"طرف سوق أفضل من مئة قرية"! سمعت هذا المثل كثيراً في طفولتي التي قضيت أغلبها في القرية. مدلول المثل، في سياقات قوله، كان يعكس تذمر المستهلك من مبالغة ملاّك الدكاكين الثلاثة في القرية بأسعار السلع. الباعة المتجولون كانوا يسمعونه أيضاَ، وطالما شكلت المساومة على السعر فرصة لانخراط المستهلك والبائع في ممارسة لعبة نفسية بشأن أصالة السلعة، والفارق السعري بين السوق والقرية.
كان ذلك في ثمانينات القرن العشرين. وكان "مفرق ماوية" حينها، أقرب سوق يومي للمنطقة. يمكن الاستدلال بهذا السوق على أهم عوامل نجاح الأسواق الريفية: موقعها على مفترق طرق، لاسيما إذا كانت ضمن شبكة الطرق المعبدة الرابطة بين المدن الرئيسية والثانوية ومراكز الحكومة في المديريات. من ناحية أخرى، تتبع تحولات الأسواق الريفية في مديرية ماوية، يمكن أن يعطي فكرة عامة عن تحولات الأسواق الريفية في اليمن.
أسواق الثلاثاء.. أسواق في كل الأيام
تقع مديرية ماوية شرقي مدينة تعز، وتتبعها إدارياً. الطريق إليها يمر عبر "المفرق" المسمى باسمها، ويبعد عن المدينة بحوالي 15كلم، وعن مركز المديرية بحوالي 30 كلم. لم تكن هناك ميزة لنشوء هذا السوق سوى موقعه على طريق السيارات الرابط بين صنعاء وتعز وعدن وغيرها من عواصم المحافظات. على مسافة 1.5 كلم باتجاه ماوية، تقع قرية الجَنَد ومسجدها الذي أسسه معاذ بن جبل، ولا يزال يحمل اسمه. كانت الجند محطة استراحة للتجار والمتسوقين والمسافرين عموماً، عندما كانت الجمال والحمير وسيلة النقل الوحيدة. بعد شق طريق السيارة لربط مديرية ماوية بشبكة الطرق الرئيسية للمحافظات الشمالية، خفُت النشاط التجاري والخدمي للجند، على الرغم من مرور الطريق عبرها. وعلى مرّ السنين لم تتحول الجند إلى سوق ريفي أو مدينة ثانوية، كحال مدينة "القاعدة" التي تبعد عنها بأقل من 5 كلم شمالاً.
كانت مدينة "القاعدة" محطة استراحة على طريق الجمال أيضاً، لكن طريق السيارة المؤدي إلى صنعاء مرّ عبرها. فعزز ذلك حضورها كسوق ريفي ومركز خدمة على طريق يربط شمال البلاد بجنوبها، ناهيك عن شبكة الطرق المتفرعة منه. ومع حلول عقد الثمانينات، قضت السيارة على معظم الأسواق الأسبوعية القديمة في المديريات القريبة من "القاعدة"، كما اختصر يوم الثلاثاء كل أيام تلك الأسواق. وعندما كان المستهلك في قريتنا يستحضر المثل الذي يفضّل سوقاً واحدة على مئة قرية، فهو يفكر بسوق الثلاثاء في "القاعدة" أكثر من سوق "المفرق". ذلك أنه سيحتاج لبيع رأس غنم، أو عجل للحصول على المال. كما أن الذهاب إلى السوق عبر طريق غير معبّد، وفي ظل ندرة السيارات وشحّ المال، كان مجازفة كبرى ما لم تكن السفرة متعددة الأهداف. وبالنسبة لمستهلك تعتمد معيشته على تربية الماشية وفلاحة الأرض كل صيف، كان عليه أن يقرر إذا ما كان احتياجه ملحاً، أو يمكن تأجيله إلى يوم الثلاثاء.
منذ زمن بعيد، ارتبط إنشاء الأسواق الأسبوعية في اليمن بالمبدأ البديهي لطبيعة السوق: ما يحتاج الناس تداوله بيعاً وشراءً. لكنه في سياق آلية التنظيم ارتبط بالنفوذ القبلي. هكذا كان لكل سوق أسبوعي "عاقل" يستمد نفوذه من سلطة الشيخ، الذي يقع السوق في نطاق ملكيته أو ملكية أحد أفراد قبيلته.
في معظم أرياف اليمن، لا تزال المواعيد الأسبوعية للسوق حاضرة في الأذهان، لكنه حضور منحصر في بيع وشراء المواشي. ولحل مشكلة الانتقال، جرى نقل الأسواق القديمة التي لم يحالفها الحظ بمرور طريق السيارة فيها، إلى أقرب سوق مستحدث، خاصة على مفترقات الطرق. علاوة على ذلك، كان للفلاحين أسواقاً أسبوعية حتى في المدن الرئيسية. إذ لم تخل مدينة رئيسية من سوق أسبوعي للمواشي ومعدات الزراعة. في صنعاء مثلاً، سوق الأحد في منطقة الروضة، التي صارت الآن ضمن الأحياء الشرقية للعاصمة. في ذمار سوق الأربعاء، في إب سوق السبت والخميس، في لحج، الأثنين والخميس، في زنجبار-أبين سوق السبت، وفي تعز سوق الأحد. وعلى الرغم من تحول هذه الأسواق إلى يومية بفعل تزايد محلات القصابة والمطاعم، وسهولة الانتقال من الريف للمدينة، إلا أنها تكون أكثر حيوية في الأيام المرتبطة بنشوئها.
منذ زمن بعيد، ارتبط إنشاء الأسواق الأسبوعية في اليمن بالمبدأ البديهي لطبيعة السوق: ما يحتاج الناس تداوله بيعاً وشراءً. لكنه في سياق آلية التنظيم ارتبط بالنفوذ القبلي. هكذا كان لكل سوق أسبوعي "عاقل"، يستمد نفوذه من سلطة الشيخ، الذي يقع السوق في نطاق ملكيته أو ملكية أحد أفراد قبيلته. وبطبيعة المجتمع العشائري، كان نظام السوق خاضعاً لأحكام العرف القبلي. علاوة على تنظيم عمليات البيع والشراء، التي كانت تتم عادة من بزوغ الشمس إلى الظهيرة، كان أبرز عُرف قبلي بالنسبة للسوق، هو اعتباره مكاناً آمناً لكل مرتاديه، وبالتالي يُحظّر الاقتتال الثأري داخل السوق. من يقدم على ذلك، فعليه أن يتحمل عواقب "العيب الأسود"، وهي عواقب باهظة الكلفة مادياً، ناهيك عن وصمة العار التي تلحق بالقاتل وبقبيلته.
من "الرديف" إلى أكياس البلاستيك
"الرديف" هو الصرة القماشية أو البُقجة. باللهجة اليمنية تسمى البقجة "بُقشة"، مع فارق إمكانية استخدام الأخيرة للنساء أو الباعة المتجولين، وحصر استخدام "الرديف" على الرجال العائدين من السوق بأكتاف مثقلة. الرجال الذين تزيد أعمارهم الآن عن الستين سنة، يتذكرون"الرديف" جيداً. إذ كان امتلاؤه أو خواؤه معياراً لسخاء رجل العائلة أو بخله، وبالمثل، معياراً للحظ الجيد أو العاثر. لم يكن المتسوق بحاجة لوفرة نقود كي يعود بـ"رديفه" ممتلئاً. إذ أن 95 في المئة على الأقل من مشترياته هي منتجات محليّة. فحتى نهاية عقد السبعينات الفائت، كان يكفيه أن يبيع ماشيته أو حبوبه أو أي منتج يدوي إذا كان صنائعياً، ثم يشتري حاجته. من الطرائف التي يتذكرها كبار السن، أن سعر جلد الماشية كان يساوي سعرها وهي حية.
أبرز عُرف قبلي بالنسبة للسوق، هو اعتباره مكاناً آمناً لكل مرتاديه، ويُحظّر بالتالي الاقتتال الثأري داخله. وعلى من يقْدم على ذلك أن يتحمل عواقب "العيب الأسود"، وهي عواقب باهظة الكلفة مادياً، ناهيك عن وصمة العار التي تلحق بالقاتل وبقبيلته.
الآن لم تعد الجلود سلعة. وعلى عكس اختصار السيارة لمعظم أسواق الريف القديمة، حلت الأكياس البلاستيكية محل "الرديف" الذي كان يتسع لكل مشتريات المتسوق. مما بات يتذكره كبار السن أيضاً بحنين جارف، أنه كان بمقدورهم شراء "نصف سوق" بنصف ريال أو ريال كحد أقصى.
لم تكن لليمنيين عملة موحدة وثابتة قبل ثورتي أيلول / سبتمبر 1962 في الشمال، وتشرين الأول/ أكتوبر 1963 في الجنوب. غير أن "الريال الفرنصي" (الفرنسي)، بالملامح الفضية الناتئة لوجه إمبراطورة النمسا والمجر ماريا تريزا، كان الأعلى قيمة، سواء في الشمال أو في الجنوب. كان امتلاكه مؤشراً للثراء، وله مكانة "العملة الصعبة" التي يحتلها الدولار الأمريكي حالياً. مع ذلك، كان الريال المحلي ذا قيمة كبيرة، ومعظم التداولات النقدية للمستهلكين تتم بالفئات الأدنى من الريال، بما في ذلك فئة "الباولة" و"البُقشة". نعم "بُقشة"، مع ما تحيل إليه التصورات الذهنية لربط مدلول الاسم كعملة، بمدلوله الأصلي كبقجة المتسوق الريفي. هي تسمية استحدثتها حكومة "ثورة سبتمبر" لأجزاء الريال الجمهوري في الشمال، بحيث تساوي الأربعون بقشة ريالاً كاملاً. أما في الجنوب فاعتمدت حكومة "ثورة أكتوبر" الدينار كعملة وطنية رئيسية، مع استمرار تداول "الشلِن" كعملة فرعية.
"الرديف" هو الصرة القماشية أو البُقجة. وكان امتلاؤه أو خواؤه معياراً لسخاء رجل العائلة أو بخله، وبالمثل، معياراً للحظ الجيد أو العاثر. لم يكن المتسوق بحاجة لوفرة نقود كي يعود بـ"رديفه" ممتلئاً. إذ أن 95 في المئة على الأقل من مشترياته هي منتجات محليّة.
استمر "الرديف" رمزاً للتسوق الريفي حتى منتصف الثمانينات الفائتة، حين دخلت اليمن سوق الإنتاج النفطي. وعلى الرغم من استمرار توسع شبكة الطرق الرابطة بين المدن الرئيسية، وبينها وبين مراكز المديريات الريفية، إلا أن ملامح الأسواق الريفية لم تتغير كثيراً حتى العام 1990. ربما طغى ارتباط هذا العام لدى عامة اليمنيين بالوحدة بين الشطرين الشمالي والجنوبي، أكثر مما هي ملاحظة التحولات العالمية التي استفردت الرأسمالية على إثرها بأسواق العالم.
عصر الرأسمالية الأحادي
في كتابها "السيطرة الصامتة"، تذكر نورينا هيريتس كيف دعمت الولايات المتحدة الأمريكية إذاعات محلية لتسويق الجينز والكوكا كولا ومنتجات عصرية أخرى، لتغيير نمط حياة سكان التيبت. الصلابة الشديدة التي يبديها سكان التيبت للتمسك بنمط حياتهم، تجد شبيهاً لها في اليمن، حيث تتحالف الأعراف والتقاليد القبلية مع المحافظة الدينية لمواجهة الانفتاح على الثقافة الغربية. منذ أواخر السبعينات الفائتة راجت المواعظ الدينية في الشمال بشأن "الغزو الثقافي" و"الانحلال الأخلاقي"، وتمّ التضييق على الحريات الشخصية إلى درجة الخنق والمصادرة. استمرت سطوة المواعظ الدينية والتقاليد القبلية بعد الوحدة، شاملة الشمال والجنوب. غير أن ذلك لم يمنع تغول الرأسمالية و"غزو" كل مظاهر الحياة عبر السوق.
كان الريال المحلي ذا قيمة كبيرة، ومعظم التداولات النقدية للمستهلكين تتم بالفئات الأدنى من الريال ومنهاال"بُقشة"، وهي تسمية استحدثتها حكومة "ثورة سبتمبر" لأجزاء الريال الجمهوري في الشمال، بحيث تساوي الأربعون بقشة ريالاً كاملاً. أما في الجنوب فاعتمدت حكومة "ثورة أكتوبر" الدينار كعملة وطنية رئيسية، مع استمرار تداول "الشلِن" كعملة فرعية.
هناك مثل يمني آخر مفاده أن النقود تجعل الجن يضحكون. ينطبق هذا المثل على حالة الإغواء التي جرفت المتدينين والمحافظين والمنفتحين، على حد سواء، إلى "السوق الحرة" وهامش الأرباح الذي لا يحده سقف. أتذكر نقاشات أبي مع بعض أصدقائه في القرية حول شحنات القمح والمواد الغذائية والقروض التي كانت تتلقاها اليمن بطريقة ميسرة للغاية. كان يقول إن إغداق المساعدات الغذائية على اليمن هدفه تثبيط همة المزارعين اليمنيين عن إنتاج الحبوب، وتعويد الشعب على أكل ما لا يزرع، ولبس ما لا يصنع. لقد كان ضابطاً في الجيش الجمهوري في الشمال حتى أواخر العام 1968، وبعد أن ترك الجيش عاد للعمل في الزراعة، وفي مهن أخرى بينها بيع وشراء المواشي. رغم أن تحليلاته كانت توحي بطابع تعويضي عن مكانة فقدها، إلا أن اختياره لهذه المهنة لم يكن اعتباطاً. لقد كان في طفولته يرافق والده أثناء نقل البضائع على الجمال من عدن إلى ذمار، مروراً بأكثر من عشر محطات استراحة، إحداها "القاعدة". ولأن "الجنَد" قريبة من قراهم، فقد كان سكان "ماوية" العاملين في نقل البضائع، يفضلون الاستراحة في بيوتهم.
وحتى بعد دخول السيارة كوسيلة نقل للبضائع، استمر طريق الجمال عبر مديرية ماوية تهرباً من دفع الرسوم الجمركية في منطقة الراهدة- آخر حدود الشمال مع الجنوب سابقاً (80 كلم جنوب مدينة تعز). توحد الشمال والجنوب في العام 1990، وانصهر النظام الاشتراكي في بوتقة النظام الرأسمالي في الشمال. ولأن حظ اليمنيين من الاستقرار والرخاء يتأرجح بين تعيس وأتعس منذ أكثر من 1600 سنة، لم يتمكنوا من معرفة أي النظامين يجلب الحظ. لقد تداخل توحيد اليمن مع سقوط آخر قلاع الاتحاد السوفييتي ومع انهيار جدار برلين، ومع تعبيد الكثير من الطرق الريفية، ومن ضمنها طريق مديرية ماوية، الذي يربط مركزها بمدينة تعز، وبالتالي بقية المدن.
هناك مثل يمني مفاده أن النقود تجعل الجن يضحكون. وهو ينطبق على حالة الإغواء التي جرفت المتدينين والمحافظين والمنفتحين، على حد سواء، إلى "السوق الحرة" وهامش الأرباح الذي لا يحده سقف.
خلال العشرين سنة التي أعقبت تلك التحولات المتزامنة، بدا كما لو أن نظام التجارة الحرة والسوق المفتوح في طريقه لتمدين الريف وترييف المدن. ومع ذلك، بقيت معدلات الفقر في اليمن تتركز في الأرياف بنسبة 40 في المئة، حسب إحصاءات البنك الدولي التي بنى عليها خطة "القضاء على الفقر المدقع وتعزيز الرخاء المشترك" بحلول العام 2030.
أدى تعبيد الطرق الريفية بالأسفلت إلى ازدهار الأسواق التي استحدثت على إثر الشق فقط، كما أدى لنشوء أسواق جديدة. وخلال عشرين سنة، تركزت معظم مشاريع وزارة الأشغال العامة في شق وتعبيد الطرق. وفي العام 2014، كان يفترض أن تبدأ تنفيذ أطول وأضخم طريق سريع بالشراكة مع البنك الدولي: طريق صعدة- عدن، الذي كان خط سيره يشمل مناطق ريفية فقط، أو يتقاطع مع طرق معبدة متصلة بها. لكن الحرب التي اندلعت في العام 2015 أدت لخنق هذا المشروع العملاق في مهده.
بعد اندلاع الحرب في 2015، حدثت هجرة عكسية من المدينة إلى الريف. ولم يكن سبب ذلك هو الاقتتال فقط. ففي الأشهر الأولى لاندلاع الحرب، فقد الآلاف أعمالهم في المدن، وفي السنة التالية، توقف صرف المرتبات للموظفين الحكوميين. وإلى النازحين من المدن، انضم نازحون من مناطق ريفية وضعها القدَر على خطوط التماس بين المتحاربين.
نظرياً، تكمن عوامل إنشاء سوق ريفي قابل للازدهار بسرعة، في كون موقعه على طريق معبّد، وعلى مفترق طرق لقرى ذات كثافة سكانية عالية. غير أن العامل الأكثر حسماً هو ذلك الضارب في القدم: النفوذ القبلي.يحسم النفوذ القبلي أمر التنافس التجاري، لأنه يوفر أهم ضمانات الاستثمار: الحماية. إضافة لذلك، وبسبب تداخل النفوذ الحكومي مع النفوذ القبلي، فقد اكتسب الأخير قوة أكبر داخل المجتمعات المحلية، وبإمكانه تأمين تنفيذ مشاريع التنمية الريفية، بما في ذلك مشاريع البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
اقتصاد الحرب
بعد اندلاع الحرب في 2015، حدث ما يشبه الهجرة العكسية من المدينة إلى الريف. أكثر المدن الرئيسية التي شهدت مواجهات مسلحة على الأرض، هي عدن وتعز والحُديدة. غير أن حركة النزوح أو الهجرة العكسية لم يكن سببها الاقتتال فقط. ففي الأشهر الأولى لاندلاع الحرب، فقد الآلاف أعمالهم في المدن، وفي السنة التالية، توقف صرف المرتبات للموظفين الحكوميين. وإلى النازحين من المدن، انضم نازحون من مناطق ريفية وضعها القدر على خطوط التماس بين المتحاربين. مديرية ماوية كانت ضمن المناطق الريفية التي استقبلت ما يقدر بثلاثة أضعاف حجم سكانها المقيمين قبل الحرب. وعلى الرغم من اندلاع ثلاث جبهات قتال على أطرافها الجنوبية منذ سنتين، إلا أن أسواقها الواقعة على الطريق الأسفلتي لا تزال تتوسع كمنافذ توزيع للبضائع المستوردة. كما أن طرقها الفرعية المحاذية لأطراف محافظات إب، الضالع ولحج، تخدم تدفق البضائع إليها وعبرها. ومن المفارقات اللافتة، أن الطريق الرئيسي بينها وبين مدينة تعز مقطوع، بينما صارت أقرب مدينة رئيسية لها، هي مدينة إب شمالاً.
النزوح الصامت في اليمن
11-04-2019
في مناطق ريفية أخرى، جرى استخدام الطرق المعبدة كبديل للطرق الرئيسية التي كانت تربط بين عواصم المحافظات. أدى ذلكلنشوء أسواق ريفية جديدة على هذه الطرق، كما توسعت الأسواق التي أنشئت خلال سنوات "التنمية الريفية". وبصورة متداخلة ومتزامنة مع حركة النزوح والهجرة العكسية، تشهد الأسواق الريفية المزدهرة والقرى القريبة منها، تغيراً ديموغرافياً ملحوظاً، لاسيما في نطاق محافظتي تعز وإب. ففي ظل استمرار الحرب، قرر الكثير من النازحين والعائدين من المدن والباحثين عن فرص عمل أفضل، الاستقرار مع أسرهم في المكان الأكثر أماناً لهم. وعلى إثر ذلك، ارتفعت أسعار الأراضي، وإيجارات المحلات والمساكن، وزحفت الأسواق نحو القرى. وفي حين كانت القيم الريفية والقبلية تعتبر تأجير البيوت في القرى عيباً، صار الناس لا يتحرجون من ذلك. ناهيك عن أن بعض المنظمات العاملة في الخدمة الإنسانية، باتت تستأجر لموظفيها مكاتب ومساكن في أسواق الأرياف أو القرى المحيطة بها.
وفي ذروة هذا التوسع الاستثماري، لن يخلو الطريق المعبد من رجل كبير السن وصل زحف السوق إلى أطراف قريته. سيخبرك بتذمر كيف تحول المثل الذي يفضل "طرف سوق" على مئة قرية، إلى نقمة. وفي الوجوه اللاهثة للمتسوقين، سوف ترى مأساة إنسان الريف، وهو يتحول يوماً بعد آخر إلى كائن استهلاكي صرف، حتى في ظل الحرب.