المهمشون في اليمن.. اغتراب في أدنى الهامش

يهدف التعسّف السلطوي إلى التنصل من حقوق بعض الفئات ذات الخصوصية الاجتماعية، والتي يمكن أن تشكل أقليات، بغض النظر عن كون أفرادها مسلمين ويتحدثون العربية، بل واللهجات المحلية نفسها أيضاً، متطابقين بذلك مع معايير التصنيف الرائج عن "تجانس المجتمع اليمني". ومن هذه الفئات، "المهمشون"، الذين درج المجتمع اليمني على تسميتهم "الأخدام".
2019-10-03

لطف الصَّرَاري

قاص وصحافي من اليمن


شارك
| en
رائد شرف - لبنان

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

تركيبة المجتمع اليمني المعقدة أكسبته نوعاً من الاستعصاء على التحليل. زاد في ذلك التعقيدات التي رافقت التحولات السياسية والاجتماعية، وآخرها الحرب الدائرة عليه وفيه منذ 2015. ومن ناحية أخرى، يعاني الاجتماع اليمني من قلة التأريخ والتدوين الاجتماعي المنهجي، إن لم نقل انعدامه. وبسبب الاضطرابات السياسية المزمنة، اهتم اليمنيون بتسيير شؤون حياتهم بعيداً عن البحث في أسباب اختلال علاقاتهم أو التقاط إمكانات انتظامها.

إلى ذلك، دأبت السلطات السياسية المتعاقبة على حكم اليمن، على تصنيف المجتمع باعتباره متجانساً، اعتماداً على المشترك الديني الغالب (الإسلام) واللغوي (العربية). لم يخلُ هذا التصنيف من تعسّف سلطوي لواقع هذا المجتمع، بهدف التنصل من حقوق بعض الفئات ذات الخصوصية الاجتماعية، والتي يمكن أن تشكل أقليات، بغض النظر عن كون أفرادها مسلمين ويتحدثون اللغة نفسها، بل واللهجات نفسها أيضاً. من هذه الفئات، فئة "المهمشين"، أو من درج المجتمع اليمني على تسميتهم "الأخدام". هم ليسوا الفئة الوحيدة المهمشة على أساس اللون. فهناك فئة أخرى من ذوي الملامح الأفريقية يسمّون "الأحْجُور". غير أن حياة هؤلاء تتسم بالترحال الدائم في المناطق الريفية والصحراوية، ونادراً ما يميلون لحياة المدينة.

وفي حين ساعدت الطبيعة القبلية المتوارَثة في اليمن على فرز تراتبية اجتماعية على أساس الأصل، والمهنة، والملْكية، فقد كان لها أثر كبير في إزاحة فئة المهمشين إلى أدنى هوامش الحياة.

من أين جاء "المهمشون"؟

ترجّح بعض المصادر التاريخية أن تواجد المهمشين في البلاد بدأ على خلفية الحروب القديمة بين اليمن والحبشة. غير أن هناك إشارات مهمة إلى دور الهجرة في تدفقهم على اليمن. أهمية هذه الإشارات تكمن في كون المهاجرين الأفارقة ما زالوا يتدفقون على اليمن من البحر حتى الآن، ويمارسون أعمالاً شبيهة بالتي يمارسها المهمّشون. وإذا ما أخذنا بالاعتبار تطور طبيعة الهجرة عبر العصور، يمكن التفريق بين شروطها قبل ظهور الأوراق الثبوتية والعمل بنظام جواز السفر، وبين شروطها بعد ذلك. إضافة لذلك، لم تكن المدن الساحلية لليمن بمنأى عن موجات تجارة الرقيق. على أن تاريخ المهمّشين في اليمن لم يسجِّل حالات استعباد رسمي ضمن هذه الفئة، بقدر ما سجّل تمييزاً اجتماعياً شاملاً ومجحفاً بحقهم الإنساني.

ساعدت الطبيعة القبلية المتوارَثة في اليمن على فرز تراتبية اجتماعية على أساس الأصل، والمهنة، والملْكية، وكان لها أثر كبير في إزاحة فئة المهمشين إلى أدنى هوامش الحياة.

إزاء هذا التمييز الذي يقارب الاستبعاد، تماهى المهمَّشون مع كينونة نمطية عززها المجتمع القبلي بمختلف أعرافه وتقاليده في عموم مناطق البلاد. لكن من الواضح أن كلمة واحدة ظلت تؤلم المهمشين على امتداد أجيال: "خادِم". وهو ما يفسر قبولهم بوصف "المهمَّش" كأفضل البدائل للتخلص من ذلك التعريف المُهين. لقد قاوموا الاستعباد بالتوغل في متاهة "الاغتراب الاجتماعي": طريقة حياتهم يمكن أن ينطبق عليها وصف جيمس سكوت "المقاومة بالحيلة"، والأعمال التي يمارسونها كعمال نظافة وصرف صحي، مع عدم اهتمامهم بالنظافة الشخصية ولا بحصولهم على خدمة الصرف الصحي، وقلة الالتزام الديني، وانفتاح العلاقة بين الجنسين، أمثلة على مقاومتهم الاستعباد بالحيلة.

المهمشون في المدن اليمنية

يشكل المهمّشون ما نسبته 12 في المئة من إجمالي سكان اليمن، وفق آخر تعداد سكاني في العام 2004. أكد هذه الإحصائية رئيس "الاتحاد الوطني للمهمشين في اليمن"، نعمان الحذيفي (1) . وفي حين يتوزعون على مختلف مناطق البلاد، فهم يتركزون في المناطق الوسطى والجنوبية، القريبة من سواحل البحر العربي والبحر الأحمر: عدن، لحج، أبين، الحُديدة، تعز وإب.

ينطبق على طريقة حياة فئة "المهمشين" وصف جيمس سكوت "المقاومة بالحيلة". فالأعمال التي يمارسونها كعمال نظافة وصرف صحي، مع عدم اهتمامهم بالنظافة الشخصية، ولا بحصولهم على الخدمات العامة، وقلة الالتزام الديني، وانفتاح العلاقة بين الجنسين.. أمثلة على مقاومتهم الاستعباد بالحيلة.

تطورت الهجرة الداخلية بعد ثورة أيلول/ سبتمبر 1962 في الشمال، وكان المهمشون جزءاً من هذا التطور. غير أن حضورهم في الحياة المدينية لم يواكبه تطور في الوعي بالحقوق المدنية، على الرغم من أن المادة الخاصة بالمواطَنة المتساوية في أول دستور للجمهورية، نصت على أنه "...لا تمييز [بين اليمنيين] بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو العقيدة أو المذهب".

في الجنوب يختلف الأمر، إذ بعد ثورة تشرين الأول/ أكتوبر 1963، وتحديداً بعد الجلاء البريطاني عام 1967، سعى النظام الاشتراكي لدمجهم في المجتمع بصورة عملية. مع ذلك ظل حيّ دار سعد، شمال مدينة عدن، موسوماً بكونه أبرز تجمع عشوائي للمهمشين.

باستثناء عدن التي كانت محمية بريطانية، لم تشهد المدن اليمنية قبل ثورتي سبتمبر 1962، وأكتوبر 1963 توسعاً حضرياً منظماً خارج أسوارها القديمة. عقد السبعينات الفائت كان فارقاً، والمساحات التي تبدو عليها المدن الآن خارج الأسوار القديمة، ملأها مهاجرون من الريف أو من مدن أخرى، بمن فيهم المهمشون.

شكّلت الوحدة بين الشطرين الشمالي والجنوبي في العام 1990 نقطة تحول أخرى في مسار الهجرة الداخلية. المهمشون لم يكونوا بعيدين أيضاً عن هذا التحول، لكن حياتهم، في أدنى الهامش الاجتماعي، استمرت بالتوازي مع تصاعد انتشار القيم الريفية والأعراف القبلية داخل المدن. واختنقت القيم المدنية التي كانت تنمو ببطء، لاسيما في الشمال، على إثر الضعف المتدرج لسلطة دولة الوحدة. ومنذ وصل الانهيار المتسارع للدولة ذروته مع اندلاع الحرب الأخيرة، صارت القيم المدنية أشبه بأنفاس المحتضِر.

موطئ قدم

في ظل هذا الوضع، عاش المهمشون باحثين عن موطئ قدم داخل نطاق المدن. وكلما زاد عدد الشوارع، تزايد تدفقهم إلى المدينة كعمال نظافة، عمال صرف صحي، خرّازين (خياطي أحذية تحديداً).. المهن التي يأنف عن شغلها المنحدرون من أصول قبلية، حتى وإن كانوا من عائلات فقيرة. على إثر تزايد أعدادهم في المدن، استحدثوا أكواخهم على أطرافها، مشكّلين تجمعات عشوائية تسمى محلّياً بـ"المحاوي".

يتكون "المحوى" من عشرات الأكواخ، ويمكن أن يصل إلى المئات منها. غالباً ما يُبنى الكوخ ("الدَّيمة" باللهجة اليمنية) من الكرتون المقوّى وصفائح الزنك وقطع الأخشاب الصغيرة. أما مساحته فلا تزيد عن 6 إلى 9 أمتار مربعة، وهو غالباً لا يتضمن دورات مياه ملحقة به أو خارجه. وفي الأماكن التي تطول إقامتهم فيها بدون تهديد وشيك بالإزالة من قبل سلطات الدولة أو ملاّك الأراضي، قد يبني المهمشون أكواخهم بالأحجار الصغيرة والطين، ونادراً ما تُبنى بقطع الطوب الخرساني. لكن حتى في هذه الحالة، لا تَسْلم "المحاوي" من التهديد بالإزالة، بما في ذلك الحرق في حال وجود مقاومة من قبل سكانها.

عشوائيات المهمشين في تعز

بحسب آخر تعداد سكاني أُجري العام 2004، بلغت نسبة سكان محافظة تعز 12.16 في المئة من إجمالي سكان الجمهورية اليمنية، بمعدل نمو 2.47 في المئة سنوياً (2) . بهذه النسبة، تكون المحافظة هي الأكبر في عدد السكان وفي الكثافة السكانية أيضاً. أما نسبة سكان المدينة بالنسبة لسكان المدن الرئيسية في البلاد، فبلغت 11.9 في المئة (3).

توجد في مدينة تعز، والضواحي القريبة منها، ما لا يقل عن عشرة تجمعات عشوائية للمهمشين. بعضها يقع وسط أحياء سكنية: "محوى الروضة" خلف "مستشفى الثورة"، "محوى دي لوكس" ضمن أحياء مركز المدينة، و"محوى الحَصِب" بين مركز المدينة وطرفها الغربي. وهناك المحاوي البعيدة نسبياً عن الأحياء المزدحمة، ولكنها في نطاق الأحياء الطرَفية للمدينة: وادي جديد، وادي المعسّل، المفْتَش، بير باشا، كلابة. هناك أيضاً "محاوي" الضواحي القريبة من المدينة: الحوبان، مفرق ماوية، الضباب...

على إثر تزايد أعداد "المهمشين" في المدن، استحدثوا أكواخهم على أطرافها، مشكّلين تجمعات عشوائية تسمى محلّياً بـ"المحاوي". يتكون "المحوى" من عشرات الأكواخ، ويمكن أن يصل إلى المئات منها. غالباً ما يُبنى الكوخ ("الدَّيمة" باللهجة اليمنية) من الكرتون المقوّى وصفائح الزنك وقطع الأخشاب الصغيرة.

في "المحوى" هناك عالم مختلف: جلسات القات الممتدة إلى آخر الليل، أغاني بمكبرات الصوت، رقصات يمتزج فيها الفلكلور اليمني بالأفريقي. وقبل ظهور أجهزة الكاسيت، كان المهمشون يتشاركون مع "الدواشِن" في إحياء الأعراس في أرياف تعز. وقد اصطحبوا شغفهم بالموسيقى والرقص عندما انتقلوا إلى المدينة، وكأنها أفضل ملاذاتهم الآمنة لمقاومة سطوة التمييز.

إلى ذلك، ومنذ أواخر سبعينات القرن العشرين إلى بداية تسعيناته، ارتبطت منطقة "عُصَيفِرة" شمال المدينة، في الخطاب العام للأهالي، بمساكن المهمّشين العشوائية، وبأحواض تجميع مياه الصرف الصحي. ذلك أن تخطيط المدينة الذي نُفّذ العام 1978، تضمّن توجيه مياه الصرف الصحي إلى عُصيفرة، فظل التوسع العمراني غير مرغوب باتجاهها. لكن حين تقلصت المساحات الفارغة في الأطراف الأخرى للمدينة، بدأ يزحف على المنطقة شق الشوارع وبناء العمارات، فاضطر المهمشون للبحث عن مواضع أخرى، بما في ذلك المساحات شديدة الانحدار المطلة على مجاري السيول.

مطلع الألفية الثالثة، أنشأت الحكومة مدينتين سكنيتين للمهمشين في تعز، بدعم من الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي على التوالي: "مدينة الأمل" في الطرف الشرقي، سوق الجُملة - كلابة (96 وحدة) و"مدينة الوفاء" في الطرف الغربي - البِعْرارة (240 وحدة). والأخيرة بُنيت ضمن "مشروع حماية مدينة تعز من كوارث السيول". تحتوي كل وحدة سكنية على غرفتين ومطبخ وحمّام على الأقل، وهي مبنية بالطوب الخرساني، وبهيئة أفقية متجاوِرة، بحيث تشكل المدينة السكنية إجمالاً مربعاً/ مستطيلاً، مفتوحاً من إحدى جهاته.

بالنظر لعدد سكان "المحاوي"، تُعتبر هذه المبادرة الإسكانية قطرة في بحر. لا توجد إحصائية رسمية متاحة لتعداد المهمشين، لكن قياساً بعدد تجمعاتهم، ونسبة الـ12 في المئة التي قال الحذيفي إنه حصل عليها (بصورة استثنائية) من "المركز الوطني للإحصاء"، فلن تستوعب هذه الوحدات ثلث المهمشين في المدينة، حتى في حال وُزعت كل وحدة لعائلتين أو ثلاث. هكذا بقيت "المحاوي" هي المستوعب الأكثر كفاءة لاحتواء الانفجار السكاني للمهمّشين، حيث الزواج المبكّر والإنجاب غير المنظّم والعزوف عن التعليم، والرعاية الصحية شبه المنعدمة. وإلى ذلك، لم تتأقلم بعض العائلات مع نمط الحياة داخل المساكن الجديدة، فتنازل بعض المستفيدين عن مساكنهم مقابل المال لصالح عائلات أخرى، وأحياناً لصالح عائلات من أصول قبلية أو من فئات أقل تهميشاً.

ولا بد من توضيح بعض المصطلحات: التوصيف الاجتماعي السائد ينقسم ما بين قبيلي/ خادم أو مهمّش حسب التعريف الحديث. أما بالنسبة للتوصيف الطبقي داخل المجتمع، فهناك ما يشبه التنافس بين "السادة" (الهاشميين) والقبائل ذات الغلبة والملكية، على صدارة المكانة الاجتماعية. ثم تتفاوت التقسيمات الطبقية بعد ذلك حسب المهنة: تجار، حرفيون، عمال... إلخ. أكثر الفئات المنتقَصة على أساس المهنة هم الجزارون والحلاقون أو "المزاينة" (جمع "مُزيِّن)، وأحياناً عمال المطاعم والمقاهي الذين يُختصر وصفهم بـ"مقهوي". هناك فئة منتقَصة أيضاً تسمى في المناطق الوسطى "الدواشن" (جمع دوشان)، وهم الذين يأتون في المناسبات لمديح أصحابها مقابل المال.. لكن هذه الظاهرة خفّت مؤخراً. وفي مناطق قبائل الشمال يسمى هؤلاء -هم أنفسهم - ب"أبناء الخُمُس"، وهي فئة تشمل من يقوم بأعمال الخدمة لشيوخ القبائل وملاك الأرض، كما تشمل المغنين والعازفين، والعاملين في الحرف التي اشتغل بها يهود اليمن. ومن المفارقات أن الدواشن وأبناء الخمس من ذوي البشرة البيضاء. وعلى الرغم من تعرض منظومة الأعراف القبلية لبعض التعديلات بفعل تطور المجتمع، إلا أن البعد القبلي يطل برأسه في بعض القضايا، لاسيما في ظل سيطرة زعماء القبائل على المؤسسة التشريعية بعد "ثورة سبتمبر" في الشمال، وبعد الوحدة بين شطري اليمن.. أما بشأن العبودية فقد تلاشت تماماً، لكن الأسر ذات التاريخ العبودي لا يزال أفرادها، وهم كذلك من ذوي البشرة البيضاء، يوصَمون بكونهم عبيداً في الأصل، وبالتالي تحظر القبائل تزويجهم أو الزواج منهم.

داخل المجتمع المغلق، على تخوم الهامش

كغيره في المدن الأخرى، يتسم مجتمع المهمّشين في تعز بالانغلاق أمام المجتمع القبلي. فعلى الرغم من خروجهم معظم النهار للعمل، وأحياناً لتوفير احتياجاتهم بالتسول، ولاسيما بالنسبة للنساء والأطفال، إلا أنهم لا يرحّبون بدخول القبليين إلى حيزهم الخاص: "المحوى". داخل هذا الحيز يوجد عالم مختلف: جلسات القات الممتدة إلى آخر الليل، أغاني بمكبرات صوت مزدوجة، رقصات يصعب تتبع امتزاج الفلكلور اليمني بالأفريقي فيها، وأهازيج جلبتها المهاجرات الأُوَلُ من ليل القرى. فقبل ظهور أجهزة الكاسيت، كان المهمشون يتشاركون مع "الدواشِن" في إحياء الأعراس في أرياف تعز، بالأغاني والأهازيج والرقص المختلط على إيقاع الطبول ونغمات المزمار. عندما انتقل المهمشون إلى المدينة، اصطحبوا شغفهم بالفن والموسيقى والرقص، واستمروا في ممارسته داخل مجتمعهم المغلق، كما لو أنه أفضل ملاذاتهم الآمنة لمقاومة سطوة التمييز. وهذه تقاليد تشبه ما همَّ عليه الغجر في سائر بلدان المنطقة (ويسمون "النوَر" في بلاد الشام و"الكاولية" في العراق. وفي كتابه "ملوك العرب" قارن أمين الريحاني بين وظيفة الدوشان في اليمن ووظيفة "المشوبش" في لبنان).. ويقال أن أصول الذين يسمون في شمال اليمن ب"أبناء الخمس" وفي الوسط ب"الدواشن"، فارسية أو تركية ألحقتهم القبائل بخدمتها بعد أسرهم في الحروب، ومنهم شاعرة شعبية اسمها غزال المقدشية ناضلت ضد التمييز في القرن التاسع عشر، ولها بيت شهير يقول: "سوا سوا يا عباد الله متساوية... ما حد ولد حرة والثاني ولد جارية".

قامت مبادرة حكومية يتيمة لاستيعاب الطلاب من المهمشين في الجامعات، من دون تطبيق المعدلات المطلوبة عليهم ومع اعتماد المنح والمجانية. إلا أنه وبسبب عدم اهتمام السلطات بتحسين سوق العمل أمامهم لمواكبة مخرجاتهم الجامعية، لم يجد معظم الخريجين من "المهمشين" عملاً متاحاً إلا في "صندوق النظافة وتحسين المدينة"، العمل الذي كانوا سيحصلون عليه بدون تعليم..

غير أن هذا الانغلاق قابل للاستثناء في حالة واحدة: رغبة أي فرد من الوسط القبلي بالاندماج الفعلي في مجتمع الهامش. في مفارقة من هذا النوع، حدث أن استقبلت عشوائيات المهمشين في تعز، حالات انزياح فردية لأشخاص من الوسط القبلي. وعلى الرغم من كونها حالات تُعد على أصابع اليد، إلا أن دافعها كان الاضطهاد الأبوي والتمييز بين الأبناء. بالمقابل، تتزايد محاولات، فردية أيضاً، من قبل مهمّشين للتقرب من المجتمع القبلي على الرغم من إدراكهم لصعوبة الاندماج فيه. يحدث ذلك بدْءاً بالتعليم، إلى الالتزام الديني الميّال للتديّن الشعبي، وهذا يعني - وبالتالي - تغيير في نمط الحياة، والعيش على تخوم الحد الفاصل بين متن المجتمع الكبير وهامشهم هم. بهذه الطريقة، خرج من مجتمع المهمشين معلِّمون، موظفون حكوميون، نشطاء مدنيون وشعراء.

بقدر ما تؤشر محاولات الاندماج المتبادَل هذه إلى ضعف البنية القبلية في تعز، لكنه لا يمكن اعتبارها مؤشراً على اختلاف الوضع الاجتماعي للمهمشين عن أقرانهم في بقية المحافظات اليمنية. فالمدينة التي تُعرّف بكونها "عاصمة الثقافة اليمنية" لا تزال بعيدة عن نسج علاقة أفضل مع المهمشين الذين يعيشون فيها. ومَن تنطبق عليهم صفة "المثقف العضوي" من سكان المدينة يواجهون تهميشهم الخاص داخل المجتمع الكبير. في أفضل الأحوال، يمكن أن يُعلنوا تعاطفهم مع المهمشين وقضاياهم، كما يمكن أن يختلطوا بالنشطاء الذين خرجوا أو يحاولون الخروج من نمط حياة "المحوى". يمكن أيضاً أن تنشأ علاقات شخصية ناتجة عن تشارك الموقف من التهميش، لكن بدون التجرؤ على المضي بالعلاقة إلى أبعد من ذلك.

ينسج المجتمع القبلي اعتقاداته عن المهمشين "الذين لا يدفنون موتاهم". وفي الواقع، هم غير مرئيين أحياءً وأمواتاً! وفي حال اختصموا مع "قبائل"، ينتهي الأمر دائماً بتسوية، حتى في قضايا القتل... مع فارق أن للقبليين حق الرفض والمطالبة بالقصاص أو الثأر.

من ناحية عملية، تقف طبيعة المساكن في "المحاوي"، واختلاف العادات الاجتماعية، وغياب الحامل السياسي لحق المهمشين في الاندماج، كأبرز العوائق أمام تطور هذه العلاقة. ولعل ذلك ما جعل ممثل المهمشين في "مؤتمر الحوار الوطني" (4) ، نعمان الحذيفي، يصف الاحترام الذي كان يبديه له أعضاء المؤتمر، بـ"الاحترام الظاهري أو الإجباري". على أن دافع الإجبار هنا هو تفادي الاتهام بالعنصرية، وليس الالتزام بأي قانون يجرّم التمييز على أساس اللون أو الأصل.

تكمن مأساة المهمشين في أنهم لا يستطيعون التصرف كمواطنين أنداد لغيرهم بدون أن يُشهَر في وجوههم ذلك الوصف المهين: "خادم". وإلى ذلك، لا يشارك القبليون في أفراح المهمشين ومآتمهم، على الرغم من أن عقود الزواج يحررها "الأمين الشرعي" الأقرب لتجمعهم، وهو "قبيلي" بالضرورة. وفي حالة الموت، يحدث أن يفتقر كثيرون منهم لمراسم دفن دينية لائقة. هكذا بقي الغموض محيطاً بموت المهمشين وقبورهم. وعوضاً عن الاهتمام والتشارك، ينسج المجتمع القبلي اعتقاداته عن المهمشين "الذين لا يدفنون موتاهم". وفي الواقع، هم غير مرئيين أحياءً وأمواتاً! وفي حال اختصموا مع "قبائل"، ينتهي الأمر دائماً بتسوية، حتى في قضايا القتل. على أن التسويات في قضايا القتل هي من صميم العرف القبلي، مع فارق أن للقبليين حق الرفض والمطالبة بالقصاص أو الثأر. فيما يتعلق بمشكلاتهم البينية، نادراً ما يلجأ المهمشون لمراكز الشرطة، لأن خلافاتهم بسيطة، ويستطيع تسويتها "عاقل الحارة" التي يقع "المحوى" ضمنها. في التجمعات الكبيرة يمكن أن تعين السلطة المحلية "عاقلاً" من المهمشين، لكن هذا لا يمنحه أيّة تراتبية عليهم.

مبادرة يتيمة لمحو الأمية

في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، بدأت أصوات نشطاء المهمشين بالظهور. وتبنت الحكومة، على إثر تصاعد الانتقادات الدولية لها بشأن الوضع المزري لهذه الفئة، مبادرة خاصة بتمكين التلاميذ من المهمشين ذوي النسب المئوية المتدنية في الثانوية العامة، من التعليم الجامعي.

نُفذت المبادرة في جامعتي تعز وصنعاء، واقتضت استيعاب هؤلاء بنظام التعليم الموازي والنفقة الخاصة، مع إعفائهم من كافة رسوم الدراسة بهذا النظام. وعلى الرغم من أن المبادرة كانت بمثابة شمعة في الظلام، إلا أنها لم تسْلم من الفساد الإداري والمتاجرة بالفرصة المتاحة أمام هذه الفئة لكسر حالة العزوف عن التعليم. استمرت المبادرة في تحفيز أبناء المهمشين على الذهاب إلى المدرسة والجامعة، لكن نسبة الأمية ما زالت مرتفعة، والعزوف عن التعليم ظل مرتبطاً بمخاوفهم من الاندماج في مجتمع ما زال يزدريهم بصورة حاطة بالكرامة. وبسبب عدم اهتمام الحكومة بتحسين سوق العمل لمواكبة المخرجات الجامعية للمهمشين، لم يجد معظمهم عملاً متاحاً غير "صندوق النظافة وتحسين المدينة"، العمل الذي كانوا سيحصلون عليه بدون تعليم، وبنظام الأجر اليومي أو التعاقد.. ومؤخراً فقط، بمرتبات حكومية ثابتة.

بين نظامين وحرب

لا يزال العائق الاجتماعي هو الأكبر أمام اندماج المهمشين في الحياة العامة. مطلع الألفية الثالثة كان تحولاً فارقاً بالنسبة لهم بسبب اهتمام المجتمع الدولي بتحسين وضعهم الإسكاني والتعليمي، وتمكينهم من الوظيفة العامة بدون تمييز. على إثر هذا الاهتمام الذي رافقته ضغوط دولية على الحكومة، برزت أصوات نشطاء مدنيين من المهمشين الذين انخرطوا في التعليم، وطوروا مهاراتهم الثقافية بجهود ذاتية. وسمح نظام الرئيس صالح لهذه الأصوات بالظهور، واستقطب بعضها لممارسة النشاط المدني والحقوقي تحت مظلة الحزب الحاكم "المؤتمر الشعبي العام". وبناء على ذلك، احتوت قاعدة الحزب أعضاء من المهمشين أكثر من أي حزب آخر، بما في ذلك الحزب الاشتراكي، صاحب السبق في دمج المهمشين بالمجتمع ومؤسسات الدولة إبان حكمه في الجنوب.

وصف ممثل المهمشين في "مؤتمر الحوار الوطني" الاحترام الذي كان يبديه له أعضاء المؤتمر، بـ"الاحترام الظاهري أو الإجباري"، ودافع الإجبار هنا هو تفادي الاتهام بالعنصرية، وليس الالتزام بأي قانون يُجرّم التمييز على أساس اللون أو الأصل.

في تعز، كانت أصوات المهمشين في الانتخابات تذهب لصالح مرشحي الحزب الحاكم. ساعد في ذلك عزوف المهمشين عن الانتخابات أيضاً، كما عن الانخراط في جوانب كثيرة من حياة المجتمع الكبير. ولمواجهة عزوفهم عن المشاركة الانتخابية، شكل الحزب الحاكم لجاناً ميدانية للدفع بأفراد المهمشين، سواءً لتقييد أسمائهم في كشوفات الناخبين، أو لنقلهم يوم الاقتراع للإدلاء بأصواتهم. هذه اللجان كان يتم تشكيلها على مستوى كل دائرة انتخابية في البلاد، وغالباً ما كانت تشرف عليها شخصيات من ذوي التأثير على الناخبين، كل في محيطه.

ولأن العلاقات داخل مجتمع المهمشين تتسم بغلبة النزعة الفردية على حساب التماسك الجماعي، اعتاد الحزب الحاكم تشكيل لجان الدفع الخاصة بمهمشي تعز، بإشراف من إدارة "صندوق النظافة والتحسين"، جهة عملهم. وكان بوسع مشرفي لجان الدفع، في حال طالبهم بعض الناخبين بالنقود، أن يمنحوهم مصروف يوم واحد، هو يوم الاقتراع، على أن هذا لا يقتصر على المهمشين فقط.

وكما في إحصاءات التعداد السكاني، فلا توجد إحصاءات رسمية متاحة بأعداد الناخبين المهمشين على مستوى كل دائرة انتخابية. مع ذلك، أكد الحذيفي (5) أن الرئيس السابق علي عبد الله صالح وعده بأن يدعم فوزه لعضوية مجلس النواب باسم حزب المؤتمر الشعبي في الدائرة 34، إحدى الدوائر الانتخابية الخمس في المدينة. وتشمل هذه الدائرة بعض الأحياء الشرقية، وجزءاً من أحياء الشمال الشرقي، بما في ذلك، سوق الجملة - كلابة، حيث تقع "مدينة الأمل" السكنية الخاصة بالمهمشين.

لم تُجر تلك الانتخابات في العام 2009 كما كان يفترض، وبالتالي تعذر حدوث أية نتائج كان يمكن أن يسفر عنها صعود أول عضو برلماني من فئة المهمشين. غير أن الرئيس هادي، الذي تسلم رئاسة البلاد بعد صالح، على إثر احتجاجات ثورة شباط/ فبراير 2011، أصدر قرار تشكيل فرق مؤتمر الحوار الوطني متضمنة اسم الحذيفي ضمن قائمة الأعضاء، ليس كممثل عن فئة المهمشين، بل ضمن قائمة خاصة سميت "قائمة الرئيس".

بعد 10 أشهر من انعقاد المؤتمر، تضمنت النسخة النهائية لوثيقة الحوار 11 نقطة، كموجهات دستورية وقانونية لمعالجة أوضاع المهمشين. جميع تلك النقاط تصب في سياق الاعتراف بحقهم في المواطنة المتساوية في جميع مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية، بما في ذلك تمكينهم من الوظيفة العامة والوظائف العليا والالتحاق بالمؤسسات الأمنية والعسكرية بدون تمييز. لكن قبل دخول تلك الوثيقة حيز التنفيذ، اندلعت الحرب التي لم تتوقف منذ خمس سنوات.

في الشهر الأول من الحرب، نيسان/ أبريل 2015، تعرض تجمع سكني للمهمشين في الضاحية الشرقية لمدينة تعز لغارة جوية من قبل طيران "التحالف العربي" قتل وجرح فيها أكثر من 25 شخصاً. لم تكن تلك الغارة الوحيدة التي أوقعت ضحايا من المهمّشين، لكنها كانت الأولى. وعلى إثرها انخرط الكثير من شباب هذه الفئة في صفوف جماعة الحوثيين كمقاتلين أو مجندين أمنيين. وضمن مناطق المدينة الواقعة تحت سيطرة "الحكومة الشرعية"، كان حيّ البعرارة مسرحاً لمواجهات عنيفة بين الطرفين. وخلال تلك المواجهات، تعرضت "مدينة الوفاء" السكنية لقذائف من جانب الحوثيين، أسفرت إحداها عن مقتل وجرح أكثر من ستة أشخاص. وكما حدث في الجانب الشرقي لتعز، انضم حينها عشرات المهمشين للقتال في صفوف قوات "الشرعية"!

معضلة الاندماج

بإمعان النظر في انقسام المهمشين على طرفي الحرب، فهو يبدو انقساماً موازياً لانقسام المجتمع الكبير وليس جزءاً منه. ذلك أن انقسام المجتمع الكبير حدده تضارب في المصالح السياسية والفئوية، وشكلت الهويات القبلية والمناطقية المتعالية على الجامع الوطني، ملاذاً للمنقسِمين ومنطلقاً لهم في الوقت نفسه. أما المهمشون فلم يحدث أن تشكلت لديهم أية مصالح من هذا النوع، كما أن حقهم في الحصول على الأوراق الثبوتية ومشاركتهم في الاقتراع، لا تعني القابلية لتمكينهم اجتماعياً من المواطنة المتساوية. فالتمييز الذي تواجهه هذه الفئة هو اجتماعي في المقام الأول.

... وإذا كانت علاقات مكونات المجتمع الأخرى غير متعافية إلى درجة زعزعة الاستقرار السياسي، فأيّة درجة من الاستجابة يمكن أن يبديها مجتمع بهذا الوضع لدمج المهمشين فيه، أو حتى الاعتراف بخصوصيتهم كأقلية؟

محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________

1- في محادثة خاصة مع الكاتب لغرض هذه الدراسة
2 - المركز الوطني للمعلومات
- آخر تصفح: 29/8/2019
3 - التقرير الثاني للنتائج النهائية للتعداد العام للسكان والمساكن 2004 (الخصائص الديموغرافية للسكان)، عن الجهاز المركزي للإحصاء في اليمن. ويلاحظ أن "الخصائص الديموغرافية" في التقرير لم تتضمن أية إشارة لتنوع إثني ضمن المجتمع اليمني.
4 - بعد "الانتفاضة الشبابية" اليمنية التي انطلقت من جامعة صنعاء في 11 شباط / فبراير 2011. استمر المؤتمر الذي يُفترض به أنه جمع ممثلين عن كل مكونات المجتمع اليمني من 18 آذار / مارس 2013 إلى 25 كانون الثاني / يناير 2014.
5 - المقابلة نفسها المذكورة سابقاً

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه