تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
في منزل مبني من الطوب الأخضر، وهو طين مخلوط بروث الأبقار، وفي الجزء الآخر منه الذي بُني من بقايا جوالات "الخيش" و"الحصير" مسنودة على عيدان لا تقوى على الثبات طويلاً، تعيش "بابويا" التي فرت من ويلات الحرب في إقليم جنوب كردفان، ولم تجد ملجأ غير هذا المكان الذي بالكاد يحميها من المطر، وهو حال كل المنازل هنا.
السيدة الثلاثينية التي لا يتجاوز متوسط دخلها اليومي 40 جنيهاً سودانياً (أكثر بقليل من نصف دولار) ليس بمقدورها أن تخرج إلى عمل يومي يدر لها دخلاً أفضل من هذا. فهي مجبرة على البقاء بالمنزل والعمل داخل الحي لأن ابنها ذا العشر سنوات مصاب بشلل تام: غير قادر بتاتاً على الحركة وفي حاجة دائمة للرعاية، وهو لا يستطيع حتى الجلوس، ويبقى ممدداً على سريره المصنوع من الحبال منذ أن أصابته هذه الحالة قبل ثلاث سنوات.
غير أن "بابويا" تعمل جهدها لتوفير لقمة عيش له ولإخوته، فأبوهم توقف عن التكفل بحاجات بيته منذ فترة تاركاً هذا العبء الثقيل لزوجته. وقد جرت العادة في بعض مناطق السودان الغربية، أن تتحمل النساء عبء الإنفاق على الأسرة، بوجود الرجل أو بعدم وجوده. وليس بالضرورة أن يكون هذا الوضع نتيجة انفصال أو خلافات بين الزوجين، ففي حالة "بابويا" مثلاً، الزوج موجود في البيت، ويحتفظ بعلاقته الأسرية معها ومع الأبناء، لكنه غير مستعد للعمل والإنتاج.. أو لا يرغب.
"جبرونا".. اسم يعكس واقع الحال!
على بعد 28 كلم من قلب العاصمة الخرطوم، يقع حي "جبرونا" وهو واحد من 11 حياً عشوائياً تقع في منطقة غرب أم درمان التي تتمركز فيها العشوائيات. على مقربة من أكبر الأسواق المركزية بمدينة أم درمان، "سوق ليبيا" دائم الحركة والنشاط، تنتهي معالم حياة، وتبدأ مباشرة معالم حياة أخرى مختلفة تماماً، يفصلهما عن بعضهما شارع الأسفلت العريض.
عدد سكان "جبرونا" أكثر من 15 ألف نسمة وفقاً لتقديرات الحصر الذي تم بواسطة السلطات، مع الأخذ بالاعتبار أن هناك سكاناً وصلوا إلى المنطقة بعد اكتمال الحصر، وهؤلاء لم تشملهم الإحصائيات التقديرية. والحصر يعني تسجيل بيانات السكان وحفظها في السجلات الرسمية باعتبارهم استحقوا تمليكهم أراضٍ مستقبلاً. ووفقاً لتقديرات أهلية فإن عدد السكان الحقيقي (المحصورون وغير المحصورين) قد يقترب من 30 ألف نسمة.
يقطن حي "جبرونا"، على بعد 28 كيلومتراً من قلب الخرطوم، أبناء ديانات متعددة أبرزها الإسلام والمسيحية. يُدفن في المقبرة المحيطة بالحي المسلم بجانب المسيحي على نحو طبيعي دون انتظار فتوى من أحد. فالسكان هنا ينحدرون من منطقة جبال النوبة المعروفة بالتعدد الديني والتسامح، والذي يصل في كثير من الحالات إلى تعدد الديانات داخل الأسرة الواحدة.
نشأ الحي في العام 1992، وهو التاريخ الذي نشأت فيه الكثير من الأحياء العشوائية في السودان في موجة ثانية. فموجة هجرة نحو الخرطوم نشأت في الفترة بين 1960 – 1980، ومعظم أفرادها كانوا يأتون من الشمال والوسط، وقد اختاروا أطراف العاصمة مستقراً، ولاحقاً نقلتهم السلطات إلى مناطق مخططة داخل الخرطوم. فيما يؤرخ للموجة الثانية في الفترة ما بين 1980 – 2000 وهي التي مثلت فيها الحروب التي اشتعلت حينها في أطراف السودان السبب الرئيسي للنزوح، بينما كان الفقر السبب الأوحد في الموجة الأولى.
و"جبرونا" هي كلمة دارجة تعني في اللغة العربية "أُجْبِرنا". وتفاصيل الحياة القاسية هنا تطابق اسم الحي على نحو مدهش فلا يمكنك العيش هنا إلا مجبراً.
النوبة في السودان: قضايا قديمة متجددة
01-04-2017
يقطن الحي أبناء ديانات متعددة أبرزها الإسلام والمسيحية. المقبرة المحيطة بالحي يُدفن فيها المسلم بجانب المسيحي على نحو طبيعي دون انتظار فتوى من شيخ أو كاهن. ويبدو المشهد في المقبرة منطقياً ومتسقاً مع الخلفيات العقائدية لهذه المجموعات المنحدرة من منطقة جبال النوبة، المعروفة بالتعدد الديني الذي يصل في كثير من الحالات إلى تعدد الديانات داخل الأسرة الواحدة التي تجد فيها المسلم والمسيحي، وأحياناً اللاديني يعيشون في بيت واحد، ورغم هذا التعدد، إلا أن مناطق جبال النوبة عُرفت بالتسامح الديني على الرغم من ضراوة الحروب المستمرة هناك.
صناعة الخمور مصدر دخل رئيسي للنساء
اللافت في هذا الحي خلال ساعات النهار، أن جلوس الرجال يكثر في الطرقات وعلى أطراف الحي وفي السوق الخاص به، بينما يغيب بشكل لافت العنصر النسائي. "بابويا" التي تتولى الإنفاق على أسرتها ليست وحدها من يفعل، فالنساء هنا ينخرطن في الأعمال اليومية أكثر من الرجال، ربما لتوفر فرص أفضل للنساء. يعملن بشكل خاص في صناعة الخمور البلدية والعمل بالمنازل. والأسر هنا تتعدد في البيت الواحد الذي تجده في الغالب مقسم إلى غرف صغيرة أو "رواكيب"، وهي مظلات صغيرة مصنوعة من "القش" و"الحصير" وبقايا الجوالات. تجد في البيت الواحد زوجتين أو ثلاث. هنا يكثر تعدد الزوجات، وبالمقابل فإن الزوجات هن من يحملن عبء الإنفاق!
وحين يتجول المرء في هذا الحي، تطالعه رائحة النفايات وفضلات الإنسان والحيوان، مختلطة بروائح الخمور البلدية التي تتم صناعتها هنا على مدار اليوم، وتجذب أعداداً مقدرة من الزبائن من خارج المنطقة. وتنتشر عادة صناعة الخمور البلدية في المناطق العشوائية لأنها ممنوعة وفقاً للقانون، ولكنها تمثل مصدر دخل رئيس لكثير من النساء. هي صنعة تدر دخلاً أفضل بكثير من الخدمة بالمنازل، أو أعمال البناء المختلفة، كما تمثل بعض الخمور البلدية وجبة يومية لسكان هذا الحي. وهي تسمى "المريسة"، وتصنع من الذرة المتخمرة. وكذلك هي جزء أصيل من ثقافة قبائل النوبة التي تقطن جنوب كردفان بشكل رئيسي، وتمثل الإثنية الغالبة في هذا الحي. وبجانب صناعة الخمور تعمل النساء أيضاً في منازل الأحياء الميسورة في أعمال غسل وكي الملابس والنظافة، ومن يقمن بهذه الأعمال يعشن عادة أوضاعاً اقتصادية أفضل من نظيراتهن في الحي.
تنتشر في الحي رائحة النفايات وفضلات الإنسان والحيوان، مختلطة بروائح الخمور البلدية التي تتم صناعتها هنا. وتنتشر صناعة الخمور البلدية في المناطق العشوائية خصوصاً لأنها ممنوعة قانوناً، ولكنها تمثل مصدر دخل رئيس لكثير من النساء.
تمثل أرجل الدجاج واحدة من الوجبات الرئيسية لسكان الحي. تعرض هي الأخرى على مناضد الحديد الصدئة، وتطبخ بالصلصة أو تقلى ببقايا الزيوت، كذلك توجد وجبة أخرى رخيصة وفي متناول الجميع وهي "رؤوس السمك"، وتطبخ بالصلصة أو على شكل حساء.
ينشط الرجال قليلاً في أعمال البناء، والعمل بالأجر اليومي في السودان وهو يسمى بـ"اليومية". لكن أعمال البناء التي تمثل واحدة من مصادر الدخل الرئيسية في مثل هذه الأحياء تراجعت خلال السنوات الأخيرة. فقد باتت شركات متخصصة تنجز البنايات الكبيرة. غير أن سوق صناعة الطوب أو ما يُعرف بـ "كمائن الطوب" ما زالت حرفة رئيسية للرجال، علاوة على أعمال جزئية وجانبية في الأسواق.
سوق الحي واجهة لأبرز مظاهر الفقر
تعرض في سوق الحي الوجبات ذات الأسعار الزهيدة، والتي تكون في متناول سكانه. الذباب يكاد يغطي ملامح اللحوم المفروشة على مناضد قديمة مصنوعة من الحديد الصدئ، وهي لا تُباع بميزان الكيلوغرام كما هو المعتاد في كل الأسواق، بل بال"الكوم"، بعد تقسيمها إلى أجزاء صغيرة يناسب سعرها وكميتها سكان الحي. ومن الواضح أن اللحوم لا تطابق معايير السلامة الصحية كما هو حال الحي كله الذي تحيط به المخاطر الصحية والبيئية، كما هو حال العشوائيات.
تمثل أرجل الدجاج واحدة من الوجبات الرئيسية لسكان الحي. تعرض هي الأخرى على مناضد الحديد الصدئة، وتطبخ بالصلصة، أو تقلى ببقايا الزيوت. بجانب "العدسية" التي تمثل وجبة رئيسية (وهي نوع من اللوبياء الصغيرة والتي تشبه حباتها العدس، وهذه البقولية هندية الأصل ومعروفة في السودان، ويرتبط استهلاكها على نحو خاص بشهر رمضان). كذلك توجد وجبة رخيصة وفي متناول الجميع وهي "رؤوس السمك" وتطبخ بالصلصة، أو على شكل حساء.
مع انعدام الخدمات الرئيسية مثل الماء والكهرباء، يستهلك سكان الحي جزءاً كبيراً من مداخيلهم المحدودة في شراء الماء والاشتراك في خدمة الكهرباء عبر مولدات الكهرباء الكبيرة التي تعمل بالغازولين، وتعود ملكية هذه المولدات لأفراد. لا يتجاوز متوسط الدخل اليومي في هذا الحي نحو الدولار الواحد (حوالي 70 جنيهاً) بينما يدفع مبلغ 150 جنيهاً شهرياً للحصول على مقدار من الطاقة يسمح بتشغيل جهاز التلفزيون مع إضاءة مصباح واحد، و50 جنيهاً لتوفير المياه التي تُجلب إلى الحي عبر عربات "الكارو"، وهي بالكاد تغطي احتياجات المنزل اليومية.
وظائف لمكب النفايات الملاصق
يحيط بحي "جبرونا" مكبٌّ ضخم للنفايات التي يتم شحنها من أحياء بعيدة، لتفريغها هنا. المكب يستخدم كدورة مياه جماعية لسكان الحي، مع انعدام دورات المياه داخل المنازل (إلا لقلة قليلة)، ويمثل كذلك مصدر دخل بالنسبة للأطفال الذين يقضون سحابة يومهم فيه بحثاً عن بقايا أدوات منزلية أو مكتبية أو قوارير مياه أو أجهزة متعطلة لبيعها لتجار "الخردة". وعلى الرغم من وجود خدمة التعليم المتوفرة في مدرستين، إلا أن الغالبية الساحقة من الأطفال غير منتظمة في المدرسة بسبب الفقر المدقع. وحتى الذين ينتظمون في المدارس يتسربون منها لاحقاً إما بحثاً عن عمل، أو للزواج بالنسبة للفتيات اللائي عادة يقطعن تعليمهن لأجل الزواج المبكر وأسبابه تعود إلى الظروف الاقتصادية مثله هنا مثل كثير من المناطق في السودان. وكانت إحصائيات سابقة قدرت أن النسبة المتوقعة للتسرب المدرسي في السودان تبلغ ثلث الأطفال، يتركون الدراسة قبل الوصول إلى العام الأخير من التعليم الابتدائي، والبنات أكثر عرضة لترك مقاعد الدراسة. ولكن النسبة الفعلية بلغت 45 في المئة من الأطفال يتسربون من الدراسة في هذه المرحلة، بينما لا يلتحق ما نسبته 43 في المئة منهم بالمدارس أبداً. وفي عام 2017 أعلنت منظمة "بنك الطعام" أن 700 ألف تلميذ يذهبون إلى المدارس بلا وجبة إفطار.
عصابة "قيقا ون"!
ارتباط الجريمة بالفقر يتجلى هنا في جرائم القتل والنهب الكثيفين. جرائم القتل كثيرة في هذا الحي، وعادة ما تحدث في مناطق صناعة وتعاطي الخمور التي يرد إليها الزبائن من خارج الحي. ويمثل الحي كذلك بيئة خصبة لأعمال الابتزاز والنهب بواسطة متفلتين من القوات النظامية، يستغلون سلطتهم لأعمال مصادرة مصانع الخمور البلدية (الممنوعة وفقاً للقانون) ثم وفي كثير من الأحيان تتم "التسوية" في الطريق قبل الوصول إلى أقسام الشرطة، وذلك بدفع مبالغ مالية من قبل صاحبات المصانع مقابل إطلاق سراحهن وسراح معداتهن. وتحولت سلطات المصادرة والمداهمة الممنوحة إلى الشرطة إلى مصادر دخل لمنتسبي هذه القوات، وفقاً لعدد من القوانين مثل "قانون النظام العام" سيء السمعة، الذي يمنح الشرطة صلاحيات الاقتحام والمداهمة.
يحيط بحي "جبرونا" مكبٌّ ضخم للنفايات التي تشحن من أحياء بعيدة وتفرغ هنا. يستخدم المكب كدورة مياه جماعية لسكان الحي مع انعدام دورات المياه داخل المنازل، ويمثل كذلك مصدر دخل بالنسبة للأطفال الذين يقضون سحابة يومهم فيه بحثاً عن بقايا أدوات لبيعها لتجار "الخردة".
"ون قيقا- One Giga" عصابة معروفة في الحي، بعض أفرادها ينتسبون للقوات النظامية، أو كانوا منتسبين في وقت سابق. تمارس العصابة أعمال النهب والسرقة والاغتصاب تحت التهديد بالسلاح. فبعد مغيب الشمس يستعصي الدخول إلى الحي الذي تتوقف المواصلات العامة المؤدية إليه عند الحادية عشرة مساءً، ويبدأ رواد احتساء الخمور وتجارها بالقدوم إلى الحي الذي يتحول في الليل إلى منطقة غير آمنة. اللافت في الأمر أن نشاط هذه العصابة ومثيلاتها انحسر تماماً بعد سقوط الرئيس البشير بشهادة عدد من سكان الحي.
سلطة أهلية، نافذة تعمل بالتراضي
يلجأ سكان "جبرونا" إلى "السلطان" للاحتكام عنده في حالة نشوء خلاف. و"السلطان" هو إدارة أهلية ممثلة في شخص واحد يرضى به أفراد القبيلة. وفي بعض المناطق يُسمى سلطان، وفي مناطق أخرى في السودان يُطلق عليه "عُمدة" أو "ناظر" أو "شرتاي". ولا علاقة للسلطات الرسمية باختيار الناس أو بتسميتهم له، وبواقع الحال هو مرجع أعلى للقبيلة، وعادة تنتقل السلطة الأهلية من سلطان إلى آخر بالتوارث، فتجده أحياناً شيخاً كبيراً، ويمكن في أحيان أخرى أن يكون شاباً. قبائل جبال النوبة التي تمثل الإثنية الغالبة في حي "جبرونا" تعتبر السلطان سلطة أهلية، مثلها في ذلك مثل غيرها من مناطق السودان البعيدة عن المدن أو التي يقل فيها مستوى التعليم. ويستقبل السلطان الذي يسكن وسط الأهالي كل الخلافات، لكن هذا لا يمنع من اللجوء إلى القضاء المدني في حالات جرائم القتل، ويأتي ساعتها دور السلطان في حالة العفو. وخلال السنوات الأخيرة دخلت الإدارات الأهلية حيز السياسة، واستفادات السلطات من تأثيرها في أوساطها بشكل كبير، وخاصة في الحملات الانتخابية وفي توفير الدعم السياسي.
ويحرص سكان العشوائيات على تفقد بعضهم البعض، وتوفير الدعم المتبادل بقدر المستطاع، مادياً أو معنوياً.. والمتوفر على الدوام هو الدعم المعنوي. هذه العلاقات تمتد إلى مشاركة سكان العشوائيات بعضهم في حلوها ومرّها. ويعتقد الكثير من سكان هذه المناطق أن هذا الترابط والتعاضد طبيعي جداً في ظل وضع اقتصادي لا يرحم. فالمحفز على البقاء هو هذه الحميمية بين الناس. غير أن هذه العلاقات لم تتجاوز هذا الحد، فلم تتطور باتجاه نشوء جمعيات، أو أجسام تقدم دعماً على نحو يتيح بعض الحلول لمشكلات سكان هذه المناطق.
توقف الدعم الإنساني
لا تعرف العشوائيات في المحاضر الرسمية بكونها المناطق المحرومة من الخدمات. فهذا الحرمان مبرر رسمياً، لأنها مناطق لم تحددها الدولة للسكن، إنما يتم فرضها كأمر واقع من قبل قاطنيها. ولا يشمل الدعم الحكومي - على ندرته - سكان هذه المناطق. والدعم الحكومي هنا متمثل في ديوان الزكاة الذي يتولى المسؤولية عن إعانة الفئات الفقيرة في المجتمع المسلم وفقاً لمعايير تحددها المؤسسات الرسمية المعنية بذلك. في وقت سابق، كانت المنظمات الإنسانية تصل إلى حي "جبرونا" وغيره، وتقدم دعماً مادياً ممثلاً ببعض السلع الاستهلاكية والإشراف الصحي المستمر، خصوصاً للأطفال الذين تتفشى وسطهم أمراض الإسهالات والجفاف. لكن قراراً حكومياً أصدره الرئيس المخلوع عمر البشير عام 2009 بعد صدور مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بحقه، قضى بطرد كل المنظمات الدولية العاملة في السودان، الأمر الذي أثر بشكل مباشر على سكان الحي، علاوة على توقف الدعم الذي كانت تقدمه الكنائس. فبعد انفصال جنوب السودان تعالت الأصوات الرسمية بإسلامية الدولة السودانية، حيث أن الغالبية العظمى تدين بالإسلام، وعلى إثر ذلك انكمش النشاط الكنسي الذي يُتهم على الدوام بمحاولات التنصير.
هجرة ريف ومدن مستمرة نحو الخرطوم
تعاني العاصمة الخرطوم دون سائر مدن السودان من تزايد ظاهرة النزوح من الأرياف، وقدرت إحصائيات رسمية في وقت سابق نسبة النزوح بمعدل وصول 100 أسرة يومياً إلى العاصمة. وتشير الإحصائيات ذاتها إلى أن نسبة الباحثين عن العمل تصل الى أكثر من 40 في المئة من هؤلاء النازحين. وتفتقر المؤسسات السودانية إلى إحصائيات دقيقة ومتجددة، ومن الصعوبة الوصول إلى إحصائيات نهائية حول سكان العشوائيات، ليس فقط لغياب الأرقام الرسمية، لكن لاستمرار عمليات النزوح واتساعها يوماً بعد يوم إلى هذه الأحياء من جهة. ومن جهة أخرى فإن أجزاءً من هذه الأحياء يتم تخطيطها، ويعود تقدير قرار التخطيط للسلطات التي تُصنف المواقع وفقاً لإمكانية توفر الخدمات فيها، أو لتراكم المشكلات البيئية بعد شكاوي الأحياء المجاورة. فتتم الإزالة ومن ثم الترحيل إلى مناطق جديدة. وهذه الأخيرة تحتفظ بمواصفات السكن العشوائي نفسها ريثما تصل الخدمات إليها، ولا تطلق عليها السلطات تسمية "عشوائيات". وقرارات الإزالة بالنسبة للسلطات لا تحتاج إلى تبرير لأن المنطقة في الأصل غير مسموح السكن فيها، وأحياناً يتم التخطيط في المنطقة ذاتها وفقاً لتقديرات السلطات، مثلما حدث مع حي "جبرونا" الذي تم تخطيط جزء منه، وانتصبت فيه أعمدة الكهرباء توطئة لتوصيلها.
تضارب الأرقام الرسمية
صدرت دراسة رسمية عام 2017، كشفت عن تراجع نسبة الفقر في السودان إلى 28 في المئة. وشكك كثير من المختصين بهذه الإحصائية، لأن التقديرات الرسمية حول الفقر عام 2009 بلغت نسبتها 64 في المئة. ولا تكتسب الأرقام الرسمية في السودان الثقة، خاصة في قضايا مثل الفقر والجريمة. وخلال العشرين عاماً الماضية، تدهورت الخدمات الصحية والتعليمية في مدن السودان المختلفة، علاوة على اتساع ظاهرة البطالة وانعدام فرص العمل والإنتاج في الولايات، الأمر الذي ضاعف من نزوح الأرياف والمدن نحو العاصمة التي تكتظ أطرافها بالسكان. ويعود ذلك إلى سياسات الدولة التي ركزت الخدمات في الخرطوم العاصمة مما دفع سكان الأقاليم أو الولايات إلى النزوح إليها. وتعرضت أقاليم السودان خلال حكومة البشير (1989-2019) إلى عمليات إفقار مستمرة بضخ مواردها إلى الخزينة المركزية دون مراعاة للتقسيم العادل للموارد، والمشهد في هذه العشوائيات يعكس المعادلة المختلة التي تعاني منها الغالبية الساحقة من سكان السودان. فإشكالات قسمة السلطة والثروة التي سادت في السياسة السودانية خلال العقود الأخيرة، هي السبب المباشر لتفشي الصراع المسلح في بعض أقاليم السودان، الأمر الذي خلق موجات نزوح خلال السنوات التي أعقبت تفجر تلك الصراعات.
تعاني الخرطوم دون سائر مدن السودان من تزايد ظاهرة النزوح إليها. من الصعوبة الوصول إلى إحصائيات نهائية حول عدد سكان العشوائيات، ليس فقط لغياب الأرقام الرسمية، لكن لاستمرار عمليات النزوح إلى هذه الأحياء واتساعها يوماً بعد يوم.
تغيب بشكل كامل استراتيجيات التخطيط العمراني. وعلى مر السنوات التي شهدت النزوح نحو العاصمة، فشلت الخطط الحكومية المتعلقة بالتخطيط، بينما تعاني العاصمة الخرطوم من اكتظاظ سكاني لا يتناسب والبنى التحتية المتهالكة، وعلى رأسها أنظمة الصرف الصحي.
علي سبيل المثال، تشير دراسة إلى أن عدد النازحين في مدينة الجنينة بإقليم دارفور المتقلب في الحرب منذ 2003 تمثل 50 في المئة من سكان المدينة. هؤلاء النازحون فروا من الحروب في القرى القريبة من مدينة الجنينة. وتشير بعض البحوث المتخصصة إلى أن 50 في المئة من حراك المدن إلى المدن كان صوب الخرطوم.
هل السودان بلد فقير حقاً؟
04-01-2019
أوجد انتشار الفقر مع ظروف الحرب في عدد من أقاليم السودان فئة كبيرة من السكان النازحين إلى مدن أخرى، واجهتهم السلطات باستمرار بقرارات الإزالة أو الإجبار على الترحيل إلى مناطق مختلفة. يتم الترحيل أحياناً إلى مناطق مخططة بعد حصر السكان، وأحيانا تكون قرارات الإزالة بلا بدائل فيلجأ السكان إلى مناطق عشوائية أخرى في أطراف العاصمة، وهو ما خلّف مواجهات مستمرة قادت إلى عداء كبير بين سكان هذه المناطق والسلطات. وتغيب بشكل كامل استراتيجيات التخطيط العمراني، وعلى مر السنوات التي شهدت النزوح نحو العاصمة فشلت الخطط الحكومية المتعلقة بالتخطيط، بينما تعاني العاصمة الخرطوم من اكتظاظ سكاني لا يتناسب والبنى التحتية المتهالكة وعلى رأسها أنظمة الصرف الصحي.
أزمة قديمة.. أمل جديد
حي "جبرونا" واحد من أحياء عديدة تأسست مطلع التسعينات الفائتة. خارج الخرطوم هناك مدن مثل مدينة ود مدني، سنار تحوي عشوائيات. ولا فروقات كبيرة بين عشوائيات الخرطوم أو المدن الأخرى، لأن الظروف التي أدت إلى نشوء العشوائيات في السودان متشابهة. غير أن حي "جبرونا" يضم إثنية محددة نزحت من جنوب كردفان وجبال النوبة منذ الثمانينات بسبب الحروب المستمرة التي لم تفلح الحكومات المتعاقبة على طي صفحتها حتى الآن.
أما سكان حي "الفاطمية"غربي أم درمان، الذي نشأ أيضاً في مطلع التسعينات الفائتة، فهم يمثلون سودان مُصغر. فالقاطنون هنا من الغرب والشمال والوسط، ويُقدر عدد قاطنيه بأكثر من 5 آلاف ساكن. والعامل المشترك هنا هو الفقر، والبحث المستمر عن الخدمات التي تنعدم في مدن السودان المختلفة، باستثناء الكبيرة منها. بل وخلال السنوات الأخيرة شهدت حتى المدن الكبيرة موجات نزوح إلى العاصمة بحثاً عن خدمات أفضل. وكما هو الحال في "جبرونا" تمثل صناعة الخمور البلدية في "الفاطمية" عملاً رئيسياً. فبعد مغيب الشمس تبدأ حركة دؤوبة وحياة لا تتوقف، يتوافد الزبائن وتجار وتاجرات الخمور للتزود بما يكفي حاجتهم، لبيعها في مناطق أخرى.
لم ترتبط العشوائيات في المخيلة الشعبية السودانية بالفقر فحسب، وإن كان الفقر هو العامل الرئيسي في نشوئها. ولأنها اتسمت بنمط محدد من السلوك وأسلوب حياة مختلف عن المدينة، فقد خلق مصطلح "عشوائي" نظرة دونية في المجتمع تجاه هذه الفئة. غير أن الحياة في هذه "العشوائيات" هي معركة بقاء مستمرة، تعكس مستلزمات التكيف مع مقومات حياة تكاد تكون شروطها منعدمة. وما يجمع أبناء العشوائيات هو الشعور بالظلم، وإن كان الأمل لاح بعد الثورة التي أزاحت نظام البشير الذي حكم لـ "30" عاماً. وهاهم ينتظرون..
محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.