تبدو مختلفة. هكذا يمكن وصف ما ظهر من الموازنة العامة المصرية للعام المالي 2014 2015. فمن ناحية، تبدو الموازنة العامة قد تخلصت من ضغوط رجال الأعمال ورفضهم فرض ضرائب جديدة عليهم لتمويل الموازنة، إذ تضمنت فرض ضريبة جديدة بنسبة 5 في المئة على ما يزيد على المليون جنيه سنويا من دخول الأشخاص الطبيعيين أو أرباح الأشخاص الاعتباريين، ليصبح الحد الأقصى لضرائب الدخل 30 في المئة بدلا من 25 في المئة. كما فرضت ضريبة جديدة على توزيعات أرباح البورصة بنسبة 10 في المئة. وتشير تقديرات وزارة المالية إلى أن حصيلة الضريبة الأولى ستكون حوالي 3 مليارات جنيه، أما الثانية فستكون حوالي 3.5 مليارات جنيه. وهو ما يعني أن مجموع الدخول الزائدة على المليون جنيه والمستحق عليها الضريبة هو حوالي 60 مليار جنيه. وإذا تجنبنا حد الإعفاء المقرر على ضريبة توزيعات البورصة، وهو 15 ألف جنيه سنويا، فإن حجم الأرباح الموزعة يصل لـ35 مليار جنيه سنويا. وهكذا، عبّرت حصيلة الضرائب المحتملة عن حجم التفاوت في الدخول في بلد يقع أكثر من ربع سكانه تحت خط الفقر.
الاغنياء يساهمون في الميزانية؟
منذ انفجار الثورة في 2011، جرت محاولات لتمرير هذه الإجراءات، ولكن رجال الأعمال قاوموها ومنعوها بحسم، حتى تمكنت الدولة من إقرارها في الموازنة الأخيرة، ما يبدو كاتجاه لتحميل الأغنياء المزيد من المسؤولية في تمويل الموازنة. وأما الإنفاق العام في الموازنة، فقد زاد بحسب بيان وزارة المالية إلى 807 مليارات جنيه، بزيادة قدرها 65 مليار جنيه عن الموازنة الأخيرة. كما زاد بند الأجور من 184 إلى 209 مليارات جنيه بزيادة 13 في المئة عن الموازنة السابقة، وهو ما اعتبره وزير المالية «تجاوزا للحدود الآمنة» و«ستلتفت إليه الحكومة في المرحلة القادمة»، بحسب نص بيان الموازنة. ارتفع أيضا الإنفاق على الصحة بمشروع الموازنة من 42.1 إلى 51.65 مليار جنيه. وارتفع الإنفاق على التعليم من 93 إلى 105.35 مليارات جنيه. كما شهدت باقي بنود الإنفاق الاجتماعي ارتفاعات ملحوظة. بيان الموازنة الصادر من وزارة المالية أشار أيضا إلى إعادة النظر في دعم الطاقة الذي يستفيد منه الأغنياء بـ40 في المئة، بينما لا تتجاوز استفادة الفقراء 10 في المئة فقط. وكان إلغاء دعم الطاقة للشركات الكثيفة الاستهلاك للطاقة، وتوفيره للفقراء من أهم المطالب التي حاولت الدولة تفاديها تحت ضغط رجال الأعمال أيضا.
إجراءات شكلية
لكن تلك الإجراءات متهافتة وذات طابع شكلي. فعلى سبيل المثال، بعض تلك الزيادات خادعة، إذ عبرت في واقع الأمر عن انخفاض في نسبتها من الإنفاق العام والناتج المحلي الإجمالي. فمثلا إجمالي الإنفاق على البرامج الاجتماعية زاد من 444.022 إلى 456.424 مليار جنيه. بينما انخفضت نسبته من الإنفاق العام من 59.8 في المئة إلى 56.1 في المئة. وانخفضت نسبته من الناتج المحلي من 21.8 في المئة إلى 19 في المئة. كما أن الضرائب التي قررتها الدولة في محاولة لوضع بعض المسؤولية على الأغنياء، شهدت مقاومة شديدة من رجال الأعمال، أدت الى وضع شروط تقلل من حصيلتها بشكل واضح. فقد تقرر أن ضريبة الدخل الجديدة ستكون موقتة ولمدة ثلاث سنوات فقط، وأن يكون من حق دافعها أن يختار مجال توظيفها في المشروعات التي تطرحها الدولة. ووافقت الدولة على إعفاء الأسهم المجانية من الضريبة على أرباح البورصة وعلى خفضها من 10 في المئة إلى 5 في المئة لمن يمتلكون نسبة 25 في المئة من أسهم المؤسسات، بشرط الاحتفاظ بها لعامين، كما وافقت على رفع حد الإعفاء إلى 15 ألف جنيه من الأرباح السنوية، على الرغم من أن حد الإعفاء من الضرائب على الأجور هو 12 ألف جنيه فقط، أي أن من يحصل على أكثر من ألف جنيه شهريا يدفع ضرائب، رغم أن الحد الأدنى للأجر الذي قررته الدولة هو 1200 جنيه. كما أن خفض الدعم على الطاقة، ترافق مع السماح للشركات الكثيفة الاستهلاك للطاقة باستيراد الفحم، لتوفير مصدر رخيص للطاقة، بغض النظر عن تأثيره المدمر على البيئة والصحة، فضلا عن أن خفض الدعم على الطاقة سيكون تأثيره في الواقع في الفقراء أكبر من تأثيره في الأغنياء، حيث من المقرر أن يؤدي إلى رفع فواتير الكهرباء والغاز وأسعار النقل، وبالتالي رفع أسعار السلع كافة. وقد ظهرت تقارير صحافية قبيل تولي السيسي رئاسة الجمهورية رسميا تفيد بتدخل جهات سيادية لتأجيل رفع فواتير الكهرباء تفاديا لردود الأفعال الشعبية.
ولكن على الرغم من كل الثغرات التي يمكن كشفها في الموازنة، والتي تتناقض مع مزاعم توجه الدولة لتحقيق العدالة الاجتماعية، إلا أنها لم تطابق الخطاب الرسمي كما ورد على لسان رئيس الحكومة وقتها وتبناه المشير السيسي حين كان وزيرا للدفاع، والذي لم يتضمن سوى التقشف والصبر وتأجيل المطالب «الفئوية»...
فتش عن الحراك الاجتماعي
يكشف مشروع الموازنة العامة تناقضات كثيرة لدى السلطة القائمة التي تبدو متجهة للضغط على رجال الأعمال ثم تبدأ في الاستجابة لشروطهم، وتتحدث عن الأزمة الاقتصادية وضرورة التقشف وعن عدم قدرتها على تحسين الأوضاع الاجتماعية قريبا، ثم تزيد الإنفاق على الصحة والتعليم والأجور. ولا يمكن فهم تناقضات مشروع الموازنة العامة إلا بالنظر للمناخ العام الذي ظهرت فيه. الأوضاع العامة عقب الثالث من تموز/ يوليو 2013 شهدت تراجعا ملحوظا لقوى ثورة يناير واستعادة السلطة لقدراتها، وعودة رموز عهد مبارك إلى الظهور علانية والدخول كشريك مباشر في ترتيبات أوضاع ما بعد إطاحة الإخوان. بدت السلطة أكثر قدرة على السيطرة واستعادة ما خسرته بسبب ثورة يناير، وتحت شعار مواجهة الإرهاب عادت الممارسات القمعية كما كانت في عهد مبارك وأحيانا أسوأ. رغم ذلك، ظلت الحركة الاجتماعية والعمالية تمثل التحدي الأكبر للدولة وأجهزتها. فرغم استخدامها لكل أدواتها الأمنية والإعلامية، وحتى النقابية، للسيطرة على الحركة العمالية، إلا أنها فشلت في وقف الإضرابات، حتى أثناء الانتخابات الرئاسية التي شهدت أقصى تعبئة من السلطة، حين كان 14 ألف عامل في شركة «كريستال عصفور» بالقاهرة يعلنون الإضراب مطالبين بحقهم في الأرباح السنوية، بالإضافة لعدد آخر من الإضرابات في مواقع عدة. جاءت هذه الإضرابات رغم إصدار الاتحادات النقابية ما سمي بوثيقة «الشرف النقابي» بالاشتراك مع الحكومة ورجال الأعمال في أيار/ مايو الماضي، تضمنت إعلان وقف الإضرابات العمالية دعما لخارطة الطريق وتأييداً للسيسي في الانتخابات الرئاسية. الإقبال على الانتخابات الرئاسية نفسه كان مؤشرا واضحا على درجة الاحتقان الاجتماعي، فقد بدا ضعيفا بحسب وكالة أنباء الشرق الأوسط في يومي التصويت، قبل أن تحشد السلطة كل قوتها في تعبئة الناخبين، ووصل الأمر للتهديد بتوقيع الغرامات المقررة قانونا على الممتنعين عن التصويت، ما أدى لرفع نسبة التصويت في اليوم الثالث.
ربما لا تملك الحركة الاجتماعية والعمالية أدواتها النقابية والسياسية التي تمكنها من تحقيق نتائج تتناسب مع قدرتها على التأثير ومع حجم التحركات... بعكس رجال الأعمال الذين يمتلكون أدوات سياسية وإعلامية وتنظيمات نقابية تمثلهم لدى الدولة، مثل اتحاد الصناعات والغرف التجارية وجمعيات رجال الأعمال، فضلا عن قدرتهم الاقتصادية، ما يجعل كل قرار أو إجراء للدولة يخضع لتعديل من رجال الأعمال حتى يقلل تأثيره فيهم، أو يحصلون على مقابل له. ومع ذلك لم تعد السلطة تستطيع تجاهل حالة الرفض ونفاد الصبر التي يعبر عنها العمال والفقراء في احتجاجاتهم اليومية. ليس من قبيل المصادفة أن أبرز الزيادات في مخصصات الموازنة التي صدرت كانت من نصيب الصحة والتعليم والأجور. وكان العاملون في قطاعي الصحة والتعليم هم الأكثر تحركاً واحتجاجا في الفترة الماضية، كما كان مطلب الأجور هو الأكثر تصدرا للحركة العمالية.
ذلك هو سر الاختلاف ـ مهما كان محدوداً ـ في مشروع الموازنة العامة الحالي. أدركت السلطة الأثر العكسي الذي تركه خطاب التقشف، فحاولت التراجع عنه وإضافة مسحة من العدالة تفاديا لغضب الناس. ولكن لم تذهب السلطة أبعد من إجراءات التسكين، تماما كما فعلت مع الحد الأدنى للأجور الذي عالجته تحت ضغط الحركة العمالية بطريقة أدت لتفجير المزيد من الإضرابات، وفشلت في إلزام رجال الأعمال به، واكتفت بتطبيقه على العاملين بالدولة.