على الرغم من أننا نخاف الفرح بقدر ما نخاف عليه، فان في الايام التي نعيش في مختلف ديارنا العربية ما يبشر بأننا امام بداية النهاية لعصر الخيبات والهزائم والنكبات القومية. لكأنما عصر الردة يشهد بدايات نهاياته، وتنتقل البشائر من الجزائر إلى السودان، مروراً بتونس، معلنة بالصوت الحي لملايين المواطنين الذين ضحى أجدادهم وآباءهم بالغالي والنفيس، واستشهدوا بالمئات والآلاف من اجل الحرية والوحدة والاستقلال واستعادة كرامتهم المهدورة في وطنهم المصادر بدولته وموارده.
في تونس، حيث انطلقت الثورة الخضراء، حين احرق المواطن المظلوم محمد البوعزيزي نفسه احتجاجاً على حرمانه حق الحياة الكريمة، قبل حوالي عشر سنوات، انتقلت الشعلة بعدما انجزت الثورة مهمتها بخلع الطغيان الفاجر، ممثلاً ببن علي، إلى القاهرة حيث اشعلت ثورة الملايين في ميدان التحرير - قلب مصر - كما في سائر الميادين.. وكانت النتيجة أن اضطر الرئيس حسني مبارك إلى تقديم استقالته والخروج من دست الحكم، ليتولى مجلس القضاء الأعلى شؤون البلاد لمرحلة انتقالية تجري خلالها انتخابات رئاسية..
ولقد دار الزمن بمصر ديمقراطية كاملة انتخب خلالها قيادي في حركة الاخوان المسلمين رئيساً للجمهورية عبر منافسة محتدمة شارك فيها مرشح ناصري (حمدين صباحي) والأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى..
غير أنه كان للعسكر، الذين لم يرغبوا قط بمغادرة موقعهم الممتاز على رأس السلطة، رأي آخر. وهكذا قاموا باعتقال الرئيس الشرعي المنتخب ديمقراطيا، محمد مرسي، عبر "انتفاضة" شعبوية مدبرة، وحكم عسكري مؤقت انهي بتسلم عبد الفتاح السيسي رئاسة مصر، وقد مرت ولايتها الأولى "بسلام"..
اليوم ينجز التونسيون تجربتهم الديمقراطية عبر انتخاب رئيس جديد لبلادهم خلفا للراحل محمد الباجي قائد السبسي. وقد تقدم الى هذه الانتخابات عشرات المرشحين، ودارت رحاها بامتداد البلاد، العاصمة والمحافظات... وتميزت بانضباط ملفت لسبعة ملايين ناخب تونسي، من دون ان يحدث ما يعكر صفو الروح الديمقراطية التي قادت جموع الناخبين الى صناديق الاقتراع.
ومن قبل قدم شعب الجزائر نموذجاً رائعاً للإصرار على حقه في اختيار نظامه السياسي، وبالتالي رئيسه، بديلاً من عبد العزيز بوتفليقة الذي استهلكته السلطة حتى اصابه الشلل النصفي، ومع ذلك ظل يرفض مغادرة موقعه الوثير فوق كرسي متحرك، مع عجز عن النطق الواضح.
ان شعب المليون شهيد في حرب تحرير الجزائر "يقيم" في شوارع العاصمة وسائر المدن الجزائرية منذ سبعة اشهر او يزيد، مطالبا باستعادة حقه في استنقاذ نظامه الديمقراطي، وبالتالي في اختيار رئيسه بإرادته الحرة، من دون ضغوط واكراه.. ولقد حاول الجيش الذي يحكم ضباطه الكبار هذه البلاد التي قدمت مليون شهيد وأكثر ثمنا لحريتها، تمييع الحراك الشعبي ومخادعته.. لكن الجماهير رفضت ان تغادر الشارع، كما تجنبت الاصطدام بالجيش بعد الشرطة..
أخيراً وبعد طول مماطلة ومحاولة لمخادعة الجماهير المتمسكة بحقها في حماية ثورة المليون شهيد، رضخت قيادة الجيش وسلمت بضرورة اجراء انتخابات نيابية، ومن ثم رئاسية، بعد ثلاثة شهور..
وخلال هذه المدة الطويلة جداً شاهدنا العديد من المناورات والضغوط لتمزيق وحدة الشارع، او لبث الفتنة في صفوف الجماهير، تارة بمحاولة إثارة الامازيغية، وطوراً عبر الايحاء بوجود تأثيرات اجنبية (فرنسية) على حراك الشارع... لكن ذلك لم ينفع، وما زال الشعب على مطالبه في التغيير واحياء الثورة العظيمة التي حققت واحداً من الانجازات التاريخية الباهرة بتحرير البلاد من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي امتد لما يقرب من مئة وخمسين عاماً..
وها هي الثورة الشعبية الرائعة في السودان تحقق انجازاً تاريخياً، بعد خلع الدكتاتور حسن البشير الذي حكم – بمزاجه - هذه البلاد العربية الغنية بالثروات التي تختزنها ارضها ذات النيلين الابيض والازرق.. ولقد ساعد "تعقل" كبار الضباط الذين "استجابوا" لثورة الشعب، الذي رابط برجاله ونسائه وشبابه وفتيته، في شوارع الخرطوم والخرطوم بحري وام درمان، لشهور طويلة، حتى حمى ثورته الشعبية، وتم التوصل الى تسوية مقبولة بين الحركة الشعبية والجيش تقضي بقيام حكومة مركزية من القيادات الحزبية والنقابية التي ساهمت في خلع البشير، اضافة الى ابرز القيادات العسكرية.. وفاوضت قيادة الجماهير لمدة طويلة، حتى تم التوصل الى الصيغة التي تُرضي طموح السودانيين الى التغيير.. مع تجنب الافخاخ المذهبة التي نصبتها بعض الدول النفطية (السعودية والامارات) عبر التعهد بتقديم مساعدات مغرية للعهد الجديد.
الأمة بخير..
الأمة تجهر برفض الواقع المهين الذي رمتها فيه انظمة القمع والفساد وامتهان كرامة الانسان.. ولقد آن ان تستيقظ هذه الامة، وان يأتي الفجر الجديد، هذه المرة، من افريقيا العربية ليرد التحية الى المشرق العربي الذي قاد شعبه الثورة في الخمسينات والستينات فأنجز كثيراً. لكن السلطة سرعان ما استهلكت ثورته حتى قضت قياداتها التاريخية كمداً، والتهمت الهزيمة أمام العدو الاسرائيلي معظم انجازات ذلك "الزمن الجميل".
وكانت القاهرة هي العاصمة، ومعها دمشق، ثم بغداد، قبل ان تأكل الغفلة الثورة، فضلاً عن التآمر الخارجي والعجز عن مقاومة العدو الاسرائيلي الذي حقق انتصارات لا يستحقها بينما منيت الامة بهزيمة ساحقة ما تزال تعاني من آثاراها المفجعة حتى اليوم، مهددة غدها.