النقابات المستقلة ومخاطر البيروقراطية

لا يمكن فهم ظهور النقابات المستقلة خارج هيمنة الدولة واتحاد العمال الرسمي التابع لها إلا في سياق التحولات التي كانت تحدث في الوضع المصري عموما، وتطورات الحركة العمالية خاصة. على المستوى العام، كانت الأطر السياسية الرسمية قد فشلت في استيعاب حركة الشارع المصري والسيطرة عليها. أصبحت الحركات السياسية الأكثر فاعلية وتأثيرا هي تلك التي لا تتبع الأحزاب والقوى السياسية التقليدية. فحركة دعم
2014-04-27

مصطفى بسيوني

كاتب صحافي من مصر


شارك
تصوير مي شاهين - مصر

لا يمكن فهم ظهور النقابات المستقلة خارج هيمنة الدولة واتحاد العمال الرسمي التابع لها إلا في سياق التحولات التي كانت تحدث في الوضع المصري عموما، وتطورات الحركة العمالية خاصة. على المستوى العام، كانت الأطر السياسية الرسمية قد فشلت في استيعاب حركة الشارع المصري والسيطرة عليها. أصبحت الحركات السياسية الأكثر فاعلية وتأثيرا هي تلك التي لا تتبع الأحزاب والقوى السياسية التقليدية. فحركة دعم الانتفاضة الفلسطينية في مطلع الألفية وحركة مناهضة غزو العراق في 2003 وصولا لحركات "كفاية" و"شباب من أجل التغيير" و "6 أبريل" وغيرها... كانت كلها حركات غير حزبية. أصبحت الآليات التي أسسها النظام في سبعينيات القرن الماضي للهيمنة على الحياة السياسية، عبر تعددية حزبية شكلية، عاجزة عن استيعاب اللحظة، وظهرت الحركة السياسية خارجها.

العمال كذلك

ما حدث على الصعيد العمالي لم يختلف عن ذلك. فاتحاد العمال الذي أسسته الدولة عام 1957 وظل أداة هيمنتها على الحركة العمالية، بدا منذ نهاية العام 2006 غير فعال في استيعاب الحركة العمالية أو السيطرة عليها. فعقب إضراب ناجح لعمال غزل المحلة في كانون الأول/ديسمبر 2006، وقف ضده التنظيم النقابي الرسمي، انتشرت الإضرابات العمالية في أنحاء مصر ولم يتمكن التنظيم النقابي من احتوائها. ساهم في تحرر الحركة العمالية من هيمنة التنظيم النقابي الرسمي التغيرات الكبيرة التي حدثت في بنية الطبقة العاملة وعلاقات العمل منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. فالاتحاد الرسمي قد أُسس واستمر في ظل هيمنة دور الدولة على عملية الإنتاج والتوزيع. الدولة كانت هي صاحب العمل، وكانت تقوم بدور اجتماعي في التوظيف والتعليم والصحة والإسكان والخدمات، بما يعني أن المساحة المتروكة للتفاوض أمام الحركة النقابية كانت ضيقة للغاية، والفراغ النقابي الناتج من غياب تنظيمات أنشأها العمال ومعبرة عنهم لم يكن ملموسا للحركة العمالية. اللافت أن المراجع القانونية التي اعتمدت عليها حركة النقابات المستقلة في تأسيسها كانت موجودة منذ منتصف القرن العشرين، ولكن كانت تنقصها حركة عمالية قوية قادرة على الإفلات من هيمنة النقابات الرسمية. وظهور النقابات المستقلة ليس سوى محاولة لخلق إطار تنظيمي وقانوني لحركة قائمة بالفعل. وكانت النقابة الأولى المستقلة التي أسسها موظفو الضرائب العقارية قد أنجزت اثر إضراب عام 2007 ("اللجنة العليا للإضراب" والتي ضمت ممثلين من محافظات مصر المختلفة). وفي ظل عداء التنظيم النقابي الرسمي للإضراب، كانت تلك اللجنة هي القائمة على الدعوة إليه وتنظيمه والتفاوض باسم العمال مع المسؤولين. أي أنها كانت تقوم بدور النقابة كاملا كما أنها كانت مختارة بشكل ديموقراطي من بين العمال وممثلة لهم. كان من السهل عقب انتصار الإضراب أن تنتقل اللجنة إلى مرحلة أعلى من التنظيم، مدعومة بأربعين ألف عامل وتظهر كأول نقابة مستقلة.

العطب

وكما انتشرت الإضرابات من المحلة انتشرت النقابات المستقلة، وتبع تأسيس نقابة الضرائب العقارية عدة نقابات، ثم تحولت لظاهرة واسعة النطاق عقب الثورة. لعبت هذه النقابات المستقلة دورا هاما منذ نشأتها في تنظيم الحركة العمالية وتطوير أدواتها على مستوى المنشآت والمواقع العمالية، ولكنها لم تحرز التقدم نفسه في بناء تنظيم نقابي على المستوى الوطني، يعنى بتطوير علاقات العمال وتحسين ظروف عملهم وليس فقط العمل على تحقيق المطالب الخاصة بكل منشأة، على الرغم من تأسيس أكثر من اتحاد مستقل للعمال. يتضح ذلك من خلال عجز حركة النقابات المستقلة عن الضغط لإصدار تشريع نقابي يعترف بوجودها بعد الثورة، رغم المطالبة المستمرة بذلك. كذلك فشلها في انتزاع المطلب الأهم للحركة العمالية وهو الحد الأدنى للأجور، والذي قررته الحكومة مؤخرا بعيدا عن التفاوض مع النقابات المستقلة، وبشكل مشوه خلق المزيد من الأزمات. ورغم تباهي الاتحادات المستقلة بضخامة عضويتها التي تصل للملايين، إلا أنها لم تنجح في أي مرة في حشد أعداد كبيرة من أعضائها في أي فاعلية احتجاجية. والمسيرات والاحتجاجات التي دعت إليها لم يشارك فيها سوى المئات. على جانب آخر، كانت النقابات المستقلة في المواقع تقود إضرابات قوية ومؤثرة مثل إضراب السكة الحديد في نيسان/ أبريل 2013، وإضراب مترو الأنفاق الذي سبقه، ومؤخرا إضراب البريد... تبدو النقابات المستقلة مناضلة ومتماسكة كلما ارتبطت بالقواعد. وتبدأ في "التبقرط" والخمول كلما اتجهت الأنظار إلى هيئاتها العليا كالنقابات العامة والاتحادات.
وربما يعبر عن ذلك بوضوح ما حدث عقب "الثالث من يوليو". فبعد الإطاحة بمرسي وإعلان "خارطة الطريق"، أصدرت الاتحادات العمالية، الرسمية والمستقلة، بيانات أعلنت فيها التأييد ولكن الأهم أنها أعلنت، سواء بشكل صريح أو ضمني، عن توقفها عن الدعوة لأي إضرابات دعما للدولة في مواجهة الإرهاب. لم يكن لموقف الاتحادات قيمة في الأوساط العمالية، فقد استمرت الإضرابات العمالية، وبعد انخفاض وتيرتها لفترة عادت للصعود سريعا على الرغم من تزايد القمع والملاحقة الأمنية للقيادات العمالية، حيث تم اعتقال عدد من قيادات البريد المضربين مؤخرا. وبعض تلك الإضرابات قادته النقابات المستقلة في المواقع، وبعضها كان في مواقع ليس بها نقابات مستقلة، وقادها العمال.

الحركة العمالية والنقابات المستقلة: تفارق؟

لا يمثل موقف النقابات، سواء المستقلة أو الرسمية، عقب "الثالث من يوليو" خطورة على الحركة العمالية نفسها. بل تأثيره وخطورته يتركزان على مستقبل النقابات، المستقلة بالذات. فإعلان وقف الإضرابات لا يوقفها، ولكنه يزيد من الانفصال بين الاتحادات المستقلة والحركة العمالية. على المستوى القاعدي تتعرض النقابات المستقلة لضغوط مباشرة ويومية من العمال تجعلها أكثر قابلية لتصحيح مسارها واستمرارها في النضال العمالي. وفي المستويات العليا تنخفض هذه الضغوط وتكون تلك المستويات عرضة أكثر للانفصال عن الواقع اليومي للعمال والغرق في العمل البيروقراطي وظهور التنافس بين التنظيمات النقابية المختلفة وحتى داخل الاتحاد نفسه. ومع ضعف الهيكل التنظيمي الناشيء للنقابات المستقلة وضعف الخبرات النقابية، يضعف بالتالي التفاعل بين المستويات القاعدية والعليا في التنظيم النقابي. ويجب التمييز بين النقابات المستقلة التي نشأت على خلفية صعود النضال العمالي، والتنظيم النقابي الرسمي الذي أنشأته الدولة. فالتنظيم النقابي الرسمي نشأ بإرادة الدولة وظل تحت رعايتها طوال الوقت، صار دوره أقرب طوال الوقت للبوليس النقابي وليس حتى للبيروقراطية النقابية. دوره منذ نشأته هو احتواء الحركة العمالية والسيطرة عليها والاستجابة للسلطة وليس للعمال، لذا فلا توجد لديه أي قابلية للتأثر بالحركة العمالية. بينما كانت النقابات المستقلة في مصر نتاج أوضاع تآكلت فيها أدوات السيطرة والهيمنة الحكومية وأصبحت عاجزة عن احتواء الحركة العمالية. وكانت في الوقت نفسه نتاجا لحركة عمالية قوية وقادرة على تنظيم نفسها في احتجاجات مدوية ساهمت في زعزعة الحكومات المتتالية، ما يؤكد أن الحركة العمالية لا تنتظر أحداً وأنها قادرة على تقديم بدائل تنظيمية أخرى لو اضطرت لذلك.       
 

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

3 يوليو... بعد عام

اندفاع الملايين غاضبين إلى الشوارع، انكسار جهاز القمع الرهيب، فشل كل محاولات السلطة لفض الميادين، اضطرار مبارك لترك الحكم، ثم الإصرار بعد ذلك على تقديمه للمحاكمة، وإقالة رئيس وزرائه أحمد...

أول أيار/مايو: عيد لا يمر بعمال مصر

الثورة المصرية طالبت بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية. ولا يبدو أن المطالب تلك قد اقترب تحقيقها. تمكنت الحركة العمالية، التي انطلقت قبل الثورة بسنوات ــ بل مهدت لها ــ من بلورة...