لطالما اعتُبرت تونس نموذجاً يجدر الاقتداء به من قبل الدول العربية غير النفطية. فمع اتباعه الوصفات المعيارية لمؤسسات «بريتن وودز»، حافظ النظام التونسي على هامش من المناورة لتفادي إغضاب الجماهير. ومنذ «ثورة الخبز» في كانون الثاني/يناير 1984، راحت وزارة التجارة تؤدي دوراً مركزياً لتأمين استقرار الأسعار والتموين بالمواد الغذائية الأساسية.
ورغم أن هذا النموذج كان يوفر معدّل نمو يصل الى 5 في المئة، فقد ظهرت محدوديّته فور وصول أفواج جيل الثمانينات إلى سوق العمل، وهم حائزون على مستوى تعليمي أرفع من أفراد الجيل السابق. سلّطت هذه المحدودية الضوء على الضعف الرئيسي للنموذج التونسي: تخصُّص مبني على المنتوجات ذات الكلفة المنخفضة لجهة اليد العاملة. وقد ظلّت ممارسة هذا التخصُّص متماسكة في أعوام السبعينات، نظراً للمستوى التعليمي المنخفض للسكان، والأفضليات المعقودة مع أوروبا، قبل أن تصبح هذه الافضليات بلا أي معنى في كوكب معولَم، تواجه فيه تونس منافسين كبنغلادش والصين أو فيتنام. من هنا، فإنّ نسبة البطالة المرتفعة بين حَمَلة الشهادات (40 في المئة) كانت معادلةً لتراكُم الإحباط. وهو مثل نهاية حلم الترقّي الاجتماعي، الذي كان فعلياً بعد الاستقلال. حاول النظام سدّ الفجوة عبر اعتماد المزيد من الوسائل السياسية الحيوية التي تتعلق بسوق العمل (وخصوصاً عبر تطبيق برامج تدريب ممولة من الدولة، وبرامج قروض صغيرة للشباب)، لكن أثر هذه البرامج ظلّ محدوداً، تحديداً لجهة خلق وظائف ثابتة.
ازدادت فداحة هذه المشكلة عبر ضعف نسبة الاستثمار(23 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي) بداعي الانعدام المتزايد لأمن حقوق الملكية، بسبب جشع العائلات الحاكمة. أدت ضحالة نوعية الاستثمارات أيضاً دوراً في ذلك، بما أنّ حصّة نشاطات الريوع النقدية والمضاربات العقارية كانت تزداد باستمرار. وقد تمّ تشجيع هذه النشاطات عبر سياسات ضريبية ازداد تكيفها معها بشكل مضطرد.
وشكلت الأزمة المالية العالمية، في أوروبا على وجه التحديد، وهي الشريك الاقتصادي الرئيسي لتونس، (75 في المئة من صادرات تونس) رصاصة الرحمة لهذا النظام الذي كانت أسسه تزداد تعثراً.
بعد الثورة، تقلّص النشاط الاقتصادي في البلاد، وتحديداً في القطاعات الأكثر تأثُّراً بالوضع السياسي، كالسياحة (انخفاض بنسبة 50 في المئة في عدد الزوار في العام 2011) . وقد فاقم النزاع في ليبيا بشكل كبير هذه الظاهرة. في المقابل، انطلقت حركة مطالبة برفع الرواتب في جميع القطاعات، بعضها كان مشروعاً، والأخرى كان مبالَغاً بها، خصوصاً في القطاع العام. وقد أدى انعدام اليقين فيما يتعلق بالمستقبل السياسي للبلاد إلى عدم تشجيع عودة الاستثمار المحلّي والأجنبي للانطلاق. ثم بلغت بطالة الشباب مستويات من شأنها تهديد المسار السياسي برمّته. ولمواجهة ذلك، تمّ وضع برنامج «أمل» موضع التنفيد، وهو يهدف إلى تشغيل العاطلين منذ فترات طويلة عن العمل من الشباب. وقد أدّى الدعم المالي للعاطلين عن العمل إلى جذب مشاركة كثيفة جداً في المشروع. والتأثير الوحيد على الأرجح لهذا البرنامج هو شراء السلْم الاجتماعي، مثله في ذلك مثل «الصندوق العام للتعويضات»، وكذلك المساعدات المتزايدة من وزارة الشؤون الاجتماعية، وصناديق وبرامج التشغيل التي كان يطبقها النظام السابق. وهذا تدبر فحسب للثغرات.
ولكن السؤال الفعلي هو: لماذا علينا سدّ الثغرات دائماً؟ إلى متى سنبقى نستخف بالمستقبل؟
من وجهة نظر اقتصادية، كانت الحملات الانتخابية التي جرت في الخريف الماضي مريعة، وينطبق ذلك على كافة الأطراف، تلك المنتصرة أو الخاسرة على السواء. فقد سمح التشديد على الفساد والمحسوبيات بإغفال قضايا جذرية أخرى. صحيح أنّ الكسب غير المشروع أفسد النظام، إلا أن مجرد زوال هذا النظام لا يؤدي تلقائياً إلى أداء اقتصادي مميز. وبجميع الحالات، فمَن يضمن أن اختفاء العائلة الحاكمة سيكون كافياً لتطهير أجواء عالم الأعمال والصفقات؟ هل ستتغير قواعد اللعبة؟
الاقتصاد الريعي هو المرض الحقيقي للدول العربية. والريع قائم حتى في البلدان غير النفطية. لماذا سيُقْدِم المقاولون على تحمُّل مخاطر الاستثمار في نشاطات جديدة ذات إنتاجية أعلى، في الوقت الذي تضمن الدولة للبعض مواقع مهيمِنة في نشاطات تحمل القليل من المخاطر، كقطاعات البناء أو الهاتف الخلوي؟ولن يكون المستثمرون الكوريون الذين يجترحون المعجزات هذه الأيام، أكثر شجاعةً أو وطنية من رجال الأعمال التونسيين. وبالتأكيد، نال الاوائل حوافز أفضل (في أمكنة أخرى).
من هنا، أصبح تطوير سياسات تشجّع قطاع الصناعة أمراً ملحاً، رغم أنه ليس لهذه السياسات أثر فوري. بإمكان قطاع الخدمات أن يوفر وظائف ذات مستويات عالية لأصحاب المؤهلات. غير أنّ قدرة هذا القطاع على خلق فرص عمل تبقى محدودة. وبالمحصلة، وحدها «الصناعة المانيفكتورية» قادرة على خلق وظائف ثابتة لفئة مهمة من السكان. وفي الحالتين، من المناسب تطوير سياسات تصنيعية محددة، والسهر على تناسقها مع السياسات الأخرى.
وكذلك، فمنذ الأزمة الغذائية للعام 2008 والارتفاع الكبير في أسعار المنتوجات الزراعية، اصبح للزراعة فرصة تاريخية لكي تعود نشاطاً مربحاً. يمكن الوصول إلى حالة الأمن الغذائي من دون صرف المليارات من الدعم الحكومي بالضرورة، على صورة الدول التي طوّرت زراعاتها خلال العقود الماضية. إن الاستثمار في القطاع الزراعي يحمل أيضاً حافز التخفيض من حدّة انعدام المساواة على الصعيد الجهوي في تونس، بما أن المناطق الأكثر فقراً هي تلك الريفية بشكل أساسي، وتعيش على زراعة ذات مردودية منخفضة جداً. في المقابل، يجب أن تكون سياسات الدعم هادفة لتفادي حصول الاستثمارات الزراعية الكبيرة على الافضلية، مثلما هو حاصل في أوروبا.
النقاش حول توزيع المداخيل يبقى محصوراً بشكل أساسي في إطاره المناطقي منذ الثورة. وإذ انطلقت الثورة من الجهات التونسية الداخلية الأكثر فقراً، فإنّ توافقاً حصل (على الأقل في الخطاب) لتضييق الفجوة الموجودة بين المناطق الداخلية الفقيرة والمناطق الساحلية. كيف يحصل ذلك؟ وبأية موارد؟ كما أن الفوارق الاجتماعية الموجودة داخل كل منطقة من المناطق التونسية نفسها ليست أقل حدة بالضرورة من تلك الموجودة بين المناطق. وتترجم هذه الفوارق ليس على صعيد المداخيل والثروات فحسب، لكن أيضاً في نوعية التعليم والصحة، ما يعني أن آفاق الترقٍّي الاجتماعي المستقبلي أضعف.
هناك مسألة مغيَّبة عن النقاش في تونس، وهي قضية الاصلاح الضريبي، رغم أنّ تقليص الفوارق الاجتماعية لا يمكن أن يحصل من دون إصلاح ضريبي، وهو ما يُظهره التاريخ الاقتصادي للقرنين الماضيين. في المقابل، تفتقر الدولة التونسية للموارد، التي لن توفرها لا الممالك والامارات النفطية (رغم ضعف الآمال بحصول ذلك!)، ولا الدول الغربية الغارقة في الأزمة. اليوم، تُجبى الضرائب بشكل أساسي من الأُجراء (ضريبة الدخل)، والمستهلكين (الضريبة على القيمة المضافة)، في حين تبقى فئات وقطاعات كاملة معفيّة من الضرائب بموجب القانون أو الأمر الواقع. الضرائب على الارث ضعيفة في تونس، كذلك فقد تمّ تخفيض الضرائب على الأملاك والعقارات بشكل كبير على يد النظام السابق. وسيحقق فرض ضرائب على المضاربات العقارية ثلاثة أهداف، وهي: تأمين موارد مالية للدولة، ووقف الفقاعة العقارية، وتحفيز الفاعلين الاقتصاديين على الاستثمار في قطاعات أخرى أقل ربحيّة على المدى القصير، لكنها تسمح بزيادة إمكانية نموّ البلاد على الأمد الطويل.
سيطرأ تغيير حقيقي متى ما أصبحت موازين القوى تميل إلى مثل هذا التغيير، وهو ما ليس متوفراً اليوم. مَن هي القوى الرئيسية في تونس حالياً؟ أولاً، رؤساء الشركات والتكتلات الكبرى غير المتجانسة من ناحية علاقاتها بالنظام السابق. سيكون الحفاظ على الوضع القائم في إدارة الأعمال الاقتصادية للبلاد مناسباً لهؤلاء، أي الحفاظ على فوائد النظام السابق من دون سلبياته. حتى المقربون من النظام السابق سيزدهرون في نظام مماثل بفضل الثروات المكدسة. بالتأكيد، سيكون المقاولون الشباب أكثر حماسة إزاء نظام أقل محافَظة. بدوره، فإنّ «الاتحاد العام التونسي للشغل»، النقابة التاريخية، هو الآخر أيضاً كتلة غير متجانسة. لقد انخرطت بناه المناطقية او الجهوية بشكل فاعل جداً في الثورة، وهي تطالب غالباً بتغيير عميق. ولكن التوجه الاقتصادي والاجتماعي لادارته الجديدة لم يتضح بعد بشكل جليّ. أما فيما يتعلق بالأحزاب السياسية، فهي لا تزال تناقش بشكل رئيسي المواضيع المتعلقة بمكانة الدين في الدولة!! وقد وعدت هذه الأحزاب بتحقيق نسب نموّ مرتفعة وبخلق مئات الآلاف من الوظائف قبل الانتخابات. ولكن، بعد الانتخابات، عاد الفائزون إلى «الواقعية» و«تعقيدات الظروف»، بينما يعتبر الخاسرون أن الأمر يتعلق حصراً بالأهلية، وليس بنموذج اقتصادي يجب إعادة النظر فيه.
على تونس اعتماد سياسة اقتصادية واضحة مع حوافز تهدف لتشجيع الابتكار، وذلك لتوجيه المستثمرين المحليين والأجانب بشكل أفضل نحو النشاطات الأكثر إنتاجيةً. في هذا الاطار، يبقى إصلاح التعليم العالي ونظام الأبحاث مهمة ملحة. وكذلك، فإنّ استفادةً أفضل من المواطنين التونسيين، من بينهم المهاجرون (لا تتجاوز تحويلاتهم 5 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي)، على شاكلة ما تفعله الهند أو تركيا، من شأنها إعطاء دفعة قوية لصناعة الأفكار.
كما أنه على الدولة أن تقرر بشكل حاسم اعتماد الشفافية في النقاشات الاقتصادية والاجتماعية، وتشجيع تأسيس مؤسسات الاحصاءات والأبحاث الاقتصادية ذات المصداقية، والمستقلة عن السلطة السياسية، لكي تلعب دوراً حقيقياً في تقرير السياسات الفعالة والعادلة. يجب الخروج من عقلية دائرة الدولة ــ الخبراء المغلقة، فهي أثبتت عدم فعاليتها في الماضي. إنّ غياب تبني الدراسات من قبل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين يجعل منها غير مجدية بأحسن الأحوال. ومن شأن تغيير مماثل أن يُظهر وجود إرادة فعلية بالقطيعة مع ممارسات الماضي، وقبولاً بالمساءلة تجاه المواطنين. ولكن، وحتى اللحظة، فلا يبدو أنّ هناك فاعلاً سياسياً رئيسياً واحداً قد تبنّى هذا المشروع.
*********************
بعض الأرقام
نسب القطاعات من الناتج المحلي الإجمالي: الزراعة/الصيد 8,3 في المئة،
الصناعة المانيفكتورية 15,4 في المئة، الصناعات غير المانيفاكتورية 11,5 في
المئة، الخدمات 63,9 في المئة، (ومنها الخدمات التجارية 47,9 في المئة).