أم علاء: بورتريه لامرأة مصرية شاركت في ثورة يناير

سيرة امرأة غير عادية، وإن عُدّت من العاديين. امرأة اعتادت أن يكون لها موقف، ولا يسعها أن تصمت أو تقف مكتوفة الأيدي أمام الوضع الخطأ.
2019-09-19

منى علي علاّم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
غسان عويس - سوريا

لطالما أرّقني التساؤل: هل كتبنا تاريخ الثورة وناسها؟ هل سجلنا ما تضمّنته من مواقف بطولة وشجاعة، نقرأ بعضها بصورة عابرة من حين لآخر على مواقع التواصل الاجتماعي، لاسيما في ذكراها من كل عام؟ هل وثّقنا الحدث الكبير كما ينبغي، أمام المحاولات الحثيثة للتشويه والتزييف؟
بودّي لو استطعتُ كتابة بورتريه لكلّ من شارك في ثورة يناير، وما تلاها من فعاليات ثورية، خاصة من الناس "العاديين"، الذين شكّلوا الحشود وذابوا فيها، فلم ننتبه إلى أن لكلّ واحد منهم اسماً وصورة، وقصة جديرة بالرواية، مثل "أم علاء".

في التقويم الورقي المعلّق على "حائط" بوفيه قسم التاريخ بكليتي* متوسطاً بين صنبور المياه الذي لا يكف عن التسريب من جهة، والأكواب الزجاجية المستخدمة في إعداد الشاي والقهوة من الجهة الأخرى، وضع "خالد"، العامل الشاب بالقسم، علامة بالقلم على يوم الجمعة 12نيسان/ إبريل 2019، كاتباً في الخانة الصغيرة لهذا اليوم "أم علاء"، توثيقاً لتاريخ وفاتها.

لسنوات طويلة تقترب من الأربعين عاماً، عملت "أم علاء" هنا، التحقت بالقسم شابّة ورحلت عنه امرأة مسنّة تجاوزت السبعين من العمر، تاركة وراءها سيرة طيبة يشهد بها الجميع، من داخل القسم وخارجه، وليس أدلّ على ذلك من تلك اللوحة الكبيرة المعلّقة بالقسم، تلفت نظر الذاهب والآتي، تحمل نعياً رقيقاً لـ"الأم الغالية والروحية". في يسار اللوحة، التي ظلّت معلّقة لشهور على غير المعتاد مع غيرها من لوحات، تجد صورة "أم علاء" بوجهها الأسمر النحيف – كجسدها - وعينيها المكحّلتين، كما كانتا دائماً.

امرأة وسط الحشود

إذا تحدثتَ مع أحد الأساتذة أو الموظفين أو العمال عن "أم علاء"، ستسمع جوانب من قصة امرأة مكافحة وذات خلق تحظى بمحبة الجميع واحترامهم. ولكن قصتي الشخصية معها كانت من نوع آخر. لم أكن أعرف الكثير عنها، ولا حتى اسمها، فقط أعرفها شكلاً كعاملة لدينا في الكلية، ربما لم أكن أذكر حتى في أيّ قسم تعمل، فقد درستُ في قسم آخر، ولم يكن لي تعامل يُذكر معها. غالب الظن أني كنت ألمحها من بعيد، فقد كان القسمان بالمبنى نفسه. كانت بالنسبة لي إذاً وجهاً بين العديد من الوجوه العابرة، ولكنها لم تعد كذلك منذ أن لمحتها في أحد أيام ثورة يناير، على مقربة مني، في إحدى المسيرات الحاشدة التي كانت تشهدها شوارع الإسكندرية وغيرها من المدن في برّ مصر، في تلك الأيام، وبالتحديد التي تلت "الثامن والعشرين من يناير". عندما رأيتها، كانت بمفردها، لا يبدو معها أحد، تقف في صمت حاملة بكلتا يديها لافتة ورقية لا أذكر ما الذي كان مكتوباً فيها، بالتأكيد كان شعاراً من شعارات الثورة أو هتافاً من الهتافات التي كان الناس يصدحون بها آنذاك. راقبتها من بعيد بمزيج من الاندهاش والفرح، ونبّهت رفيقاتي أنْ انظُرْن، ثم انشغلت بالمسير والهتاف، بعد أن انطبع المشهد في ذاكرتي، كواحد من أهم مشاهد الثورة الشخصية بالنسبة لي.

حوار لم يتم

ويشاء القدر أن أعود بعد سنوات، جرى فيها ما جرى، إلى الجامعة طالبة دراسات عليا، بالقسم نفسه الذي تعمل فيه "أم علاء". بالتأكيد كان الحديث معها بشأن الحدث الذي جمعنا فكرة حاضرة دوماً، ولكنها كانت خطة مؤجلة باستمرار، ليس فقط بسبب الانشغال ، ولكن لأن طبيعة شخصية "أم علاء" تجعلك تنتظر لحظة مناسبة لتفتح معها حديثاً كهذا.. تلك اللحظة التي لم تكن تأتي، فهي تبدو شديدة وصارمة في تعاملاتها، أو كما وصفت إحدى زميلاتي العلاقة بها ضاحكة "أنا باحبها لكن باخاف منها". إذا مررت بالبوفيه غالباً سوف تسمعها تنهر طالباً بصوت عال "يلا يا وَلا" ليخرج، فليس "البوفيه" مكانا للجلوس والتسامر بين الطلاب. وكطالبة في القسم، نلتُ طبعاً نصيبي من ذلك عندما كنت أذهب لأجلس للاستراحة - وللثرثرة مع الصديقات أيضاً - على أحد الكراسي القليلة الموجودة في حرم أم علاء، والذي لا تسمح بانتهاكه.

كانت مثل هذه المواقف لا تغضبني، إلا قليلاً إن شئتَ الصراحة، لأني كنت أعرف – من مواقف أخرى قليلة عابرة - أنها طيّبة وذات حنان. الآن أنا أكثر تعاطفاً معها وتفهماً لسلوكها، بعد إدراكي لظروف السنّ والمرض، التي لا شك تمثل ضغطاً عصبياً وجسدياً ينعكس – مع ضغوط العمل - في تعاملات المرء.

كنت أراها تمارس عملها بصورة عادية ولم يظهر – لي - عليها أثر لمرض. كذلك كانت تبدو أصغر سناً. يقول "خالد" ان ذلك بسبب نشاطها وحبّها للحركة. لذلك كان خبر رحيلها صادماً بالنسبة لي إلى جانب كونه حزيناً، وشعرت بالخسارة، الخسارة التي لا تعوّض: ترى ماذا كان يمكن أن تخبرني من تفاصيل في شهادتها على الحدث لو كنت أجريتُ معها ذلك الحوار؟ ولكني لم ألغِ قرار الكتابة، بل صار الأمر أكثر إلحاحا، أخذته كمسئولية شخصية، أن أقول أن "أم علاء" كانت هناك. وسعيت لبناء القصة، إن لم يكن بلسانها فبلسان المحيطين. إنّ مشهدا واحداً لكفيل بدفعك للتنقيب وراء شخصية ما.

شخصية مميّزة

بإمكانك أن تسمع كلاماً متشابهاً عن "أم علاء" من مصادر مختلفة، ممن تعامل معها في بيئة العمل عبر عقود أو سنوات، فتستشفّ شخصيتها من خلال مواقف عديدة تُحكى لك من أستاذ، أو موظف، أو عامل، أو طلاب، ومتخرجين جدد وقدامى. عندما التحقتْ "أم علاء" للعمل بالقسم في ثمانينات القرن الماضي، وكان يضم كبار الأساتذة ، عملت مع "عم أحمد" العامل الأقدم الذي غادر لاحقاً، لتنفرد هي بالمسئولية من بعده. تعلّمتْ شيئاً فشيئاً، حتى أتقنت، واكتسبت ثقة الأساتذة ومحبتهم. وكان الأساتذة الحاليون عندئذ طلاباً ومعيدين، فصاروا يعتبرونها أمّاً لهم تربوّا على يديها. لذلك بعد خروجها على المعاش، حرصوا على إبقائها تمارس عملها بصورة غير رسمية. وكانت هي مرتبطة بالقسم منتمية إليه، مجتهدة في عملها ومحبّة له. ظلت تمارسه حتى الأسبوع الأخير، ولم تنقطع عنه إلا بدخولها المستشفى قبل وفاتها بأيام. فكانت المرأة السبعينية التي تعاني جرحاً في رجلها لم يكن يطيب، تركب "المشروع" (باللهجة االسكندرية وهو الميكروباص) كلّ صباح، من مكان سكنها، بإحدى مناطق المساكن الشعبية بالمدينة، لتتوجه للكلية. في الفترة الأخيرة كانت تصل متأخرة قليلاً عن موعدها المعتاد، فقد تناقصت قوتها تدريجياً. تحب الانضباط والالتزام، لذلك كان يزعجها الطلاب الذين يدخلون (إلى البوفيه) ويخرجون ويعبثون، وهي تحب الحفاظ على الاشياء، لا يعجبها "الحال المايل"، سواء في تفاصيل العمل اليومية أو على المستوى العام. وكان لها رأي في الشأن العام، لاسيما في ميدان عملها، الجامعة. فبحكم سنوات عملها الممتدة، مرّت عليها أجيال، وكانت شاهدة على التدهور الخلقي والعلمي الذي أصاب الجامعة المصرية، كانت ترى أن نوعية الطلبة تغيّرت، لذلك كانت تتعامل معهم بشدة، أما علاقتها بالطلاب القدامى فكانت مختلفة، أكثر وداً وحميمية. كان العدد أقل بكثير وكان الطلاب لا يستنكفون عن مساعدتها في المهام الملقاة على عاتقها. كانت تستاء أيضاً من بطالة خريجي الجامعة، كانت "زعلانة على الشباب المتعلمة ومش لاقيين فرص عمل أو قاعدين على القهاوي.. واحد بتاع جامعة واقف على عربية طماطم؟!". كما كان يسيئها استغلال عمال الكلية و"تسخيرهم" في مهام ليست من صميم عملهم، ودون مقابل. "دمّها حامي"، و"صاحبة واجب" في الأفراح والمآتم، لا تتأخر عن أحد، إذ كانت تقرض زملاءها إن احتاجوا، تستعف أن تطلب ثمن كوب شاي أو قهوة أعدّته لك، ويمكنك أن تؤجل دفعه إلى أن "تُفرَج". قوية الشخصية معتزة بكرامتها، ترفض انتقاص حقها أو قدرها، وتتخذ موقفاً صارماً إزاء ذلك. ذات مرة امتنعتْ عن الذهاب للكلية اعتراضاً، فزارها أحد الأساتذة في بيتها حلّا للموقف الذي أغضبها. تخبرني أستاذة مقرّبة لها من القسم: "شخصيتها قوية جدا، عارفة ليه؟ عشان عمرها ما دنّت نفسها لحد".

مثل أعلى

التحق "خالد" بالقسم قبل أكثر من اثني عشر عاماً، تولّت هي تعليمه على نظام العمل وكيفية التعامل مع الأساتذة تبعاً لشخصية كل واحد منهم. كانت تعطي "خالد" من خبرتها، وتوصيه بعدم التدخل في أي مشكلات تقع بين الأساتذة، وأن يبقى دائماً على الحياد. اتبعت معه في البداية – بحكم شخصيتها - أسلوب الشدة، ولكنه يعترف الآن بفضلها عليه، ليس فقط في تعليمه، ولكن أيضاً في دعمها له ووقوفها الى جانبه في أية مشكلة، "كانت شايلة عني وتحامي لي، ولو حصل أي موقف مع حد من الدكاترة تقول لي مالكش دعوة أنا هاتصرف". يعتبرها "خالد" مثلاً أعلى له، وكثيراً ما استشارها في أموره الخاصة لأنها "ست فاهمة ودماغها كبيرة". لم تنل "أم علاء" حظاً من التعليم، لكن كان لديها خبرة حياتية ومعرفة بشخصيات الناس وطباع البشر. توعيتها لم تقتصر على "خالد"، فكان من الممكن أن تنصح إحدى طالبات القسم مثلا بعدم تصديق وعود زميلها الزائفة، "بيضحك عليكِ"، ربما رأته مثلاً مع فتاة أخرى بالقسم الذي لم يكن تفوتها فيه صغيرة ولا كبيرة.. وتثبت الأيام أن نظرتها في محلّها..

يحكي لي "خالد" وهو يتناول سريعاً وجبة الإفطار التي كانت عبارة عن رغيف من العيش البلدي حشاه بالباذنجان المقلي الذي يسيل بعض زيته من الرغيف، بينما أتناول أنا كوباً من الشاي جميل المذاق ضيّفني به، عن كرم "أم علاء"، وكيف أنها كانت تحرص على اقتسام اللقمة معه، في الوجبة الصباحية التي كانت تحضرها معها، سواء طبختها بنفسها أو اشترتها "ساعات كانت تجيب بِصارة، أو عيش وفلافل من محل عندها بيعملها حلوة وكانت حتى بتدّي منها للدكاترة، وآخر مرة عمري ما أنساها كانت جايبة كحك وجبنة تُركي..".

كانت سندا له في العمل، تحرص على مساعدته في الأعمال الشاقة، رغم سنها وظروفها الصحية، "لما كنت آجي أيام الامتحانات أفرش التُّخَت تيجي تساعدني تقول لي نزّل التختة وأنا أفتحها.." كان يشعر بأن قلبها عليه، ولا يزال يذكر عباراتها "خذ نَفَسك" "اشتغل على قدّك" "ما تجيش على نفْسك"، وعندما يستمر العمل لوقت متأخر "امشِ روّح لعيالك بدري".. من الطبيعي أن يكون أداؤه للعمل وحيداً الآن بعد غيابها سبباً لتساقط دموعه. ويجْمل تعليقه على عِشرته معها بالقول "ست كُمّل، ربنا يرحمها ويسامحها.. أدّت رسالتها ومشت، نفسي أمشي محبوب زيّها".

يوم الفرح

في حياتها الخاصة، عانت "أم علاء" الكثير وواجهت عقبات عديدة، تحمّلت وحدها مسئولية تربية أبنائها الخمسة، كانت ست بيت شاطرة ومدبّرة، لتستطيع الوفاء بالاحتياجات حسب المتاح، حيث كانت هي المعيلة للأسرة، ربّتهم وعلّمتهم إلى أن توظفوا وتزوجوا وصار لها أحفاد تخرجوا في الجامعات أيضاً، أحدهم تخرج من القسم نفسه، وآخر التحق بكلية الطب. من أكثر لحظات الفرح التي عاشتها "أم علاء" يوم أن حصل ابن من أبنائها على درجة الدكتوراه من قسم التاريخ، القسم الذي شهد سنوات كفاحها وشقائها، فكان يوم المناقشة بالنسبة لها يوم فرح، بكامل أناقتها حضرتْ، لم ترتد زي العمل الرسمي، ولم تمارس مهامها اليومية المعتادة، بل ذهبت للاحتفال، جالسة في الصف الأمامي تتلقى التهاني، وتسعد بتتويج مسعى الابن، ومسعاها.

هذه فقط جوانب من سيرة امرأة غير عادية، وإن عُدّت من العاديين. امرأة اعتادت أن يكون لها موقف، ولا يسعها أن تصمت أو تقف مكتوفة الأيدي أمام الوضع الخطأ. هل كان المشهد يستحق الاندهاش إذاً؟ وهل كان من الممكن أن تفوِّت "أم علاء" حدثاً كثورة يناير دون أن تشارك فيه، رغم كبر السن ووهن الجسد؟

لا يزال "خالد" حريصاً على أن يروي أوعية الزرع البلاستيكية الخاصة بأم علاء، بعضها موضوع أعلى الدولاب الخشبي بأحد أركان غرفة البوفيه، والبعض الآخر فوق رفّ عالِ بالحائط المجاور، يستلزم الوصول إليه الوقوف على كرسي. كانت "أم علاء" تتعهدها بالرعاية والسُّقيا، ويستمر "خالد" من بعدها في أداء المهمة كلّ يوم، أو "الأمانة" على حد تعبيره، حبّا ووفاء للسيّدة.

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

قصّة "هَدِية" مع الميراث

في زيارتي الأولى في العام 2016 ركّزتُ على التقصير الحكومي ونقص الخدمات الأساسية، وفي الثانية (2021) عملتُ واحتككتُ أكثر بموضوعات تتعلق بثقافة وسلوكيات الناس أنفسهم هناك: ختان الإناث، قتل النساء...

أوضاع صعبة يواجهها الوافدون السودانيون في مصر وعلى حدودها

قالت مفوضية اللاجئين إنه حتى 15حزيران/ يونيو الفائت، تمّ تمويل برنامج الاستجابة السريعة للأزمة السودانية، الذي يشمل مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بنسبة 15 في المئة فقط...