"الألتراس" في مصر: من التمرًّد إلى الثورة

شباب في مطلع العشرينيات من العمر. حماسة وجرأة وإقدام. ليس من بينهم وجوه معروفة، فهم يتوجّسون من الإعلام، ولا يرفعون لافتات لقوى سياسية، فهذا مخالف لقواعدهم. ولكنهم مع ذلك، وخلافاً لأي توقع، انتهوا الى لعب دور سياسي هام في الانتفاضة المصرية. ظهرت جماعات "الألتراس" في مصر العام 2007، وتشكلت بداية حول أكبر ناديَي كرة قدم، "الأهلي" و"الزمالك"، ثم امتدت لتطال معظم فرق دوري الدرجة الأولى، وحتى الفرق
2012-07-18

مصطفى بسيوني

كاتب صحافي من مصر


شارك

شباب في مطلع العشرينيات من العمر. حماسة وجرأة وإقدام. ليس من بينهم وجوه معروفة، فهم يتوجّسون من الإعلام، ولا يرفعون لافتات لقوى سياسية، فهذا مخالف لقواعدهم. ولكنهم مع ذلك، وخلافاً لأي توقع، انتهوا الى لعب دور سياسي هام في الانتفاضة المصرية. ظهرت جماعات "الألتراس" في مصر العام 2007، وتشكلت بداية حول أكبر ناديَي كرة قدم، "الأهلي" و"الزمالك"، ثم امتدت لتطال معظم فرق دوري الدرجة الأولى، وحتى الفرق المحلية الصغيرة أحياناً.

يختصر الكاتب أشرف الشريف جوهر الفكرة الألتراسية بالتنظيم، عبر خلق الجماعة البديلة القائمة على البهجة والدينامية بدل الرتابة والكآبة السائدتين. وهم بدأوا كجماعات افتراضية في المنتديات الكروية على الإنترنت (المدخل الكلاسيكي لأغلب عناصر الألتراس) ثم انتقلوا الى تشكيل كيانات تنظيمية في عالم الواقع، تتمدّد لتشكل "وطناً بديلاً، بمعنى إيجاد مجال خاص/عام جديد تنطلق فيه وعبره الطاقات التعبيرية الوثابة لهؤلاء الشباب المستوعَبين داخل الأطر البليدة للمؤسسات التعليمية والاقتصادية والأسرية والإدارية، بكل رتابتها وقباحاتها".

ظهرت جماعات "الألتراس" في تونس قبل مصر، كما لو كان التاريخ يخطِّط للتتابُع اللاحق للأحداث في البلدين. فعلى مستوى صناعة كرة القدم، استفز الشباب الاحتكار التجاري المتعاظم من قبل شبكات فضائية بعينها لبثّ المباريات على القنوات المشفرة، ما سمح لها بجني أرباح ضخمة. وتزامن ذلك مع إجراءات أمنية مهينة اتُّبعت مع المشجعين لدى دخولهم المدرجات. وقد ترك هذان العنصران تأثيراً واضحاً في مبادئ "الإلتراس"، إذ تتفق كلّ الجماعات الالتراسية على العداء للسياسة الأمنية وعلى رفض التعامل مع وسائل الإعلام، سيما أن هذه الاخيرة دأبت على تقديمهم بصورة مشينة، كشباب عنيف ومنفلت أخلاقياً. وقد ارتفع عداء "الألتراس" للإعلام والأمن على السواء بعد واقعة كانون الثاني/يناير 2009. ففي مبارة بين ناديَي "الأهلي" و"الإسماعيلي"، أطلقت الالتراس الألعاب النارية الاحتفالية بكثافة، ما استنكرته بعض البرامج الرياضية واستخدمته للتحريض عليهم. وعلى الفور، استجابت أجهزة الأمن وقامت باعتقال عدد من أعضاء "الألتراس" من منازلهم ومقار عملهم، في "إجراء احترازي" قبل مباراة قمة كانت منتظرة بين "الأهلي" و"الزمالك". فتحوّلت المباراة الكبرى إلى "الدربي الأسود" كما سمتها هذه الجماعات، لأن المشجعين حُرموا خلالها من القيام بـ"الدخلات" (لافتات التشجيع الموحَّدة للفرق الكروية) والألعاب النارية، والأداء الزاعق، والذي ينزلق فعلاً أحياناً الى السباب والعنف اللفظي والرمزي.

كان من المعتاد في المدرجات سماع هتاف "الحرية لأيمن نور"، المرشح الرئاسي المعتقل حينها، أو "الحرية لخيرت الشاطر"، القيادي في جماعة "الإخوان المسلمين" الذي كان مسجوناً بدوره. لكن الجدران احتلت فجأة بشعار"الحرية للألتراس"، للمطالبة بإطلاق سراح المشجعين المعتقلين.
ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، توفرت بشكل يسير وسائل الاتصال بين جماعات الشباب، علاوة على الإطلاع على ما يجري في العالم والتعلُّم من تجارب الآخرين. كما تزامن تأسيس "الألتراس" مع تراجُع في دينامية حركات الإصلاح الديموقراطي التي انطلقت في 2004 ضد مشروع توريث الحكم من الرئيس المخلوع حسني مبارك لنجله جمال. وهي حقبة شهدت اتساعاً لأعداد الشباب المنضمّين إلى حركات المعارضة كحركة "كفاية" وبدء ظهور حركات شبابية كان أبرزها "شباب من أجل التغيير". ومع الصعوبات التي واجهتها تلك الحركات في كسر محيط تأثيرها على دائرة بعينها، تبقى محدودة، اختار عدد من الشباب الانتماء والتعبير من خلال "الألتراس"، فكأنما لسان حالهم كان يقول "خذوا كل شيء واتركوا لنا المدرجات". إلا أن يد النظام الثقيلة رفضت ترك حتى المدرجات للشباب المتمرّد.

يلفت الانتباه في "الألتراس" قدرتهم التنظيمية الفائقة حيث تجاوزوا حركات وتنظيمات سياسية عريقة. ففي أقل من خمس سنوات، ضمت جماعات "الألتراس" الآلاف من الأعضاء الفعليين والفاعلين (ما بين خمسة إلى سبعة آلاف في ألتراس نادي الزمالك وما بين ثمانية إلى عشرة آلاف في ألتراس الأهلي). هذا عدا الأعداد الكبيرة من المحيطين بهذه المجموعات. وتظهر كذلك القدرات التنظيمية لـ "الألتراس" في سلوكهم، سواء في المدرجات أو خلال الأحداث السياسية . فهم الجماعة المنظمة الوحيدة التي تمتلك "خبرة قتالية" في التعامل مع جهاز الأمن المركزي وقوات وزارة الداخلية. ينضمون إلى التظاهرات والاعتصامات فيوفرون لها الحماية والانضباط والامن، وقد برزوا في أحداث شارع محمد محمود (تشرين الثاني/نوفمبر 2011 ) وفي أحداث مجلس الوزراء (كانون الأول/ ديسمبر 2011 ) وأحداث وزارة الداخلية (شباط /فبراير 2012 ) بوصفهم الأكثر جرأة وتنظيماً في آن. وعلاوة على ذلك فهم يشاركون في اللجان الشعبية، وغالباً ما تصبح الأغاني التي يؤلفونها بأنفسهم أناشيد للثورة! وكان اعتصام "ألتراس" نادي الأهلي أمام البرلمان في آذار/مارس الماضي، مثالاً في الانضباط والإحكام. وهو جرى احتجاجاً على مذبحة بورسعيد، اي أحداث العنف الدامية التي تخللت مباراة فريقي الاهلي وبورسعيد في الأول من شباط/فبراير الماضي، وراح ضحيتها اكثر من 70 قتيلاً من أعضاء "ألتراس" نادي الاهلي على يد مَن يُظنّ أنهم مأجورون بحماية الشرطة والجيش. ويرجح أن ذلك جرى كعقاب لهم على دورهم في الثورة وكمحاولة للإساءة لسمعتهم ورمي التشويش حولهم. وتبدو صفة التنظيم العالي تلك الخاصة بـ "الألتراس" مفارِقة، إذ هي تناقض الطابع المتمرد لهذه الجماعات الشبابية، وحرصها على اتباع مظاهر خارجة عن المألوف.

وبحسب محمد جمال بشير، أحد مؤسسي الألتراس، ومؤلف الكتاب الوحيد الصادر حتى اليوم عن هذه الظاهرة ("الألتراس.. عندما تتعدى الجماهير الطبيعة" ـ تشرين الثاني/نوفمبر 2011)، فإنهم يرفضون التمويل من أي جهة أو شخص لكي لا يخضعوا لأية إملاءات. كما أنهم يرفضون الانضمام لروابط التشجيع الرسمية التابعة للأندية تفادياً للخضوع لسيطرة رجال أعمالها أو إدارات الأندية، إضافة إلى أنّ تلك الروابط لم تلبِّ روح التمرد لدى الشباب.

هذا المزيج من التنظيم المحكم والتمرد الجامح في آن، حجز لـ "الألتراس" مكانها في الثورة المصرية، وجعلها طرفاً أصيلاً فيها. وهم لم يكتفوا بنقل تمردهم من المدرجات إلى ميادين الثورة، بل عمدوا إلى نقل الثورة إلى المدرجات أيضاً. حدث ذلك مبكراً، عندما أخذ شباب "الألتراس" بالهتاف إشادةً بالثورة التونسية قبل اندلاع الانتفاضة المصرية بأيام. وبعد الثورة، تعالت الهتافات في المدرجات للمطالبة بحقوق الشهداء ولمهاجمة المجلس العسكري.
وككلّ ظاهرة إشكالية، يحلو للبعض اعتبار "الألتراس" مجرد تقليعة. ويسجل البعض الآخر ذكوريتها، فهي لا تضمّ إناثاً وإن كان لا يوجد قرار صريح بذلك. كما لا يجمع الالتراس شرط اجتماعي مشترك، فمنهم الطلاب، والمتخرجون، والعاطلون عن العمل، والعاملون في مهن مختلفة. وبعضهم أبناء أحياء غنية وإن كان أغلبهم من الأحياء الفقيرة. والطاغي على تركيبة هذه الظاهرة أنها حضرية وليست ريفية... وأما اختيارهم لما يسمى "المنطقة العمياء" في المدرجات، خلف مرمى الفريق، وهي أرخص الأماكن، فهو رمز لولائهم للفريق وليس موقفاً طبقياً!

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

3 يوليو... بعد عام

اندفاع الملايين غاضبين إلى الشوارع، انكسار جهاز القمع الرهيب، فشل كل محاولات السلطة لفض الميادين، اضطرار مبارك لترك الحكم، ثم الإصرار بعد ذلك على تقديمه للمحاكمة، وإقالة رئيس وزرائه أحمد...

أول أيار/مايو: عيد لا يمر بعمال مصر

الثورة المصرية طالبت بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية. ولا يبدو أن المطالب تلك قد اقترب تحقيقها. تمكنت الحركة العمالية، التي انطلقت قبل الثورة بسنوات ــ بل مهدت لها ــ من بلورة...