تُظهر أبرز خمس قنوات تربط الاقتصاد الفلسطيني بالإسرائيلي الأهمية النسبية لمسألة إيرادات المقاصة بين مختلف جوانب الارتهان الاقتصادي، التي لا بد من وضع سياسات وخطط عاجلة للتقليل منها أو إنهائها، إذا كانت المواجهة الحالية ستؤدي فعلاً إلى تغيير قواعد لعبة باريس/أوسلو السائدة، أو تمهد للتخلي عنها تماماً.
محاور التبعية الاقتصادية الفلسطينية المفروضة على مدار نصف قرن من الاحتلال
علاقات التبعية الاقتصادية المفروضة على فلسطين تسخّر لخدمة سياساتها الأمنية والاستعمارية العليا، وهي لا تقتصر على الجانب المالي، بل تشمل عدداً من المحاور/ المفاصل الحيوية بالنسبة للاقتصاد الفلسطيني (وبدرجة أقل أهمية بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي).
1. التسرب المالي نحو الخزينة الإسرائيلية
من أكثر الترتيبات المالية المعقدة حساسية وحيوية والتي انطوى عليه العمل ببروتوكول باريس هي آلية احتساب وتحويل المستحقات الضريبية الفلسطينية (المقاصة) التي تجبيها إسرائيل على الواردات الفلسطينية منها (القيمة المضافة)، وعلى الواردات الدولية المباشرة إلى فلسطين (القيمة المضافة والجمارك والمكوس وضريبة الشراء على بعض الواردات). وبالإضافة إلى ما تتيحه هذه العملية من فرص لإسرائيل للقرصنة المالية حينما تشاء، فإن مجمل أوجه العلاقة التجارية الفلسطينية – الإسرائيلية في سياق أوسلو/ باريس تتضمن ترتيبات تُلحق خسائر كبيرة بالخزينة الفلسطينية. يشمل ذلك عائدات ضريبية كان ينبغي أن تسجل لصالح السلطة، لكنها إما تجبى من قبل الخزينة الإسرائيلية (ما يسمى بالواردات غير المباشرة إلى فلسطين، ويكون قد تم استيرادها إلى إسرائيل قبل إعادة تسويقها في فلسطين)، أو البضائع المهربة التي تدخل السوق المشترك دون أن يُدفَع ما يلزم من الضرائب، وما يتصل بذلك من تهرب ضريبي.
منذ عام 2014، عملت أكثر من جهة دولية على استكشاف وتوثيق أشكال هذا "التسرب المالي" وتقدير حجمه السنوي والمتراكم. أولى هذه التقديرات لـ"الأونكتاد" (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية) حددت بحوالي 300 مليون دولار حجم هذا التسرب بسبب الواردات غير المباشرة. أضاف البنك الدولي تقديراته، متضمناً قنوات أخرى من التسرب بحوالي 285 مليون دولار. في آخر دراسة شاملة لكافة أشكال الخسائر المالية التي تتكبدها الخزينة الفلسطينية جراء العمل في إطار البروتوكول واتفاقيات أوسلو - تصدر قريباً عن الـ"أونكتاد" - قُدِّرت قيمة هذه الخسارة السنوية (في 2017) بما يزيد عن مليار دولار، أو ما يعادل حوالي ثلث الإيرادات الحكومية الفعلية أو 7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. مثل هذا التقدير (حتى دون احتسابه بأثر رجعي) يشير إلى حجم العبء المالي للاحتلال. وقنوات النزيف المالي هذه لفلسطين بفضل البروتوكول هي ما يمكن استهدافها في المساعي الفلسطينية للانفكاك من قبضته.
2. تدفق العمالة الفلسطينية إلى داخل إسرائيل ومستوطناتها
من بين مآسي إرث بروتوكول باريس، أن أقوى حجة لدى الطرف الفلسطيني لقبول صيغة الاتحاد الجمركي خصت عدد العمال الفلسطينيين في السوق الإسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة قبل 1993، الذي كان يشكل حوالي 20-25 في المئة من عدد العاملين الفلسطينيين الإجمالي، وكان دخلهم من العمل في إسرائيل يشكل نسبة 20 - 30 في المئة من الدخل القومي الفلسطيني حتى بداية التسعينيات الفائتة. وحيث أنه لم يكن من الممكن استيعابهم في المدى القصير (سنوات أوسلو الخمس المفترضة) في الاقتصاد المحلي، فقد تم القبول بصيغة "السوق المشترك" المفتوح (افتراضياً) أمام تدفق السلع والعمالة، على أمل العمل خلال تلك الفترة على بناء الاقتصاد المحلي المنتج والمولد لفرص العمل، بما يسمح لاحقاً بالاستغناء التدريجي عن الاعتماد على السوق الإسرائيلي لتشغيل القوة العاملة الفلسطينية.
بحلول 2000، قبل اندلاع الانتفاضة الثانية، كان قد وصل عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل إلى 113 ألف عامل، ومع مرور السنوات، استغلت إسرائيل هذه التبعية، وقلصت عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل من خلال انتهاج نظام التصاريح، وبناء جدار الفصل وعزل القدس اعتباراً من 2003، ومن ثم الحصار المفروض على قطاع غزة منذ 2007. اشتد هذا التخلص من العمالة الفلسطينية داخل إسرائيل ومستوطناتها ووصل عددهم إلى أدنى مستوى عام 2004 (حوالي 46 ألفاً)، ما زاد البطالة في الأسواق الفلسطينية، وأظهر فشل الخطط الأولية لبناء اقتصاد وطني قابل لتشغيل رأسماله البشري على أفضل وجه.
قدرت "لأونكتاد" حجم "التسرب المالي" السنوي والمتراكم إلى إسرائيل لما هو حق لفلسطين بحوالي 300 مليون دولار، وهو يحدث بسبب الواردات غير المباشرة. وأضاف البنك الدولي تقديراته متضمناً قنوات أخرى من التسرب بحوالي 285 مليون دولار.
لم تستهدف السياسات الفلسطينية المتبعة خلال السنوات الأخيرة تغيير هذه العلاقة. وعلى الرغم من إخراج جميع عمال قطاع غزة من المعادلة (وارتفاع البطالة هناك عام 2018 إلى 52 في المئة)، عاد اليوم عدد العمال الفلسطينيين داخل السوق الإسرائيلي من الضفة الغربية وحدها إلى ما كان عليه قبل 25 سنة، أي حوالي 127 ألف عامل، ما يمثل 13 في المئة من إجمالي العاملين الفلسطينيين اليوم (و20 في المئة من العاملين في الضفة الغربية)، يسهمون بتوليد 15 في المئة من الدخل القومي – وهي نسب تقارب تلك التي كانت سائدة قبل 25 سنة.
هذا يبرز وجه آخر لفشل البروتوكول في إحداث أهدافه "المعلنة" (والمأمولة فلسطينياً) في تغيير بنيوي في الاقتصاد الفلسطيني وتبعيته الخارجية، وفشل الرهان على تعهدات الحكومات الإسرائيلية. بينما نجح تطبيق البروتوكول فعلاً في تقويض الطموحات الفلسطينية بالاستقلال، وإبقاء ولاية السلطة الفلسطينية ووظائفها إدارية وغير سيادية. هذا الاستنتاج ينذر بأخطار محدقة لاستقرار الاقتصاد الفلسطيني في أية لحظة تقرر إسرائيل لأسباب أمنية أو سياسية عقابية تقليص عدد تصاريح العمل أو التجارة الممنوحة أو مكافحة العمالة غير المرخصة، ويبقي سوق العمل الفلسطيني رهينة قرار جائر لأي ضابط صغير في الإدارة العسكرية الإسرائيلية.
3. الاعتماد على الواردات السلعية من الأسواق الإسرائيلية أو بواسطة موانئها
ربما تكون أشد نقطة اختناق في العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل، هي تحكم الأخيرة بكافة الحدود والموانئ والمعابر التجارية المؤدية من وإلى الأراضي المحتلة. طبعاً هذا يشكل عائق رئيس أمام وصول الصادرات الفلسطينية السلعية إلى الأسواق الإقليمية والعالمية، ويزيد من تكلفة النقل والتخزين والتخليص التجاري في الاتجاهين (الصادرات والواردات). هذا المحور الرئيسي لسيطرة الاحتلال على الاقتصاد يوثر حتماً على سهولة تدفق حوالي 1.2 مليار دولار من الصادرات الفلسطينية (التي تقصد حوالي 82 في المئة منها إسرائيل) و5.3 مليار دولار من الواردات (حوالي 55 في المئة منها مصدرها إسرائيل والبقية من أوروبا وآسيا والدول العربية، وهناك ربما أكثر من 40 في المئة من تلك الحصة الأخيرة تصنف كواردات مباشرة).
هنا أيضاً يعتبر البروتوكول الإطار الناظم لإدامة التبعية التجارية لإسرائيل، على الرغم من أن اقتصادها ليس الجهة الأساسية المستفيدة من هذا التحكم (حيث أن 50 -60 في المئة من إجمالي الواردات الفلسطينية ليست من إنتاج إسرائيلي). لكن سلطات إسرائيل الجمركية والضريبية والأمنية تسيطر على 100 في المئة من التدفقات التجارية الفلسطينية الفعلية. ليس من السهل تخفيف هذه القبضة طالما تحرم السلطة الفلسطينية من التواجد عند المعابر التجارية، وطالما الواردات غير المباشرة (المسموحة ضمن الاتحاد الجمركي) تدخل الأسواق الفلسطينية دون قيد أو شرط، وطالما أن المصدرين والمستوردين الفلسطينيين محرومون من الاستفادة من التزامات إسرائيل الدولية في إطار اتفاقية تسهيل التجارة العالمية (2013)، الخ... مع أنه تحقق بعض التقدم خلال السنوات الأخيرة في استبدال الواردات الإسرائيلية بالدولية (وهي من أهداف البروتوكول المفترضة)، أو بإحلال الواردات عامة من خلال الاستثمار في بناء صناعات تحويلية خفيفة لبعض المنتجات الاستهلاكية (غذائية، أثاث، أدوية، معادن، مواد بناء الخ)، فالتحكم الاحتلالي بالمعابر والحدود يحول دون إمكانية إحراز التحول الجذري المطلوب في بنية واتجاهات التجارة الخارجية الفلسطينية.
4. الاحتكار الاسرائيلي في توريد الطاقة لفلسطين، وفي التصرف بالموارد الطبيعية
تهيمن القوة القائمة بالاحتلال منذ 1967 على سوق الطاقة الفلسطينية، ولم تغير اتفاقيات أوسلو ذلك الوضع بل كرسته. منذ 1994 منحت امتيازات لشركات إسرائيلية لتوريد البترول والديزل والغاز للسلطة الفلسطينية، التي بدورها توزعها بواسطة شركات القطاع الخاص. يستورد الاقتصاد الفلسطيني عبر مستوردين إسرائيليين ما يعادل 800 مليون دولار سنوياً من مشتقات النفط، ما يساوي حوالي 15 في المئة من إجمالي فاتورة الاستيراد السنوي. على الرغم من أن البروتوكول يتيح للسلطة الفلسطينية استيراد الطاقة من الأردن إذا رغبت، فأنه لم تتم مناقشة هذا الخيار جدياً سوى منذ تولي رئيس الوزراء الجديد محمد اشتية مقاليد إدارة السلطة. كذلك لا تتمتع السلطة الفلسطينية بأية قدرة لتوليد الكهرباء (ما عدا جزئياً في غزة من خلال محطة التوليد الفلسطينية الوحيدة)، وتعتمد كلياً على شركة الكهرباء الإسرائيلية (المحتكرة لتوليد الطاقة) لاستيراد جميع احتياجاتها، والبالغة حوالي 534 مليون دولار عام 2017. لم تستثمر السلطة في بناء قدرتها التوليدية قبل 2018، حين باشر صندوق الاستثمار الفلسطيني (الصندوق السيادي الفعلي) في بناء محطة توليد كهرباء مشغّلة بالغاز في جنين - شمال الضفة الغربية، ومنطقة توليد طاقة شمسية قرب أريحا.
ربما تكون أشد نقطة اختناق في العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل هي تحكم الأخيرة بكافة الحدود والموانئ والمعابر التجارية المؤدية إلى الأراضي المحتلة ومنها. فسلطات إسرائيل الجمركية والضريبية والأمنية تسيطر على 100 في المئة من التدفقات التجارية الفلسطينية الفعلية
من جهة أخرى، فإن السلطة الفلسطينية محرومة من الاستفادة الحرة من مواردها الطبيعية والمعدنية، بفضل بنود اتفاقيات أوسلو التي تركت 60 في المئة من الضفة الغربية (منطقة "ج") خاضعة للحكم العسكري الإسرائيلي المباشر، وهي بالضبط المناطق التي تحتوي على أهم وأكثر الموارد الطبيعية: المياه الجوفية، حقول الغاز في بحر غزة وفي وسط الضفة الغربية، الحجر والرخام في مختلف مناطق الضفة والمعادن المميزة للبحر الميت. هناك تقديرات دولية بأنه لو تحكمت السلطة الفلسطينية بكامل الموارد المتاحة في منطقة "ج"، فذلك قد يتيح توليد ناتج محلي إضافي بما يقارب 3.5 مليار دولار سنوياً، أو ما يعادل حوالي ربع الناتج المحلي الفعلي.
يتجلى أيضاً في قطاع الطاقة والموارد الطبيعية مدى وعمق الترابط العضوي (وإن المفروض) بين الاقتصادين، حيث هناك مصالح مالية تستفيد منها بعض الأطراف في كلا الجهتين من استمرار الوضع القائم، وتعطيل أي تحول جذري في المعادلة. كما تظهر حساسية الترابط بين مثل هذه القناة للتبعية والأزمة المالية الحكومية، حيث تقوم إسرائيل، على سبيل المثال، بالاقتطاع من أموال المقاصة قيمة الديون المتراكمة لديها لحساب شركات توزيع الطاقة الفلسطينية. لا تستطيع تلك الشركات دفع كامل فاتورة مشترياتها من إسرائيل بسبب مشاكل عديدة، من الفاقد من التيار بسبب الحالة المتردية للشبكة، وسرقة التيار، وضعف جباية فواتير القطاع الخاص والمنزلي. وفي الأيام الحالية، تخلف موظفو السلطة عن السداد الدوري بسبب الأزمة. في آب/أغسطس 2019 وفي وسط الأزمة، قامت إسرائيل باقتطاع مبلغ 141 مليون دولار، من أصل هذه الديون الفلسطينية المتراكمة والمقدرة بحوالي 400 مليون دولار، وبعد أيام من ذلك وجهت شركة الكهرباء الإسرائيلية تحذيراً ثانياً لشركة كهرباء محافظة القدس، تهددها بتقنين توريدها للتيار الكهربائي اعتباراً من ٢٢ أيلول إذا تخلفت عن تسديد ديونها.
هكذا، حتى إذا استطاعت فلسطين تفادي إجراء عقابي مالي معين، هنالك دائماً قنوات بديلة يمكن لإسرائيل من خلالها تضييق الخناق على الشعب الفلسطيني.
5. الالتزام الفلسطيني بالنظام التجاري والجمركي الإسرائيلي، والحرمان من السيادة النقدية
بحسب البروتوكول فالعلاقة الاقتصادية بين الطرفين ليست فقط باتحاد جمركي (الذي يخص فحسب التجارة)، لكنها تصل إلى درجة اتحاد اقتصادي كامل، مشوه وغير متوازن طبعاً. ينص البروتوكول على تشابه الأنظمة الضريبية غير المباشِرة (القيمة المضافة) وعلى السيادة النقدية الإسرائيلية وعدم السماح للجانب الفلسطيني بإصدار عملة وطنية، ما يحرمها من ممارسة السياسة الاقتصادية الكلية من خلال التدخل في تحديد أسعار صرف العملات ونسب الفائدة. بينما يعتبر الإحجام عن إصدار عملة فلسطينية في غياب السيادة السياسية والاقتصادية منطقي ومعقول (نظرياً وسياسياً)، فإن هذا القيد الإضافي يُظهِر ضيق الحيز المتاح لمتابعة أية سياسة تنموية اقتصادية ناجحة، ويحاول أكثر من أي عنصر آخر ربط المصير الاقتصادي الفلسطيني بالإسرائيلي. التقيد الفلسطيني بالنظام الجمركي والتجاري الإسرائيلي يجبر على الخضوع إلى جميع الخسائر المعروفة من التحرر والانفتاح التجاري (التي يستطيع تجنبها الاقتصاد الإسرائيلي بفضل الحماية الانتقائية لصناعاته والإعانات لمزارعه وغيرها من الإجراءات التجارية السيادية)، دون الاستفادة من جميع الفرص التي يفترض توفرها من خلال تحرير التجارة (خاصة فيما يتعلق ببناء قدرة تصديرية تنافسية). بالتالي لا يسمح البروتوكول بانتهاج سياسة حماية الصناعات الوطنية الوليدة، واستحواذها على حصة سوقية محلية أو الولوج إلى الأسواق الدولية أو حتى الإقليمية القريبة.
يمكن، ربما، فهم الأسباب والنوايا الحسنة التي دفعت م.ت.ف. لقبول شروط أوسلو وباريس قبل ربع قرن، في خضم عصر العولمة والتحرر التجاري والتعاون الاقتصادي الإقليمي السلمي. لكنه بات من الصعب الاقتناع بأن الوضع الراهن مقبول أو معقول، أو حتى أنه قابل للاستدامة.
الطريق إلى التنمية: انفصال، انفكاك، فك ارتهان؟
على ضوء استعراضنا للوضع المالي والاقتصادي الفلسطيني الصعب للغاية، وللأوجه المتعددة والمترابطة لمصفوفة السيطرة الاستعمارية الاقتصادية، تتضح ليس فقط طبيعة "الورطة" التي يمثلها بروتوكول باريس بالنسبة لمعيشة الشعب الفلسطيني اليومية، ولحريته في تقرير مصيره ولموارد الخزينة العامة، بل أيضاً حجم التحدي الكامن في محاولة تغيير "مسار التبعية الاقتصادية الضار" الذي بدأ مع احتلال 1967، وجسدته اتفاقيات أوسلو دون مخرج منه حتى اليوم.
هناك بعض الآراء (بين دولية وإسرائيلية وحتى فلسطينية) تدّعي حتمية بقاء العلاقة بين الاقتصادين لأسباب جغرافية، أو أمنية/سياسية، أو حتى بمزاعم وجود فوائد اقتصادية لفلسطين بفضل العلاقة مع إحدى أكثر الدول المتقدمة اقتصادياً. من هذا المنطلق، هناك أصوات كانت، وما زالت تنادي من باب "الواقعية" بإمكانية إصلاح بروتوكول باريس أو عدم التخلي عنه، لأن تفكيكه سيكلف أكثر بكثير من أية فوائد محتملة لأي بديل عنه.
لا يسمح البروتوكول بانتهاج سياسة حماية للصناعات الوطنية الوليدة، واستحواذها على حصة سوقية محلية أو الولوج إلى الأسواق الدولية أو حتى الإقليمية القريبة.
لكن إذا كان هناك فعلاً إقرارٌ بأن هذه الترتيبات لا تحرم فلسطين من انتهاج مسارها التنموي المناسب فحسب، بل تعتبر في جوهرها، وخاصة في ظل موازين قوى إقليمية وعالمية معادية للحقوق الفلسطينية، نقيضة لجميع مقتضيات التحرر والاستقلال والسيادة، فإنه لا يمكن تجاهل تلك الحقيقة إلى ما لا نهاية. وإذا كانت المواقف والتوجهات السياسية المالية الفلسطينية الأخيرة ستأخذ على محمل الجد، فإن ذلك ينطوي على تحقيق "الاستقلال" في الطاقة والتصنيع والتجارة والعمالة والمالية والنقد، حتى ولو تدريجياً، وتبني أجندة عمل طموح وصعب المنال. سيتطلب مثل ذلك النهج الابتعاد عن كافة "العادات السيئة" الشائعة: في الاستهلاك الظاهر، والاستثمار غير المنتج، والتساوق مع مصالح تجارية إسرائيلية، في عدم تفضيل المنتج الأجنبي على الوطني، في ضعف الالتزام الضريبي والمدني، وفي توسع النفقات الحكومية غير الضرورية في الحالة الفلسطينية، وفي وضع الحدود لتوسع نظام الحماية الاجتماعية.. وغيرها من التوجهات التي تمركزت لدى الحاكم والمواطن والرأسمالي خلال العقدين الأخيرين. قبل ذلك تحتاج المرحلة القادمة إلى قيادة واعية وملتزمة ومستعدة لمواجهة الأخطار المحدقة جراء تكرار المواجهة مع سياسات إسرائيل الاقتصادية المعادية، والانتقال إلى اعتماد نموذج اقتصادي مختلف وسياسات استثمارية جديدة (ومكلفة) وتناغم في الأدوار بين القطاعين العام والخاص.
باختصار ما هو مطروح اليوم هو بناء اقتصاد مقاوم رسمي وخاص وشعبي، بكل معنى ذلك المفهوم، من أعلى الى أدنى الهرم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، في المزرعة والمصنع والبنك والوزارة، وفي كل ساحة مواجهة (الضفة، غزة، القدس) بالوسائل والموارد المتاحة.
تتلخص المعادلة الجديدة المطروحة بأكثر من مصطلح، توحي كلها بالاتجاه نفسه، التحرري من التبعية الاقتصادية للمشروع الاستعماري الإسرائيلي، ربما بدرجات أكثر أو أقل، ما يمكن اعتبارها بدائل لتأطير أي توجه سياساتي اقتصادي استقلالي. تعتبر فكرة "الانفصال" أكثر الصيغ راديكالية من حيث استهداف فصل كامل للعلاقة مع الاقتصاد الإسرائيلي، بينما يمكن اعتبار "الانفكاك" بمثابة عملية "فض اشتباك" تدريجي عن جزء أو أكثر من الروابط التي تهيمن على العلاقة. هناك مفهوم آخر طُوّر في أوج الانتفاضة الثانية يشدد على ضرورة "فك الارتهان"، أو نزع العنصر الابتزازي من العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل دون قطعها، لمنع استخدام الاقتصاد كعصا يوظَّف لمحاربة حركة التحرر الوطني الفلسطيني إلى جانب أسلحة قمعية ومعادية أخرى. إذا نظرنا إلى كل بديل بحسب واقعيته، تكلفته والاستعداد لتبنيه، يمكن لمس الأبعاد والتداعيات المحتملة للمضي قدماً في المسار الذي افتتح أمام الشعب الفلسطيني مع مواجهة أموال المقاصة.
في كل الأحوال ليست محاور التبعية الرئيسية التي تناولناها أعلاه قابلة للتغيير الفوري أو السريع مهما اتضحت الرؤية وتكاتفت الجهود. لا يمكن وقف النزيف المالي الضريبي دون وضع أنظمة وترتيبات جديدة للمحاسبة وللمقاصة، ودون إعادة هيكلة بنية القطاع التجاري الخارجي. هذا بدوره يتطلب سياسات صناعية جديدة وترتيبات لوجستية وممرات تجارية وغيرها من الإصلاحات. كما لا يمكن تقليل الاعتماد على العمل في إسرائيل دون الاستثمار في بناء اقتصاد منتج يوظف مقدار أكبر من القوة العاملة. وحتى تحقيق إنشاء قدرة ذاتية لتوليد الطاقة وتنويع مصادر استيرادها، ستبقى إسرائيل طرفاً محتكراً وانتهازياً في هذا الملف. وفي مرحلة لاحقة ربما، لا بد من الاستعداد المالي والمصرفي والتجاري لنظام نقدي فلسطيني سيادي، إذا كانت ستتحقق "الجدوة الاقتصادية" للدولة الفلسطينية. بالتالي، يبدو هدف الانفصال غير ممكن وغير مجد في المرحلة الراهنة، وربما غير منطقي اقتصادياً على المدى البعيد.
من جهة ثانية فإن الانفكاك من بعض قيود البروتوكول وأوسلو، على بعض محاور التبعية، يبدو كهدف ضروري وقابل للتنفيذ دون إلحاق الضرر بالاقتصاد جراء التحول الهيكلي الذي لا بد منه في بعض جوانبه: وقف جزء من التسرب المالي، توفير بدائل لتشجيع الإحجام عن العمل في المستوطنات مثلاً (خاصة وأن هناك أساساً قانونياً لذلك منذ 2010)، تسريع الخطوات باتجاه الاستقلال في الطاقة، استثمارات مكثفة في البنية الإنتاجية الصناعية والزراعية والتحتية، الخ. هنا يصبح من المفيد توظيف مفهوم فك الارتهان لتوجيه برنامج الانفكاك عن التبعية الاحتلالية (دون استهداف الانفصال عن الاقتصاد الإسرائيلي). أي، أن يتم صياغة برنامج للانفكاك الاقتصادي، وللصمود إلى أن يتحقق، بحسب أولويات وإمكانيات فك الارتهان في هذا القطاع أو ذاك، تدريجياً، مع احتساب الكلفة والفائدة في كل مرحلة. بحيث يصبح الخط الذي رُسِم على الرمال من قبل الرئيس الفلسطيني بمثابة برنامج للانفكاك تحت شعار: لا ابتزاز، لا قرصنة ولا تبعية.
_________________
جميع الأرقام والنسب الواردة هنا احتسبت من آخر البيانات المنشورة من قبل مصادر رسمية، خاصة جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني ووزارة المالية، وسلطة النقد الفلسطينية أو من مصادر فلسطينية ودولية موثوقة ("معهد أبحاث السياسات الاقتصادية" – ماس، مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية والتجارة – الأونكتاد، والبنك الدولي).
_________________
نشر الجزء الاول من هذا البحث بعنوان "ما بعد الأزمة المالية الفلسطينية: معادلة الانفكاك الاقتصادي عن إسرائيل"
ينشر بالتزامن مع صحيفة "الحدث" الفلسطينية