طُرح السؤال مراراً منذ بداية ما أسماه الإعلام "الربيع العربي": لماذا لا تندرج الجزائر في الموجة؟ ذلك أن كل الشروط المفترضة لانفجار السخط الشعبي تجتمع في البلاد. وتتوافق المعلومات الواردة من الجزائر على القول إن الوضع الاجتماعي في تدهور عميق ومتواصل، على مستوى البطالة واليأس الذي ينتاب شريحة كبيرة من السكان. الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لعدد كبير من الجزائريين لا تُحتمل، بينما تستفيد السلطة منذ سنوات من ارتفاع أسعار النفط، وهو ما أنقذها من مصير التحول إلى دولة على حافة الانهيار خلال التسعينيات، ووضعها في حالة من التخمة المالية المدهشة، يجسدها المستوى القياسي الذي بلغه الاحتياطي النقدي: حوالي مئتي مليار دولار!
وفيما يسود مناخ من الفساد والكسب غير المشروع، أثبتت الاستراتيجية التي تعتمدها الحكومة منذ بداية الالفية الثالثة عدم فعاليتها. وقد ركزت تلك الاستراتيجية أساساً على تعزيز نمو القطاع غير النفطي من خلال الإنفاق العام. ولكن النمو السنوي الفعلي للفترة ما بين 2006 و2010 تراوح بين 2 و3.5 في المئة، وهو أقلّ بكثير من الحد الأدنى المطلوب لإطلاق الاقتصاد الإنتاجي وامتصاص البطالة. كما ان التكاليف الخيالية التي تصرف على مشاريع كبرى غير مكتملة، وكذلك الزيادة المطردة في الاستيراد، الغذائي تحديداً، هما دليل على فشل سياسة اقتصادية ترهق الميزانية العامة بدين خطير. ولا يمكن الاستمرار باتباع إنفاق هائل بمقدار ما هو غير منتج. فذلك يتسبب باختلال التوازن. وهكذا تترافق الرداءة مع انعدام جذري في الشرعية لتجعل من تدابير النظام، على الرغم من الإمكانات الاستثنائية المتوافرة، دائمة العقم. ولأن الحكومة محشورة في زاوية من التبذير الكامل والفساد الشامل، فقد اضطرت إلى تحجيم برنامجها الاستثماري بقيمة 150 مليار دولار خلال فترة ما بين 2009 و2013.
تخمة مالية، فقر، وانعدام رجاء
في بلد لا تعمل فيه أي خدمات عامة جيداً، يعاني الجزائريون من البطالة، وسوء السكن، وسوء الطبابة، كما يعيشون بلا أمل بتحسين أي من ظروفهم الحياتية. ولا يمكن التعويل على الإحصاءات الاقتصادية والاجتماعية. ولولا أنها تخبئ حقيقة مرّة، لأثارت الأرقام الرسمية للبطالة السخرية. فهي انخفضت بطريقة عجائبية من 29 في المئة في العام 2000 إلى 15.3 في المئة في العام 2005 ومن ثَمّ الى 10.2 في المئة في نهاية العام 2009، ويستعيدها البنك الدولي بتسامح متواطئ. وبالرغم من التشكيك الكبير بالإحصاءات، يقدر الخبراء أن مستوى الفقر المدقع لا يزال مرتفعاً: أكثر من 15 في المئة من السكان يعيشون بأقل من دولارين في اليوم، والتفاوت في الدخل كبير للغاية.
تخضع فئات كاملة من الشعب للتهميش التام، والمأساة التي يعيشها مرضى السرطان المحرومون من الدواء، مؤشر على إدارة إجرامية بكل معنى الكلمة. يعكس تصنيف الجزائر في المرتبة 104 من أصل 182 دولة على قائمة مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة، تلك الرداءة العظيمة للحكم. ففي الواقع، يخضع الشعب لإهمال حكومة بعيدة كل البعد عن اهتمامات الناس، لا بل تتميز بقدرتها على الأذى والفساد. إن هذا المناخ من التوتر الدائم، والذي يتغذى بالقمع والبطالة وغياب الدولة، يشجع على انفجار العنف، ويعمم العلل الاجتماعية. فخارج المناطق المحمية التي يسكنها ذوو الامتيازات، لم يمنع انتشار الشرطة الانفلات الأمني وعمليات النهب. وأمام مثل هذا الوضع، وفي محاولة لخنق السخط العام، لا تجد السلطة ما تفعله سوى توزيع بعض العوائد في المناسبات على الفئات الاكثر إلحاحاً بالمطالبة، وهي تفعل ذلك بشكل مبعثر و"ملوكي" متعالٍ.
قمع وفساد
ترتكز البيروقراطية (البورجوازية العسكرية/المالية المنسوجة حول رؤساء الاستخبارات العسكرية) على وسيلتين: المراقبة البوليسية والفساد. ويشكل الجهاز الأمني الهيكل العظمي المستتر لهذه المنظمة التي، باحتقارها القانون، تفرِّغ المؤسسات من كل مضمون وتضعف الدولة الى حد كبير.
تقوم المراقبة البوليسية على ممارسة تحبيك أمني شديد التلاصق للبلاد، متلازماً مع سيطرة بوليسية على كل المؤسسات والمنظمات، سواء كانت إعلامية أو إدارية أو اقتصادية أو ثقافية أو دينية، أو تنتمي الى المجتمع المدني: تختبئ حقيقة الديكتاتورية الجزائرية خلف واجهة "قانونية"، فيما قوتها الفعلية تأتي من خارج المؤسسات.
ترافق المراقبة البوليسية الضيقة استراتيجية تفتيت النضالات الاجتماعية والتخدير السياسي عبر الفساد. يسمح الاقتصاد الريعي، القائم على استغلال الموارد الأحفورية، للنظام بتوزيع الإعانات والرشى للناس وتلبية الحد الأدنى من المطالب الاجتماعية من خلال زيادة الرواتب في الوظيفة العامة وتوزيع قروض على الشباب العاطلين من العمل. وهي قروض مرصودة بالأصل لإنشاء شركات ولـ"توظيف الشباب"، ولكنها تذهب الى شراء السيارات والسلع الاستهلاكية.
وقد يمكن لتوجيه جزء من الريوع الى "الزبائن" (السياسيين) والى الفئات الاجتماعية "الخطيرة" أن يسمح بخلق ثروات ضخمة ويجيز مستوى استهلاكياً مقطوع الصلة مع العمل. إلا أنه لا يمكنه تهدئة المطالبات الشعبية على نطاق واسع. وتترجم حالة فقدان الأمل لدى الجزائريين بظاهرة الهجرة غير الشرعية – "الحرّاقة" – وتكاثر التمرُّدات المحلية وانفجار الغضب الشعبي العفوي، اللذان يفتقدان للتأطير والتمثيل السياسيين.
الفراغ السياسي..والتفكك الاجتماعي
تسببت فترة الحرب الأهلية في التسعينيات بمقتل 200 ألف شخص واختفاء حوالي 20 ألفا آخرين، فضلاً عن التشريد القسري لمئات الآلاف من الناس. وهي مكنت النظام الجزائري من كسر كل أدوات التمثيل السياسي. وبطبيعة الحال، تتحمل الطغمة العسكرية الحاكمة، التي قررت آنذاك، في كانون الثاني/يناير 1992، إيقاف العملية الانتخابية، المسؤولية الأساسية عن حمام الدم الرهيب وعن سلسلة من الأعمال الوحشية التي لا تخطر على بال. ولكن بعض قادة الاسلاميين يشاركونها بالتأكيد في الذنب، بعدما دعوا للكفاح المسلح ضد قادة الانقلاب وحلفائهم. وقد أتاحت الحرب القذرة ومناخ الرعب الذي أُرسي، تفكيك القطاع الاقتصادي العام، وتطبيق برنامج للإصلاح الهيكلي في العام 1994 برعاية صندوق النقد الدولي، والتوجه نحو اقتصاد "الكونتوار" (الذي يعتمد على التجارة الخارجية)، السائد حتى الساعة.
وسمحت "الحرب ضد التمرُّد" خصوصاً، ورزمة قوانين الطوارئ التي رافقتها، بتجميد الحياة السياسية وإنشاء مشهد سياسي وهمي تحت إشراف بوليسي. مسرح الظل ذاك، بين المعارضة المصطنعة وأحزاب "الحكومة"، لا صلة له بالواقع السياسي، بل لا يعدو كونه مجرد ستارة لجماعات المصالح التي تدير فعلياً شؤون البلاد. الحرب ضد الإرهاب، وأحكامها "القانونية" والإدارية، شكّلت الوسيلة الحاسمة لإسكات أي محاولة للتعبير النقدي، وصدّ أي شكل من أشكال التنظيم السلمي للمجتمع ومنع حق التظاهر والتجمع.
ولم يكن رفع حالة الطوارئ في شباط/فبراير 2011 (بعد فرضه في العام 1992) سوى تنازل شكلي، لم يغير في نهج الإدارة القمعية القائمة منذ انقلاب كانون الثاني/يناير 1992. أما القوانين الجديدة في الإعلام وعمل الجمعيات، فهي تؤكد القيود المفروضة على حرية التعبير، وتقمع أكثر من أي وقت مضى حرية إنشاء الجمعيات.
تمَّ احتواء الأحزاب والجمعيات التي أفلتت من سيطرة الأجهزة العسكرية السرية قبل وقوع الانقلاب في 1992، فيما تمت استمالة قيادييها من ضمن عدد من "خيالات المآتة" الكثر. فباستثناء حزب "جبهة القوى الاشتراكية" برئاسة حسين آيت أحمد، تعتبر الأحزاب السياسية التي كثيراً ما تُذكر في الصحافة المأمورة، امتداداً بلا مصداقية أو شعبية للنظام، وليست منظمات المجتمع المدني، باستثناء بعض النقابات المستقلة ومنظمات الدفاع عن حقوق الانسان، سوى قواقع فارغة.
الجزائريون، المدركون تماماً تلاعب النظام، هم بغالبيتهم العظمى مستعصون على الدعاية الرسمية، كما لا يعترفون بأي فاعل أو جهاز سياسي. الريبة هي أول رد فعل مواطني. وهذا، علاوة على صدمة الحرب القذرة، هما ما يفسر رفض الجزائريين للاستجابة لنداءات المجتمع المدني وشعاراته. وهو إحجام يظهر من زاوية ما مدى تفكك المجتمع الجزائري.
الجزائر/مالي: شروخ جيوستراتيجيّة
يواجه النظام الجزائري التغييرات الطارئة على بيئته الجيوستراتيجية المباشرة بوضع داخلي هشّ. وهو يرى في الحراك الاجتماعي الذي أطاح النظام في تونس (;الذي كان ينظر إليه كنموذج للحكم الاستبدادي "المستنير")، وفي سقوط الرئيس حسني مبارك في مصر، تهديداً مباشراً له. ولكن ما حيّر جنرالات الاستخبارات العامة، وفاجأهم، هو التدخل الغربي في ليبيا، إضافة الى لعبة النفوذ الخارجي في سوريا، والقدرة على تأقلم الغرب مع التيارات الإسلامية التي تؤثر عليها الوهابية في كل من تونس ومصر. ومع توسّع الشروخ الجيوستراتيجية في المنطقة، بدا أنه بات من الممكن أن تعيد الولايات المتحدة وفرنسا النظر في التحالف القوي الذي يربطها بالنظام الجزائري. هذه فرضية لا تزال بعيدة، ولكنه راح يعززها ما تشهده دولة مالي المجاورة من تفكك اثر إعلان استقلال "الأزواد"، بعد تمرّد الطوارق، ثم بإزاحة هؤلاء وسيطرة الميليشيلات الاسلامية على الموقف. يضعف تطور أزمة "الساحل" موقف الجزائر، المتهمة بتأدية دور غامض في تلك المنطقة. سيما وانها ليست جزءاً من "السيدياو"، "الجماعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا" التي تضم 15 دولة من المنطقة، وتهيئ، بسبب العجز الغربي عن التدخل المباشر، للعب دور ميداني في أزمة مالي المستفحلة، بل ولتغطية التدخل العسكري. وكان اختطاف الرهائن في الصحراء من قبل منظمات إرهابية، من المعروف أن الاستخبارات الجزائرية تتلاعب بها وتديرها، قد شكل عاملاً إضافياً في تغذية الشكوك حول تلاعبات الحكام الفعليين في الجزائر بالمعضلة المعقدة في الساحل، وربما فقدانها للسيطرة عليها كما في السابق. أما المنظمات الإجرامية العابرة للجنسيات، والتي تعمل في قطاع المخدرات، فهي تتعايش مع الحركات الجهادية متنوعة المشارب، على خلفية الفقر المدقع والتهميش اللذين تعاني منهما المنطقة، وهي شاسعة وصعبة الاحتواء، وغنية بالثروات المنجمية وبالمحروقات غير المستثمرة بعد، بل وحتى غير المعلن عنها. وكان إنشاء "القيادة العسكرية لأفريقيا" (أفريكوم) في 2006، عقب "المبادرة الأميركية لدول الساحل (PSI" 2004)، مؤشراً واضحاً على تعزيز نفوذ ومصالح الولايات المتحدة في منطقة كانت لا تزال شبكات المصالح الفرنسية/الأفريقية (Françafrique) هي من يقرر توجهات دولها ما بعد الاستعمارية.
يمكن لأزمة مالي (15 مليون مواطن، وواحدة من افقر دول العالم، ولكنها مهد الثقافات الافريقية)، أكثر من الخضات الليبية، أن يكون لها تأثير مباشر على الجنوب الجزائري، حيث إغراء النزعات الانفصالية يتغذى من سخط السكان المحليين. ويتنامى شعور الإحباط لدى هذه الفئات التي تعاني إهمالاً يفوق ما يعانيه السكان الجزائريون في شمال البلاد، يعزّزه بالتحديد حرمانها من أي استفادة من الموارد النفطية..بينما هي كامنة في جوف مناطقها.