تخرج من باب المحكمة الحديدي الضيق، فيغيب طيفها بسرعة، لايظهر منها سوى يد ملوحة بشارة النصر، موجَهة للمنتظرين خلف الشبابيك الحديدية.. ثم تغادر المكان لتواجه مصيرها المحتوم: السجن النافذ لمدة سنة. والتهمة: "الإجهاض السرّي"، و"إقامة علاقة جنسية خارج إطار الزواج".
الصفة صحافية والتهمة الإجهاض
القصة بدأت في أواخر شهر آب / أغسطس الماضي،عندما اعتقلت هاجر الريسوني (28 عاماً)، الصحافية بجريدة "أخبار اليوم" مع خطيبها رفعت الأمين بعد خروجهما من عيادة طب النساء. الريسوني "اعترفت تلقائياً بالتهم الموجهة لها" (كما تورد بعض المصادر الصحافية المحلية)، وأنها "زارت العيادة بهوية مزيفة، لكنها ضبطت متلبسة داخلها". بيد أن الشابة (28 عاماً) أكدت من جهتها أنها قصدت الطبيب بسبب "آلام حادة في البطن"، وأخبرها بأن لديها "نزيف حاد يتطلب تدخلاً في الحين، وهو أمر تمّ اثباته بالدليل عبر نشر (في إحدى الصحف المحلية) صورة لشهادة طبية تستبعد خضوعها لعملية الإجهاض. كما أن موكلها يؤكد بأن الريسوني تزوجت من خطيبها بعد قراءة الفاتحة ببيت أسرتها. أما محامية خطيبها فتفيد بأن الخطيبان واجها مشاكل في توثيق زواجهما، تتمثل في المماطلة التي خصت الإجراءات الادارية والقانونية بسبب جنسية خطيبها السودانية..
وأكد عضو هيئة الدفاع عن هاجر الريسوني أنّ "هناك أدلّة علمية تؤكّد عدم وجود الحمل. كما أن هناك مدونة الأسرة، التي تُنزِل الخطبة منزلة الزواج في حالة وجود حمل، على فَرَض وجوده".
أما المحامية مريم مولاي رشيد الموكلة بالدفاع عن طبيب الصحافية المعتقلة، فاستغربت إدانته متسائلة: "هل ندين عملية قام بها طبيب لانقاذ حياة انسانة، ليس شأننا إن كانت في خضم علاقة جنسية أو حاملاً.. الطبيب هنا وجد نزيفاً أراد أن يوقفه.. ثم يأتي من يعتبره اجهاضاً!".
مسألة الإجهاض من أكثر القضايا حساسية. وبينما يُستنكَر عموماً في العلن إلا أنه بالغ الشيوع في السر! وتؤكد الاحصائيات بأن هناك في المغرب ما بين 600 و800 حالة إجهاض سري يومياً (ما متوسطه ربع مليون عملية اجهاض في السنة!) لا يتم التصريح عنها مخافة القانون الذي يجرّم الطبيب/ة والمُجْهَضَة.
مناصرو هاجر يرون بأن القضية "مسيسة"، تفوح منها رائحة "انتقام" منها بسبب مقالاتها الصحافية التي عادة ما تنتقد فيها المنظومة السياسية في البلد. لكن النيابة العامة بالرباط نفت أن يكون إيقافها جاء على خلفية مهنتها، فالاعتقال بحسب النيابة جاء"بمحض الصدفة أثناء زيارتها لعيادة طبية للنساء والتوليد كانت تحت المراقبة".
وفي الوقت الذي تدحض فيه الريسوني ومحاميها ومناصريها تهمة الإجهاض، ترى أصوات أخرى بأن ما ارتكبته الشابة ليس جرماً، بل هو حق مكفول للإنسان في أن يعيش ويختار ويحب وفقا لقناعاته الشخصية، كما تجد هذه الأصوات في قضتيها مناسبة متجددة للمطالبة بإلاقرار بالحريات الفردية والقطع مع قوانين "قروسطية" تصادر حرية الأفراد.
سؤال الحريات الفردية
مجددا، يعود سؤال الحريات الفردية إلى الواجهة بالمغرب. و قضية الريسوني أعادت فتح هذا النقاش، إذ يطرح في مناسبات ثم يطوى بعد أن يستهلك في فضاءات التواصل الاجتماعي. ترى أصوات معارضة بأن مثل هذا النقاش يبقى بلا نتائج ولا يثمر، كونه يظل حبيس الاستعراض الاعلامي، ويبتغي أحياناً "الركوب" على قضية هاجر أو سواها من القضايا الحساسة التي تلامس الحريات الفردية، دون تأثير على أرض الواقع، أو خلق أرضية للحوار البناء بين مختلف القناعات والحساسيات الايديولوجية.
الإجهاض السري في المغرب
23-08-2015
"خارجة على القانون" هي إحدى الصفحات الفيسبوكية والحملات الالكترونية التي أثارت جدلاً بين المغاربة بسبب توقيتها ومدى جدواها في مجتمع ينزع نحو القيم الأبوية و يعزز من أدوار الجماعة على حساب الأفراد. يقول مؤسسو الحملة: "مواطنات ومواطنون مغاربة، نعترف بأننا خارجون عن القانون. نعم، نحن نخرق كل يوم قوانين جائرة، قوانين بالية أكل عليها الدهر وشرب"، مضيفين: "نعم عشنا أو ما زلنا نعيش علاقات جنسية خارج إطار الزواج مثل الآلاف من مواطنينا، عشنا أو مارسنا أو كنا شركاء أو متواطئين في عملية الإجهاض". وبالموازاة ،تقدَّم عمر بلافريج، النائب البرلماني عن تكتل "فيدرالية اليسار الديمقراطي"، بمقترح لتعديل المادة 490 من القانون الجنائي، التي تنص على أن "كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة زوجية تكوِّن جريمة الفساد ويعاقب عليها بالحبس من شهر واحد إلى سنة"، كما طالب بنسخ المادة 491 التي تعاقب على الخيانة الزوجية بالحبس من سنة إلى سنتين.
"أنا أؤدي بالنيابة ضريبة عائلة قالت لا، في زمن الهرولة لقول نعم، وها أنا أمشي إلى قدري بقلب مفجوع ورأس مرفوع". هكذا تدافع هاجر الريسوني عن نفسها وتعتبر أن اعتقالها كان مقابل انتمائها لعائلة "الريسوني"، ومنها سليمان الريسوني المعروف بمقالاته المعارضة، كما عمها أحمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي للمسلمين.
لكن مثل هذه الدعوات التي يطلقها نشطاء وسياسيون من التيار الذي يوصف بـ"الحداثي" و"العلماني" قوبلت، وما تزال، بالرفض والاستنكارمن قبل كثير من المغاربة الذين ينظرون إليها ك"مؤامرة" تحاك ضد قيمهم و أخلاقياتهم "المحافظة"، و"أجندات" تُمْلَى من "جهات غربية" تسعى إلى "تخريب هذه القيم". والمغاربة، المتأثرين بالخطاب الديني يرفضون الخوض في مناقشات حول الحريات الفردية فهي - بحسبهم - ضرب من "الفساد" و"الانحلال" الأخلاقي.
ولا يجد مناصرو الخطاب الحداثي أرضية ملائمة لطرح هذه المسألة. فالذهنيات السائدة ما زالت ترى في المرأة مجرد جسد تحيط به الريبة والإدانة، دون النظر إليها كفرد له إرادته الحرة. ومسألة الإجهاض هي من أكثر القضايا حساسية. ولكن، وبينما يستنكر المغاربة في العلن اللجوء الى الاجهاض، إلا أنهم يعلمون تماماً أن ممارسته بالغة الشيوع.. في السر! وتؤكد الاحصائيات (1) بأن هناك ما بين 600 و800 حالة إجهاض سري يومياً (ما متوسطه ربع مليون عملية اجهاض في السنة!) لا يتم التصريح عنها مخافة القانون الذي يجرّم (2) الطبيب/ة والمُجْهَضَة.
الحريات الفردية ورقة لضرب المعارضين
"أنا أؤدي بالنيابة ضريبة عائلة قالت لا، في زمن الهرولة لقول نعم، وها أنا أمشي إلى قدري بقلب مفجوع ورأس مرفوع"، هكذا تدافع هاجر الريسوني عن نفسها وتبرر اعتقالها بأنه ليس مجانيا، بل كان مقابل انتمائها لعائلة "الريسوني" ، من قريبها سليمان الريسوني المعروف بمقالاته المعارضة للمنظومة السياسية بالبلد، إلى عمها أحمد الريسوني (الذي يوصف بفقيه حزب العدالة و التنمية)، وهو رئيس الاتحاد العالمي للمسلمين، وكان رفض إقرار الحق بالاجهاض، واعتبره "تحريرا للفروج وإجهاضاً للأرحام".
ما سقف المطالب النسوية في المغرب؟
05-03-2015
يبدي التيار الاسلامي بزعامة حزب العدالة و التنمية (الذي يرأس الحكومة) تحفظاً تارة واعتراضاً تارة أخرى إزاء إقرار الحق بالإجهاض وسواه من الحريات الفردية، إذ ما زال يعتبر أنها لا تتماشى مع القيم الاسلامية.. مع أن سمعة الحزب تضررت مراراً بسبب تورط بعضٍ منتسبيه ب"فضائح" تمس حياتهم الشخصية وتضرب في الصميم خطابهم "الأخلاقوي" عن الجسد والشرف، في خطوة يراها مناصرو الحريات الفردية تجسيد "للازدواجية" و"نفاق" سياسي.
وأما السلطة السياسية فمن صالحها أن تبقي على إطار قانوني يجرم الحريات الفردية ويضع لها قيوداً تشريعية، تارة باسم الدين وتارة أخرى باسم "الاخلاق" والأعراف، كواحدة من أدوات تصفية الحسابات مع معارضين أو نشطاء أو مؤثرين (بغض النظر عن انتمائهم الايديولوجي أو السياسي)، وضربهم، والنيل من "سمعتهم". ويظل هذا العنصر الأخير مختزلاً في الجسد والتصرف فيه، متفوقاً على إدانة الفساد السياسي والمالي وممارسة التمييز والتسبب بالفقر والبؤس...
______________
1 - حسب أرقام "الجمعية المغربية لمناهضة الإجهاض السري".
2- يعاقب القانون كل من تورط بممارسة الإجهاض بالسجن بين عام وخمسة أعوام، وتتراوح عقوبة النساء بالسجن بين ستة أشهر إلى عامين.