخطابات الحكومية، يحاولون التقدم ويتساقطون قتلى وجرحى. ومن لا تستطيع سيارات الإسعاف إنجاده، تتولى عربات "التُكتُك" تلك المهمة، حتى أصبحوا هدفاً لأجهزة الأمن، يصطادونهم عند أبواب المستشفيات. وفي مشهدٍ ينقله أحد المسعفين في مستشفى الكندي في بغداد، أن شباناً جاؤوا بمصابين، فتبعهم عناصر أمن بهدف احتجازهم، ولم يكن هناك مهرب سوى الموت، أو التظاهر به، فقام كادر المستشفى بتخبأتهم في ثلاجات الأموات لحين مغادرة العناصر الأمنية.

مقالات ذات صلة

لم يتجرأ أحد من المسؤولين العالقين بنظرية المؤامرة على شرح كيفية اعتبار الطفل الذي كان يحاول إنجاد صديقه المصاب وسط شارع مول النخيل المؤدي الى التحرير فاخترقت رأسه رصاصة قناص.. لم يتجرأ أحد على شرح كيفية اعتباره مندساً ليتم قتله بهذه الطريقة الوحشية. لكنهم، جميعهم، أبعدوا تهمة القنص بالاندساس، وتبرؤوا من العنف بالاندساس أيضاً.

ما لم تُعِره خطابات المسؤولين أهميةً، ولم ترصده ملاحظة المحللين، هو نشوء جيل يكاد يخلو من عقد الماضي، قريباً كان أم بعيداً، جيل يحمل همّ المستقبل متذوقاً مرارة الحاضر،نشأ محملاً بوعي الرفض لا الخنوع، قدم درساً مجانياً للأجيال التي سبقته، وصنع بالاحتجاج أملاً جديداً لشعب غادره أملُ العيش الكريم، واستقبل، نيابةً عن المسحوقين، الرصاص واستنشق دخان الغازات القمعية، ليتنفس شعورُ الوطنية القديم من جديد.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

"اللا حياة" العراقية.. التجهيل الذي يحوّل كورونا إلى خرافة مميتة

ليث ناطق 2021-06-10

لماذا يغيب الوعي الصحي عن المجتمع العراقي؟ الإجابةً تستدعي مجموعةً أخرى من الأسئلة: لماذا يتراجع مستوى الرعاية الصحية، وتتردى الصحة العمومية؟ أين المستشفيات والمراكز الصحية الصالحة؟ كيف يسكن العراقي ويشرب،...