لا تزال الجزائر تحتل مكانةً مميزة في المشهد المدمَّر للعالم العربي. فالبلد الممسوك باليد الحديدية التي تفرضها أجهزته الأمنية، لا يتحرك، ولا يزال مجمَّداً في الإطار المؤقت الذي لا ينتهي لنظام عفى عليه الزمن. العُطل واضح وهو ظاهر للجميع. فالبلد الذي يعيش فيه ما يقارب 35 مليون شخص، نحو 70 في المئة منهم يبلغون أقل من 30 عاماً، تديره مجموعة من العجزة المتقوقعين في ملجأ حصين مقفَل على حركة التاريخ. وهناك قطيعة تامة بين النخب الحاكمة والتطلعات الشعبية. النظام الريعي، يرتع بين الفساد البنيوي والانعدام المزمن للكفاءة. ذلك أنّ البلد، على الرغم من ثرواته الطبيعية الكبيرة، وإمكانياته الحقيقية، منخور بالفساد وسوء الادارة، لا يتقدّم ولا يفتح أي أفق أمام شبابه. ومستوى الاستثمار الانتاجي وخلق الوظائف ضعيف إلى درجة خطيرة. وبالنسبة لشركاء الجزائر من الأجانب، فالبيع في البلد مربح أكثر من الاستثمار فيه.
تنعم الجزائر باحتياطات مالية ضخمة ( ما قيمته 182 مليار دولار، يحتفظ بها المصرف الوطني بالعملات الصعبة)، وبقدرات عسكرية كبيرة، وهي لاعب إقليمي أساسي. لكنها تعيش وضعاً داخلياً هشاً منذ انقلاب 11 كانون الثاني/يناير 1992، وتواجه إطاراً إقليمياً غير مستقرّ. فهي باتت معزولة عن المغرب المغربي منذ سقوط بن علي في تونس، وخصوصاً منذ الاطاحة بالقذافي في ليبيا، وهي تشهد على حدودها الجنوبية بؤرة خطيرة ومتفاعلة من القلاقل. وتشكّل سيطرة مجموعات من الطوارق والفرق الجهادية المسلحة على شمال مالي، الذريعة المثالية لعمليات الاقتحام العابرة للقارات، كتلك التي يندرج فيها تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا. ومثلما يعرف الجميع، فإنّه سيكون لحربٍ في منطقة الساحل، تداعيات خطيرة على جنوب الجزائر.
في ظل هذه المعطيات، قام الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بزيارة رسمية للجزائر في 19 و20 كانون الأول/ديسمبر الجاري. والزيارة ممرّ إلزامي لجميع الرؤساء الفرنسيين، منذ أن افتتح هذا التقليد فاليري جيسكار ديستان في خريف العام 1975.
وعلى الرغم من الجهود الاعلامية الرامية إلى تحميل هذا الحدث بُعداً كبيراً، فإنّ زيارة هولاند، الواقعة بين مطرقة تاريخ مشترك لم تتم تصفية حساباته بعد، وسندان المصالح الاستراتيجية الفرنسية في منطقة الساحل، لا تشكل علامة فارقة في تاريخ العلاقات الفرنسية ــ الجزائرية. ولهذه المناسبة، قامت السلطات الجزائرية، وفية في ذلك لتقاليدها في التسويف والاكتفاء بإدارة المظاهر، بطلاء واجهات المباني الواقعة على طريق الموكب الرسمي، وعملت على التعويض عن غياب الحماسة الشعبية الحقيقية إزاء المناسبة، بنقل الناس في حافلات بأكملها من مناطق شتى.
إلا أن هذا التجميل البروتوكولي والخطابات الظرفية المشبعة بالمشاعر الطيبة، لم يعالجا أزمة الخواء السياسي الثنائي. فعلى الصعيد الاقتصادي، كانت النتائج ملتبسة: قام الرئيسان برعاية توقيع اتفاق، رمزي إلى حدّ بعيد، يقضي بفتح وحدة متواضعة لتجميع سيارات "رينو" في الجزائر، وهو أمر أدنى بكثير من حجم السوق وتوقعاته.
أما على الصعيد الأكثر حساسية، أي ذلك المتعلق بالذاكرة الاستعمارية بين البلدين، فإنّ فرانسوا هولاند، شأنه في ذلك شأن جميع الرؤساء الفرنسيين، عاجز عن القيام بخطوة الاعتراف العلني بجرائم الاستعمار. ولا يعود ذلك حصراً إلى الاعتراضات الفرنسية على الأمر. بل ان اعترافاً مماثلاً من قبل فرنسا يصطدم بعائق الشعور الدائم بالتفوُّق الاستعماري. لكن السلطات الفرنسية تجد ذريعة لطيفة للإحجام عن مثل هذا الاعتراف والاعتذار، بالاعتداد بالطبيعة غير الديموقراطية وغير التمثيلية إلى حد بعيد للنظام الجزائري.
وبغض النظر عن المصالحة من عدمها، فإنّ الأعمال تزدهر، والجزائر تبقى إحدى الدول النادرة التي لا يزال ميزانها التجاري مع فرنسا ايجابياً (حجم التبادل التجاري بين فرنسا والجزائر تجاوز العشرة مليار يورو عام 2012، بشكل يكاد يكون متساوياً بين الصادرات والواردات). ويظهر الطابع الاستعماري لعلاقة الجزائر مع فرنسا جلياً في تقسيم التجارة الخارجية الجزائرية وطبيعتها فالجزائر تقتصر في مبيعاتها على مادتها الأولية، النفط.
لكن، باستثناء التنسيق الأمني الممتاز بين البلدين، فإنّ العلاقات الثنائية المتينة ليست نتاج جهود الإدارات المتعاقبة، بل هي تعود بشكل أساسي إلى واقع الشبكات السياسية ــ المالية التي تنشط في إطار مبهَم مشابه لإطار الـعلاقة الفرنسية بإفريقيا françafrique) )، التي هي بنية غير رسمية تجمع حول دائرة "الأعمال"، نخب من السلطات الأفريقية والفرنسية. من جهة الجانب التاريخي ثقيل الوطأة، وفّر فرانسوا هولاند، وبمهارة، "خدمة الحدّ الأدنى"، التي نُظر إليها على انها مرْضية، من خلال حديثه عن "العذابات التي تسبّب بها الاستعمار للشعب الجزائري"، ومن خلال تذكيره أمام الجمعية الوطنية أنه "خلال 132 عاماً، أُخْضِعت الجزائر لنظام ظالم بشكل كبير وعنيف".
لكنّ هذه العبارات اللطيفة لن تُسكت هؤلاء القلة من ذوي الأصوات المرتفعة، الذين يطالبون الدولة الفرنسية بإعلان "توبتها"، وهو مطلب يحمله ديماغوجيون على الاغلب، يزايدون في الوطنية. لن يحصل الندم ولا الاعتذار بطبيعة الحال، لكن إشارة هولاند إلى "نظام ظالم بشكل كبير وعنيف" تمّ التقاطها من المراقبين الذين وجدوا العبارة ناجحة وفعالة رغم أنها مواربة. بجميع الأحوال، فزيارة فرانسوا هولاند التي تتزامن مع الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر أبهت من أن تُحفَظ في سجلات التاريخ. وأما طلاقة لسان الرئيس الفرنسي بمقابل الصمت المطبق لعبد العزيز بوتفليقة، مضيفه الجزائري، الذي لم يطلق أي تصريح ولا نظّم أي مؤتمر صحافي، فهما تعبير بليغ عن الواقع السياسي: لم يعد للجزائر صوت مسموع، ورسالتها حول التحرر وعدم الانحياز محاها نظام مشغول حصراً بتأمين استمراريته، وبالاستحواذ على الثروات. وفي "معذبو الأرض"، لفرانز فانون، وتحديداً في مقدمة الجزء المخصَّص لـ"الثقافة الوطنية"، يعلن الثائر أن "كل جيل يكتشف مهمته في ظل غموض نسبي، فيحملها أو يخونها ". على الجيل الحاكم في الجزائر أن يكون قادراً على تأمل هذه العبارة بفعالية.
مواضيع
الجزائر: زيارة دولة بعد خمسين عاماً
مقالات من الجزائر
موقع " راديو أم" يتوقف عن النشر
ينتمي "راديو إم" الى "شبكة المواقع العربية المستقلة" التي تستعيد جميعها هذا البيان المحزن.
من الجزائر إلى فلسطين
المساواة الزائفة بين المستعمَر والمستعمِر
في مؤتمر صحافي سُئِل العربي بن مهيدي، القائد الأسير من جبهة التحرير الوطني الجزائري، عن أخلاقيات إخفاء القنابل في سلال تسوّق النساء: "ألا تعتقد أنّه من الجبن استخدام سلال النساء...
عشرون عاما بعد الغزو: الدروس المستخلَصة من المأساة العراقية
منع نظام صدام حسين لأي صوت معارض حَرَم المجتمع العراقي من النقاش حول الخيارات الاستراتيجية الأساسية للبلاد. لقد شكّل الاستبداد السبب الأول في اضعاف المجتمعات التي صارت عاجزة عن الدفاع...
للكاتب نفسه
ما هي التغييرات الحاصلة في الرأسمالية المهيمنة؟
يقع أصل التحولات الهيكلية الحالية للرأسمالية، في الفصل بين الإنتاج المادي البضاعي وبين الاقتصاد المالي. وقد ترافق هذا الفصل مع التفكيك المتدرج للتدابير التنظيمية المؤطِّرة للأسواق المالية وللبورصة في الولايات...
عشرون عاما بعد الغزو: الدروس المستخلَصة من المأساة العراقية
منع نظام صدام حسين لأي صوت معارض حَرَم المجتمع العراقي من النقاش حول الخيارات الاستراتيجية الأساسية للبلاد. لقد شكّل الاستبداد السبب الأول في اضعاف المجتمعات التي صارت عاجزة عن الدفاع...
من الكفاح ضد الاستعمار إلى التعبئة من أجل الحريات: كرة قدم الشعب في الجزائر
أصبح الملعب مركزاً للتعبئة الشعبية، ومنتجاً لدلالات سياسية عملية تناقلها الرأي العام بشكل واسع على اختلاف شرائحه الاجتماعية. والتحمس لهذه الرياضة ليس أمرا مستجدا. فقد لعبت كرة القدم دوراً مهماً...