تفاجئك القاهرة، إذا ما عدت بعد شهور من زيارتك السابقة، بأنها قد تمددت طولاً وعرضاً، فارتقت الفيلات والمساكن الشعبية المقطم، وقامت مدن جديدة في ضواحيها التي كانت مهجعاً للرمال، والتفت من حول الاهراماتِ ليثبت احفاد الفراعنة أنهم لا يقلون عنهم اهتماماً بالعمران، ولكنه الآن للبشر، لملايين البشر وليس للإلهة، رجالاً ونساء وصولاً الى كليوباترا..
لا تهتم بأعداد السكان هنا. انهم يتزايدون ما بين أغماضة العينين وفتحهما، ويزيحون بكثافتهم الطارئة الرمال الهاجعة، ويلتهمون المساحة التي كانت تخضرها حقول الملوخية أو الفواكه أو الصفصاف التي تمتص أغصانه المورقة الحر وتسمح بترطيب بعض الهواء لزوم التنفس.
في القاهرة الآن متسع للأمة العربية جميعاً، وإن ظل الأغنى من الخليجيين والسعوديين أساساً هم الاكثرية.. لكن الكل هنا: الجزائريون، المغاربة "الشوام" الذين – كالعادة - لم يتأخروا في فتح المحلات وتوظيف مهاراتهم في كل مجال، بينما يجرب اللبنانيون أن يكونوا سواحاً من دون أن يغفلوا عن السؤال عن أسعار الاراضي والشقق وخلو المحلات التجارية الخ...
ميدان التحرير هو المنطلق، لكن عليك التأكد من أن سائق سيارة الاجرة يعرف الاحياء الجديدة، بمداخلها وتفرعاتها، والا انقضى نصف الوقت في السؤال عن العنوان الذي تقصده، وإن كان مما يسهّل الوصول أن للأحياء أسماء، وللشوارع ارقاماً، وكذلك البيوت.. فلا ضياع!
وصلنا القاهرة لحضور الاحتفال التكريمي بالفائزين بجائزة الراحل الكبير استاذنا محمد حسنين هيكل، الذي أقيم كالعادة، في دار الأوبرا، التي أعاد بناءها اليابانيون بعد احراق الدار الاصلية التي كانت في ميدان ابراهيم باشا، والتي دشنتها الامبراطورة اوجيني في القرن التاسع عشر بأوبريت "عايدة".
قطعنا ميدان التحرير، مقتربين من مبنى جامعة الدول العربية المغلقة لتصليحات لن ينجح في اجرائها "ابو الغيط" حتى لو قرعت الطبول لإيقاظ المندوبين المنسيين فيها..
وانتقلنا إلى الضفة الأخرى وقد اختلفت علينا معالم المكان، حيث حل مقهى جديد محل مقهى "الجزيرة" الذي كنا نلتقي فيه أديبنا العظيم نجيب محفوظ بعد ظهر كل خميس، ضمن مجموعة من طلاب الماجستير والدكتوراه في الآداب الذين يعرضون عليه مسودات مشاريع رسالاتهم لسماع ملاحظته، قبل أن يتركهم ليذهب ونذهب معه إلى "الحرافيش" في سهرتهم الاسبوعية.
ميدان التحرير ثكنة عسكرية تزدحم فيها السيارات السوداء والكلاب البوليسية والعسس بالثياب المدنية فتكشفها نبرة الأمر في كلماتهم: "هيا، تحرك، لا تتوقف.. امشِ، هيا"!
عشرات من رجال الأمن في الميدان. عشرات في الشوارع الفرعية. عشرات على سطوح البنايات. ميدان التحرير ثكنة، والشرطة في حال من التوتر.
بضع مئات من المتظاهرين العائد معظمهم من بعض مباريات كرة القدم، والذين اجتمع من حولهم بعض الراغبين بالتنفس ولو بالهتاف ضد أجهزة القمع والدكتاتورية والمتنازلين عن حقوق الوطن.
يقول "المراقبون" إن المخبرين والعسس كانوا أعظم عدداً من المتظاهرين المسيسين، خصوصاً إذا ما نحن حذفنا جمهور الاهلي والزمالك.
كيف، اذاً، لو امتلأ ميدان التحرير والشوارع التي تنطلق منه أو تصب فيه على طريقة 25 يناير 2011 لأيام، بل لأسابيع، حتى خرج الناطق باسم الرئيس السابق حسني مبارك يتلو بيان الاستقالة ونهاية العهد الذي "تجمدت" خلاله مصر حتى تصور العالم أنها أصيبت بالسكتة أو بالإغماء، قبل أن تكتمل انتفاضتها بذلك النصر المجيد الذي لم يعمر طويلاً ، وقبل أن يقفز "الاخوان" إلى الحكم، تمهيداً لان يعود العسكر بزخم الانتقام ممن انتخب الاخوان (أو غيرهم، مثل عمرو موسى أو ذلك الشاب الناصري الممتلئ حماسة والفوّار بالأمل، حمدين صباحي).
قال سائق التاكسي السبعيني، وهو يتوقف بنا لبعض الوقت مع ذكرياتنا عن نجيب محفوظ في مقهى الفيشاوي، قرب مسجد سيدنا الحسين، قبل أن تبني الدولة مقهى حديثاً يخالف مزاج الروائي العظيم نجيب محفوظ حامل نوبل للآداب:
- دي مصر (يعني القاهرة) بقت بلاد، خمسين مدينة داخلة في بعض، لولا أسماء الشوارع والحارات وأرقام البيوت كان الواحد يضيع.. الحمدالله أن الواحد لسه حافظ موقع بيته بريحة عرقه.
- والتظاهرات، يا عم، انت كنت فيها؟
يضحك ويظهر فمه المجوف وقد غارت فيه الاسنان:
- أى، من بعيد. قصدي كنت معاها. بس هي كانت ملعوبة. كانوا عايزين يكشفوا الناس، بس ما قدروش. "جمهور الكوره" له رب يرعاه.
- نسأل : وبعدين يا اسطى؟
يضحك "حتى تبان نواجذه"، وهو يقول:
- أين الفراعنة يا عم؟ أين جمال عبد الناصر العظيم.. أين السادات يا بني اللي كان فاكر انو مش ح يموت ابداً وانه جاب مصر ثانية غير مصر اللي عشنا فيها وعشنا ليها.. أهو مات مقتول.. أين حسني مبارك. اهو في البيت بيستنى الموت! كل نفس ذائقة الموت، والا انت ضد القرآن، يعني معقول تكون أعرف من ربنا. كله ح يمشي، يا عم، بالرغبة أو بالأمر الالهي، والناس هم صوت الله وارادته على الارض. ما تخافوش على مصر. مصر ولادَّه.
عند بوابة المطار، ونحن نستلم الحقائب همس وهو يودعنا:
- سلموا لي على لبنان. إحنا الصعايدة منحب لبنان قوي. دي جنة، بيقولوا! وما تخافوش على مصر، ما تخافوش على "بهية"، دي على طول "معجبانية وصبية"!..
في الطائرة، وبعيد الإقلاع، شردتُ طويلاً مع كلمات العجوز الصعيدي: من أين يأتيه الأمل، هذا الضاحك، مجوف الفم، بلا اسنان، الذي له ولد مسافر في الخارج، وابنتان في سن الزواج؟
بغير رغبة أو إرادة، أخذت أقارن بينه وبين من أعرف ممن هم في سنه وما زالوا يكدحون في بيروت، او في سائر أنحاء لبنان!
أترى الايمان هو مصدر الصبر؟ ام هي الاستكانة والتسليم بالقدر؟
أن الفتية في لبنان لا يفكرون الا بالمطار واختيار بقعة من أرض الله الواسعة للسفر.. بلا أية ضمانة، وبلا تذكرة عودة، مسلّمين امرهم للقدر وللقول المأثور "ما أضيق العيش لولا فسحة الامل".. وهم يخترعون آمالهم بأنفسهم، وقد يقبرونها بأيديهم ليستولدوا منها آمالاً جديدة، ربما في بلاد أخرى.. فالطائرة صديقتهم المفضلة!
الدولار في لبنان اليوم بألف وخمسمائة وعشرين / ثلاثين/ خمسين ليرة، وكان في اواخر السبعينات بثلاث ليرات لبنانية.. وهو في القاهرة بثمانية عشر جنيهاً، وقد كان الجنيه بثلاث دولارات!
هل هذا كله نتيجة التقدم الاميركي أم نتيجة الانحطاط ولاّد المنافع للزعامات السياسية ورجال الاعمال والسماسرة في بلادنا؟
أين لنا بوطنية المصريين؟