الجزائر: مواطنون بتمام معنى الكلمة وأنصاف مواطنين

غذت معركةٌ لفظية بين علي حداد، الملياردير الجزائري وصاحب شركة للأشغال العمومية، ولويزة حنون، زعيمة حزب تروتسكي من المعارضة "المرخص لها"، نقاشا يكشف تطوّرَ نظام السلطة في الجزائر في هذه الفترة الموسومة بشلل الحياة العامة.   المال: منظورية جديدة   رئيسة حزب العمال، التي تأسف لما أسمته "برلسكة" (من برلوسكوني) النظام، اتهمت
2014-12-10

عمر بن درة

خبير اقتصادي من الجزائر


شارك
| fr
حسان عمراوي - الجزائر

غذت معركةٌ لفظية بين علي حداد، الملياردير الجزائري وصاحب شركة للأشغال العمومية، ولويزة حنون، زعيمة حزب تروتسكي من المعارضة "المرخص لها"، نقاشا يكشف تطوّرَ نظام السلطة في الجزائر في هذه الفترة الموسومة بشلل الحياة العامة.
 

المال: منظورية جديدة
 

رئيسة حزب العمال، التي تأسف لما أسمته "برلسكة" (من برلوسكوني) النظام، اتهمت رجلَ الأعمال بحوك دسائسَ استهدفت تعيين أحد المقربين إليه على رأس سوناتراك، الشركة العمومية للمحروقات البالغة الأهمية الإستراتيجية. وبمناسبة هذا السجال الذي بولغ في وصف أهميته، تجد الصحافة الجزائرية، وهي صحافة تخضع لمراقبة لصيقة، متعةً كبيرة في اكتشاف وجود أصحاب هذه الثروات الطائلة، بل وبلغ الأمر بها محاولةَ تصنيفهم وتقييم تأثيرهم على مراكز القرار. وتتباين مستويات جودة هذا النقاش الصحافي، ولن نتوقف هنا عند رد فعل أحد أصدقاء الملياردير علي حداد من مستوردي السيارات التي صدمت آذاناً من العفة بمكان وهو يأمر مناضلة الأممية الرابعة بالتزام الصمت.
وفي وجه الهجمة التروتسكية، كان ردُّ فعل الرجل العصامي - الذي احتل فجأة صفحات الجرائد الأولى وانتُخب بالإجماع رئيسا لمنتدى رؤساء المؤسسات، فيما هو أشبه بإعلان نصر مبين - ردّ فعل معتدلا. فبنبرة لا تفخيم فيها ولا تنميق، وبما يليق بالأقوياء الحقيقيين من تواضع، صرّح علي حداد بكل بساطة بأنه "مواطن بتمام معنى الكلمة"، مذكرا بنسبه الوطني ومفتخرا بارتقائه إلى القمة بالاعتماد على جهد ساعديه. وباختياره هذا الميدان للتعليق على اتهامات لويزة حنون، سلط الملياردير، الذي كان أمين مال حملة بوتفليقة خلال انتخابات نيسان/ابريل 2014 الرئاسية، على مفهوم المواطَنة ضوءا خصوصيا، مقتبسا من تنظيم السلطة السياسية في الجزائر.
فبإعلانه قرابته من أسرة "أصحاب القرار" وتنويهه بصداقته مع بعض أساطين النظام، انسحب علي حداد "المواطن بتمام معنى الكلمة" من الظل الذي يُحبَس فيه عادة المتعاملون الاقتصاديون الجزائريون. وهذه منظورية (وجاهة) جديدة، وهي تعكس نقلة للنظام.
وباختياره هذا النوع من المُحاجّات، أثبت ربّ أرباب العمل حقيقة وجود تراتبية للمواطَنة وكونَ بعضِها فوق بعضٍ درجات، وبالرغم من التباس صياغة ما قاله، إلا انه يمكن استخلاص معناه وفهمه تمام الفهم. ولا حاجة لتحليلات ألمعية لندرك، بالنظر إلى وضع الحريات العامة الحالية وإلى فداحة التفاوت الاجتماعي، بأنه تحت المواطنين فوق العادة، يوجد مواطنون "بدون تمام معنى الكلمة"، مواطنون منقوصون، لا نصيب لهم من المواطنة، بل هم لا ـ مواطنون. ويشكل أولئك الذين لا ينالون من الريع إلا النزر اليسير أو لا سبيل لهم إليه بتاتا فئات المواطنين من الدرجة الثانية أو من "الصنف الثاني" (deuxième collège) باستخدام مصطلحات الحقبة الاستعمارية التي استرجعت كل ما كان لها في وصف الواقع من دقة ووجاهة.
 

تنظيم للعسكر وأصحاب الأعمال
 

أن تكون "مواطنا بتمام معنى الكلمة" يعني التمتع بمجموع الحقوق والامتيازات التي تتلازم مع الانتماء إلى المنزلة العليا. وفي بلد تتشابك فيه خيوط الحقيقة والأكاذيب وتختلط التراجيديا بالمهازل، من الواضح للجميع أنه لا يحظى بتبوء هذه المكانة سوى أقليةٍ قريبة من مراكز القرار العسكرية - السياسية: أقرباء قادة الجيش وقادة البوليس السياسي (دائرة الاستعلامات والأمن التابعة للجيش)، وبطانة رئيس الجمهورية الذي أنهكه المرض أيما إنهاك.
هؤلاء "المواطنون بتمام معنى الكلمة" يجاورون إذاً مراكز التحكم في الريع الوطني وهم لا يُخفون ذلك، بل بالعكس، يرددونه على رؤوس الملأ. وهم إذ يفعلون، يثبتون أن المواطنة مفهومٌ قابل للتعديل حسب مستوى القرب من صمامات النفط ودرجة انفتاح هذه الصمامات أو انغلاقها. إثراء هذه الاوساط البيِّنُ السريع الذي يذكرنا بفيلم لفولكر شلوندروف (الغنى المباغت لأهالي كومباش الفقراء)، يحجب في الحقيقة عن أعيننا تشكُّل ثروات أوفر بكثير وراء البحار لا يَظهر أصحابُها في المشهد البتة. ويُكوّن أصحاب الأعمال هؤلاء ومن يرعاهم في الأوساط العسكرية - الأمنية بنيةَ النظام الجزائري.
ومن الواضح أن الأمر يتعلق هنا بتنظيم يجمع العسكر بأصحاب الأعمال، لا على الإطلاق بـ"مافيا سياسية - مالية" كما يلح على ذلك بعضُ مختصي الدعاية المكلفين بتغذية الالتباس لتعقيد عملية تحديد هوية الفاعلين الحقيقيين. والحال أن ميزان القوى داخل هذا التنظيم الثنائي الأطراف انقلب على امتداد حكم بوتفليقة. فبعد أن كانت كفة العسكر راجحةً إلى غاية السنوات القليلة الماضية، تفرض الأوليغارشيا اليوم نفسها في قمة السلطة.
وإذا كان جزء من الثروات التي تكونت خلال الفترة الاستعمارية يدين بالفضل في تكوينه لقرب أصحابه من المحتلّ، فإن الثروات الجزائرية بعد الاستقلال تشكلت بادئ ذي بدء بشكل غير قانوني، في ظل الصفقات العمومية، سواء أكانت صفقات إنجاز أم استيراد. تحت حكم الرئيسين هواري بومدين (1965-1978) والشاذلي بن جديد (1979-1992)، كان سماسرة أخفياء مكلفين بجمع العمولات والرشى التي كانت تودع في حسابات مصرفية في الخارج، وتحول، في مرحلة أولية، إلى ممتلكات عقارية. ومنذ تلك الفترة، ثروات أعضاء النخبة المميزة ( (nomenklatura الجزائرية في فرنسا سرٌّ من أسرار الدولة، بل ومن أكثرها حُظوةً بالكتمان، رغم أن مصالح الضرائب والأجهزة الشُرطية المعنية على أتمّ دراية بها.
 

فن السمسرة وإعادة التدوير
 

ومنذ التحرير الزائف للاقتصاد باتفاقيات 1994 مع صندوق النقد الدولي، وبالتخفي تحت غطاء الحرب القذرة لسنوات التسعينيات، أصبحت هذه "الثروات المواطنية" تُنتَج "قانونيا" عن طريق إغداق الريع النفطي، دون حسيب أو رقيب، في شكل صفقات عمومية وقروض مصرفية ومنح حقوق استغلال مختلف قطاعات استيراد السلع والخدمات بصورة تتفاوت صفتها الرسمية. ودون أدنى شك، يُعد من بمقدورهم الاستفادة من مجمل هذه التعديات على القانون أعضاء زمرة متفردة هي زمرة "المواطنين بتمام معنى الكلمة".
ولا يستثمر هؤلاء "المواطنون بتمام معنى الكلمة" في بلادهم، وإن استثمروا فقليلا، فما يشغل بالَهم أكثر هو تحويل االرساميل إلى أوروبا أو إلى الفراديس الجبائية. إنهم - وإن عازتهم الثقافة العامة - المكافئُ الدقيق للأوليغارشيا الروسية لمرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. ويؤدي مليارديرات الانفتاح الجزائري ومليارديرات عمليات الخصخصة الروسية الدور نفسه، كلٌّ في التنظيم الذي ينتمي إليه. في روسيا، منذ اعتلاء فلاديمير بوتين سدة السلطة وعودة رجال جهاز الأمن الفيدرالي (البوليس السري) إلى مقاليد الحكم، أعيد فرضُ النظام داخل هذه الأوساط فتخلى "أوغاد" عهد بوريس يلتسين عن مواقعهم لصالح مُلّاك منضبطين، مكلفين نظريا، ودون كبيرِ نجاحٍ لحد الساعة، بدفع ديناميكية اقتصادية جبارة مبنية على إنتاج ذي قيمة مضافة عالية على المنوال الكوري الجنوبي.
وفي الواقع، فإن الشايبول Chaebols - التي كانت أقلمة كورية جنوبية للشركات القابضة الأنجلوسكسونية وللزايباتسو Zaibatsuاليابانية ـ ظلت لمدة طويلة تنعم باحتضان أجهزة الدولة لها، وهي حاليا أطراف تلعب دورا حاسما في تطور اقتصاد بلد كان ناتجه الداخلي الخام في أواخر الستينيات أدنى من الناتج الداخلي الخام الجزائري. وهنا نشير إلى أن وكالة الاستخبارات المركزية الكورية تعيسةَ الذكر (KCIA) نسجت بدءا من أواخر الثمانينيات علاقات متينة مع نظيرتها الجزائرية.
ولكن، هل لنا أن نحلم بأن تلعب الأوليغارشيا (النخبة القليلة الحاكمة) الجزائرية الدور نفسه، دورَ مهندس إعادة بناء البلاد اقتصاديا؟ لا بالتأكيد، فهؤلاء "المواطنون" لا يستثمرون ولا يخلقون من مناصب الشغل غير القليل، ويصْدق ذلك بصورة خاصة على القطاع الصناعي، حيث لا تتجاوز مساهماتهم الفعلية مستوياتٍ جدّ متواضعة، ذلك أنهم سماسرة بالسليقة، اختصاصهم "إعادة التدوير".
ومنذ التحرير المزعوم للاقتصاد الذي بدأ في 1994 بإمضاء اتفاقيات الاستعداد الائتماني مع صندوق النقد الدولي، شهدنا سقوطاً حرّاً لحصة الصناعة في الناتج الداخلي الخام ونموا خياليا للواردات، وبخاصة تلك الموجهة مباشرة للاستهلاك. وزاد من فداحةَ هذا التطور غير السوي ارتفاعُ أسعار البترول في أواخر التسعينيات.
 

تقهقر للدولة باهظُ التكلفة
 

وتشكل الواردات وأنشطة الوساطة المالية القاعدة المادية التاريخية للأوليغارشيا الجزائرية. ولكي لا نظلم "المواطنين بتمام معنى الكلمة"، فإن الإطار الموضوعي غير متوافق مع مشروع دعم إنشاء الشركات وتحرير المبادرات، وذلك رغم وضوح كونِ القطاع الخاص المحركَ الرئيسي لديناميكية اقتصادية فعلية. والحال أنه لا مجالَ تتوفر فيه أدنى المعايير المحددة لمحيط مؤاتٍ للنمو الاقتصادي، لا التنظيم السياسي فاقد الشفافية والأهلية، ولا السلطةُ القضائية التي اختُزلت في محض جهاز، ولا نوعيةُ خدمات الإدارة وهي إدارة عديمة الفعالية ينخرها الفساد. وبالطبع تكمن المشكلة، في طبيعة النظام المناقضة للديموقراطية. من هذا المنظور، ليس توقيع عقود استشارة مع البنك الدولي مؤخرا بهدف تحسين "مناخ الأعمال" كفيلا بدفع عجلة نشاط سِمتُه، على ما يبدو مؤكدا، الفتور. ولا يمكن أن يكون الرد تقنيا على الركود الحالي وعلى العواقب المأساوية لتراجع مستدام لأسعار النفط - وهو مورد العملة الصعبة الوحيد لبلد يستورد تقريبا كل ما يستهلك.
لقد أضر تقهقر الدولة فعليا أيّما إضرار بالانفتاح التنافسي والديناميكي للاقتصاد. فبدون دولة تؤدي مهامها على أكمل وجه، لا يعني تحرير الاقتصاد سوى تدهور التوازنات الاجتماعية دون أن يترافق ذلك بأي ضمان لنمو الاستثمارات وإنشاء مناصب الشغل بغرض تنويع الاقتصاد كضرورة حيوية ومستعجلة. وربما لم يكن السجال الزائف بين ممثلي مسرح الظل الجزائريين في آخر المطاف عديم الجدوى، إذ كشف أن مكانة الأوليغارشيا المتعاظمةَ في توازنات السلطة لا تغير شيئا على الإطلاق في وهن النظام.

(ترجمه من الفرنسية ياسين تملالي)

 

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه

ما هي التغييرات الحاصلة في الرأسمالية المهيمنة؟

عمر بن درة 2024-03-07

يقع أصل التحولات الهيكلية الحالية للرأسمالية، في الفصل بين الإنتاج المادي البضاعي وبين الاقتصاد المالي. وقد ترافق هذا الفصل مع التفكيك المتدرج للتدابير التنظيمية المؤطِّرة للأسواق المالية وللبورصة في الولايات...

من الكفاح ضد الاستعمار إلى التعبئة من أجل الحريات: كرة قدم الشعب في الجزائر

عمر بن درة 2023-05-30

أصبح الملعب مركزاً للتعبئة الشعبية، ومنتجاً لدلالات سياسية عملية تناقلها الرأي العام بشكل واسع على اختلاف شرائحه الاجتماعية. والتحمس لهذه الرياضة ليس أمرا مستجدا. فقد لعبت كرة القدم دوراً مهماً...