وصايا التقشف في مصر تخطئ الأغنياء

الصبر والتضحية والتقشف كانت الوصايا الرئيسية في خطابين متتالين لرئيس الوزراء المصري إبراهيم محلب، ووزير الدفاع عبد الفتاح السيسي. الأول كان يتحدث لعمال غزل المحلة على خلفية إضرابهم للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور عليهم وصرف مستحقاتهم السنوية. والثاني كان يتحدث لشباب الأطباء على خلفية إضرابهم للمطالبة بزيادة مخصصات الصحة في الموازنة وتحسين أوضاع العاملين في القطاع الصحي. خطاب التقشف كان
2014-03-19

مصطفى بسيوني

كاتب صحافي من مصر


شارك
(عن الانترنت)

الصبر والتضحية والتقشف كانت الوصايا الرئيسية في خطابين متتالين لرئيس الوزراء المصري إبراهيم محلب، ووزير الدفاع عبد الفتاح السيسي. الأول كان يتحدث لعمال غزل المحلة على خلفية إضرابهم للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور عليهم وصرف مستحقاتهم السنوية. والثاني كان يتحدث لشباب الأطباء على خلفية إضرابهم للمطالبة بزيادة مخصصات الصحة في الموازنة وتحسين أوضاع العاملين في القطاع الصحي. خطاب التقشف كان موجها إذن للطبقات الاجتماعية التي تكافح بالفعل من أجل تحسين أوضاعها، وترفع مطالب مزمنة أغلبها يتكرر منذ ما قبل ثورة يناير/كانون الثاني.

الفقراء يطالبون بحد التقشف

لسوء طالع الحكومة المصرية أن تزامن هذا الخطاب ودعوة التقشف مع إعلان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن ارتفاع نسبة الفقر لأكثر من ربع السكان. المدعوون للتقشف متقشفون بالفعل. ومطالبتهم بالحد الأدنى للأجور ليست تمردا على التقشف، بل مطالبة به! فالحد الأدنى للأجور الذي قررته الحكومة لبعض القطاعات يساوي 1200 جنيه شهريا، وبالنسبة لأسرة من أربعة أفراد يكون نصيب الفرد أقل من 11 جنيها يوميا أي أقل من الحد المقرر من قبل الدولة لخط الفقر القومي. هم لا يطالبون إذن سوى بالاقتراب من خط الفقر المتقشف أصلا.
دعم الاثرياء
لا يقترب خطاب التقشف الذي توجهه السلطة أبدا من الطبقات الأكثر رفاهية وأصحاب الثروات الطائلة. سبق الخطابين إعلان مجلة فوربس الاقتصادية لقائمة أغنياء العالم لعام 2014 التي حصل ثمانية من كبار رجال الأعمال المصريين على مراكز بها بإجمالي ثروات تقدرها فوربس بـ22.3 مليار دولار أي ما يقترب من 160 مليار جنيه. أربعة من أغنياء مصر هم من العائلة نفسها (آل ساويرس)، ويبلغ مجموع ثرواتهم 13.2 مليار دولار.
وعلى عكس خطاب التقشف الذي توجهه السلطة للفقراء وتطالبهم بالتضحية من أجل مصر، فإن الخطاب الموجه للطبقات الغنية يتضمن الحرص على مصالح المستثمرين وتحفيزهم وعدم المساس باطمئنانهم، وليس مجرد خطاب بل إجراءات فعلية، فقبل رحيلها، قامت وزارة حازم الببلاوي بتعديل قانون حوافز الاستثمار الصادر عام 1997 بحظر الطعن بصفقات الخصخصة إلا عبر طرفي التعاقد. القانون نفسه يقدم حماية كاملة لرؤوس الأموال والمستثمرين، بالإضافة لتسهيلات ضخمة.ولكن تحصين صفقات الخصخصة جاء بعد أحكام قضائية ببطلان عدد منها بسبب ما شابها من فساد ذكرته حيثيات الأحكام القضائية واعتبرته بلاغا للنائب العام. وبذا فلا تهدف الحكومة لحماية رؤوس الأموال والمستثمرين، ولكنها تقرر أيضا حماية الفساد الذي شاب تلك الصفقات. وأما التقشف فيستفيد منه الأغنياء، أو أن عوائده تصرف لهم، ما يتضح عند النظر في الموازنة العامة للدولة، خاصة في بند الدعم. فقد خصصت الموازنة 3.1 مليارات جنيه لدعم المصدرين.
أما البند الأكبر فهو دعم الطاقة الذي خصصت له حكومة الببلاوي، بحسب تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية الصادر مؤخرا، 128.5 مليار جنيه من إجمالي مخصصات الدعم بالموازنة العامة التي تبلغ 205.5 مليارات جنيه. هذا الدعم الضخم للطاقة يستفيد منه الأغنياء بالأساس، فبحسب التقرير نفسه يذهب أغلبه للشركات الخاصة الكثيفة الاستخدام للطاقة. ولا يساهم هذا الدعم في خفض أسعار منتجات هذه الشركات للمستهلكين، بل على العكس، فعلى الرغم من تمتعها بدعم الطاقة وبسياسة ضريبية ميسرة وبتسهيلات جمركية، إلا أنها تبيع منتجاتها بأعلى من الأسعار العالمية. ويعطي التقرير مثلا على صناعة الأسمنت، وهي إحدى الصناعات الكثيفة الاستخدام للطاقة. تبلغ تكلفة إنتاج طن الأسمنت الإجمالية حوالي 300 جنيه ويبلغ سعره في السوق المحلي 650 جنيها أي أكثر من ضعف تكلفة الإنتاج، بينما يبلغ سعر الأسمنت المستورد من تركيا حوالي 460 جنيها شاملا تكلفة النقل إلى المخازن في مصر. ولا يمكن فهم هذه الأسعار رغم الدعم السخي للصناعة إلا في سياق الوضع الاحتكاري الناجم عن خصخصة قطاع الإسمنت في مصر وهيمنة ثلاث شركات عالمية كبرى عليه، وهي «إيطال شمنت» الإيطالية، و«لافارج» الفرنسية و«تيتان» اليونانية. اللافت انه عندما بدأت السلطة تتجه لخفض دعم الطاقة الموجه للشركات الكثيفة الاستهلاك لها، أعلنت تلك الشركات أنها ستتجه لاستخدام الفحم كوقود أرخص حتى وإن كان مدمرا للبيئة. قدرة رجال الأعمال والمستثمرين على الضغط تبدو غير محدودة، فالموازنة الأولى بعد الثورة التي وضعت في 2011 تضمنت رفع الضرائب على أصحاب الدخول الكبيرة وفرض ضريبة جديدة على الأرباح المتولدة من البورصة والاندماج والاستحواز، فرفضها رجال الأعمال فما كان من الحكومة سوى إلغائها إرضاء لهم.

نظام الضرائب

حجم استفادة رجال الأعمال والمستثمرين من الإنفاق في الموازنة العامة لا يقابله دور مساوٍ في دعم إيرادات الموازنة العامة. هذا ما يعبر عنه نظام الضرائب المعمول به، وتكشفه بوضوح إيرادات الضرائب. فحد الإعفاء الضريبي في مصر هو 12 ألف جنيه سنويا. معنى ذلك أن من يتقاضى الحد الأدنى للأجور يضطر لدفع ضرائب على الدخل. وعلى الرغم من المطالبات الدائمة بفرض الضرائب التصاعدية على الدخول العليا لتوفير إيرادات للموازنة العامة وتخفيف العبء عن الفقراء، إلا أن أعلى شريحة للضرائب لا تبلغ إلا 25 في المئة بزيادة 5 في المئة فقط على الشريحة المتوسطة. وتكشف إيرادات الضرائب بحسب موازنة عام 2013 - 2014 حجم التفاوت في تحمل الأعباء.
فإجمالي إيرادات الضرائب المتوقعة كان 356.9 مليار جنيه، وتمثل حصيلة ضريبة المبيعات من هذه الإيرادات 126.6 مليار جنيه، وهي ضريبة تحصل من المستهلكين، أي أن أغلب من يتحملها هم الفقراء. وحصيلة الجمارك تبلغ 21.6 مليار جنيه وهي أيضا مثل ضريبة المبيعات تقع في نهاية الأمر على المستهلكين. والضرائب على المرتبات وتبلغ 18.5 مليار جنيه وهي الضريبة التي يتحمل أغلبها العمال والموظفون ومجمل العاملين بأجر.
وأما ضريبة الأرباح الرأسمالية فلا تتجاوز قيمتها في الموازنة العامة 3.8 مليارات جنيه، وكذلك ضريبة رؤوس الأموال المنقولة التي تبلغ 8.9 مليارات جنيه. كبار رجال الأعمال والمستثمرين والأغنياء في مصر، هم خلاصة، الأقل مساهمة في إيرادات الموازنة العامة. والأهم انهم هم المستفيد الأكبر من الإنفاق. وبالمناسبة لا يتجاوز دعم السلع الغذائية في مجتمع يعاني أكثر من ربعه من الفقر مبلغ 30.8 مليار جنيه أي أقل من ربع الدعم الموجه للطاقة.
هذه البيانات البسيطة تعني أن الأزمة الكبرى في مصر ليست الفقر ولكن الانحياز.
 إنحياز السلطة السافر للأثرياء. تخفيف الأعباء عنهم في الضرائب، وزيادة الإنفاق عليهم في الدعم. منحهم امتيازات غير محدودة وتحصينهم حتى ضد القضاء. يظهر هذا الانحياز بشكله الأكثر سفورا عندما تنحاز الأجهزة الأمنية والإدارية ناحية أصحاب الأعمال ضد العمال في نزاعاتهم وتستخدم التهديد والقمع ضد العمال في إضراباتهم. ولكن الانحياز يصبح أكثر جرأة عندما تطلب السلطة من الفقراء التقشف. ربما كان رد الأطباء المضربين على خطاب التقشف حاسما عندما قال: «تقشفوا أنتم أولا".

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

3 يوليو... بعد عام

اندفاع الملايين غاضبين إلى الشوارع، انكسار جهاز القمع الرهيب، فشل كل محاولات السلطة لفض الميادين، اضطرار مبارك لترك الحكم، ثم الإصرار بعد ذلك على تقديمه للمحاكمة، وإقالة رئيس وزرائه أحمد...

أول أيار/مايو: عيد لا يمر بعمال مصر

الثورة المصرية طالبت بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية. ولا يبدو أن المطالب تلك قد اقترب تحقيقها. تمكنت الحركة العمالية، التي انطلقت قبل الثورة بسنوات ــ بل مهدت لها ــ من بلورة...