تردّدت مؤخرا أخبار عن عمليات عسكرية واسعة النطاق تجري في غرب ليبيا، قيل أن قوات جزائرية تتولاها. وهذه هي المرة الأولى، منذ إرساله قوة مسلحة إلى مصر بين 1967 و1975، التي يخالف فيها الجيشُ الجزائري مخالفة صريحة مبدأ مقدسا من مبادئ سياسة الجزائر الخارجية وهو مبدأ عدم نشر وحداته خارج التراب الوطني. من الواضح أن القادةَ الجزائريين مجبرون على مراجعة عميقة لتصوراتهم في ما يخص مسألتي الدفاع والعلاقات الإقليمية منذ الهجوم على موقع تغنتورين الغازي في كانون الثاني/ يناير 2013 وإدارتهم الكارثية لهذه الأزمة التي كانت عاقبتُها موتَ كلّ الرهائن مع مختطفيهم «الجهاديين».
حرب سرّية
لقد تأتّى عن تدمير نظام القذافي في آب/ أغسطس 2011 مجموعةٌ من الهزات الارتدادية في المنطقة. فهو سرّع اجتياح الموجة الجهادية - الانفصالية الشمال المالي وتفكّك الدولة الليبية. وقد استُعمل تقدّم مجموعات «الكوماندوس» الإسلامية، أي مقاتلي «أنصار الدين» و«حركة الوحدة والجهاد في غرب أفريقيا» نحو عاصمة مالي، باماكو، كذريعةً بُرِّر بها التدخل الفرنسي في هذا البلد في كانون الثاني/ يناير 2013. لكن مجرى الأحداث فيه يدل على أن الوجودَ العسكري لفرنسا وللمؤتمرين بأمرها في مجال نفوذها إفريقيّاً ليس كافيا البتة لإعادة السلام والأمن إلى ربوع منطقة شاسعة لا إدارة فيها ولا دولة، يعيش سكانُها حياةً هي أشبه بالموت، في بؤس عصيٍّ عن الوصف. ومن البيِّن أن المراقبةَ الجوية التي تقوم بها الطائرات من دون طيار وغيرها من الطائرات المختصة، رغم ما تثبته من فعالية من حين إلى آخر، عاجزة عن منع نشاط المجموعات المسلحة التي تجوب المنطقة، الإرهابية منها والإجرامية المحضة. وتعوّل هذه المجموعات على دعم قسم لا يستهان به من الميليشيات التي أطاحت بالقذافي والتي تتحكم في مقاليد الأمور في ليبيا، وبخاصة منها تلك الناشطة في جنوب هذا البلد، سواء أكانت متصارعة أو متكاتفة مع بعضها البعض.
الغليان في منطقة الساحل
تمتد الحدود الليبية الجزائرية ـ المغلقة منذ منتصف شهر أيار/مايو 2014 ـ على أكثر من آلف كيلومتر. لقد أدت خلخلة الاستقرار في ليبيا إلى تفاقم مستمر للوضع، آثارَه ليست مطلقا في طور الانحسار شيئا فشيئا كما كانت تزعم نبوءآت أبواق الناتو الإعلامية. فالبلد اليوم يواجه واقع انقسامه بين ميليشيات قبلية وتنظيمات جهوية وجماعات إسلامية متعددة المشارب وأخرى تحن إلى عهد القذافي، وكلُّها تناصب بعضَها البعض العداء أو تتحالف مع بعضها البعض وفق ما يمليه عليها الظرف السياسي الداخلي وما لها من مصالح آنية فيه. وقد أصبحت ليبيا بالفعل قاعدة من قواعد الإرهابيين الخلفية وسوق أسلحة للمنطقة كلِّها، بل ولما جاورها أيضا، هذا عدا كونِها معبرا لقوافل المهاجرين السريين القادمة من جنوب الصحراء والمتجهة إلى أوروبا.
من دون دولة ومن دون جيش، تحولت ليبيا إلى ميدان حرب سرية تدور رحاها بصورة متقطعة بين الناتو والجهاديين، الذين تمولهم دول الخليج، كما أن مجمل ترابها فعليا، ومنذ 2011، تحت الرقابة الجوية التي تمارسها عليه القوات العسكرية الأميركية انطلاقا من صقلية باستعمال الطائرات من دون طيار، ويتمّم الفرنسيون تدابيرَها انطلاقا من شمال مالي. ولا تتلخص هذه الرقابة في مجرد عمليات رصد وتحليل لنشاط المجموعات المسلحة، إذ تخللتها عدة ضربات جوية استهدفت بها طائرات أميركية وفرنسية محاور عبور سرية. لكن لا هذه الضربات ولا العمليات «الخاصة» التي تنفذها برا القوات الأميركية على مجمل التراب الليبي (انظر مثلا الإعلان الرسمي لواشنطن في منتصف الشهر الجاري عن «توقيف» أحمد أبو ختالة، المطلوب الليبي الاول بالهجوم على السفارة الاميركية في 11 ايلول/سبتمبر 2012 وقتل السفير، و«نقله الى الولايات المتحدة لمحاكمته»، وتهنئة الادارة لفريق القوات الخاصة الاميركية الذي تولى المهمة، ورفضها تحديد ما إذا كانت العملية تمت بعلم السلطات الليبية...)، كفيلةٌ بخلخلة ما يمكن اعتباره سوقا إقليمية تنشط فيها عدة أطراف، من مهربين وتجارٍ «شرعيين» (لا فرق بين أولئك وهؤلاء في كثير من الأحيان) لم يكترثوا يوما للحدود التي رسمها الاستعمار. ويجب هنا التنويه بتركز جزء كبير من الشبكات التجارية وسلاسل التهريب بين ليبيا من ناحية وتونس والجزائر من ناحية أخرى، في مناطق بالشرق الليبي هي سيناون، وفي غربه الحمادة الحمراء وتيناريت.
الحرب «السرّية» للناتو والجزائر
تفيد معلومات كثيرة بقيام الجيش الجزائري، بدءا من 29 أيار/ مايو الماضي، وبالتنسيق مع القوات الفرنسية والأميركية والتشادية والنيجرية، بعملية عسكرية كبيرة في جنوب غرب ليبيا يشارك فيها آلاف الجنود مدعومين بالمدرعات ووسائل جوية معتبرة. ويلاحظ أن هذا الهجوم بدأ بعد أيام معدودة من زيارة قام بها إلى العاصمة الجزائرية، في 21 أيار/مايو الماضي، وزير الدفاع الفرنسي، وقبل زيارة أخرى لوزير الخارجية الفرنسي (8 و9 حزيران/ يونيو 2014)، وهما زيارتان تعكسان مستوى التعاون بين الهيئات السياسية والأجهزة الأمنية في البلدين.
لقد اجتاز التنسيق العسكري الجزائري-الفرنسي عتبة نوعية جديدة بتدخل الجيش الجزائري المباشر في التراب الليبي، وما رافقه من تعاون وثيق مع الجيش الفرنسي والناتو، ما يطرح السؤال عن طبيعة الاتفاقات التي بُني عليها.
«الحرب الدائمة» مستقبل الساحل؟
يتعدى الأمر بالنسبة للجزائر مجرد «تحديث» لسياستها الخارجية، فهي تخوض غمار صراع إقليمي أثارته الأمبرياليات الأوروبية التابعة بمساندة أميركية. وتحدو هذه الامبرياليات خشية فقدان تأثيرها على ما كان سالفا بمثابة فناء خلفي لها، تسيّره أنظمة طيعة. فدخول الصين المشهد الإفريقي كمنافس يحسب له ألف حساب يهدد الهيمنة النيوكولونيالية التي تُعد القوة المسلحة والشبكات السياسية المرتبطة بشبكات الأعمال آخر أوراقها الرابحة. ولا داعي للتذكير بما يكتسيه من أهمية في نظر القوى الغربية استمرار سيطرتها على مناطقَ غنية بمواد خام يتزايد الطمع فيها بازدياد ندرتِها. بوادر تضعضع هذه السيطرة هي التي دفعت الجيشَ الأميركي إلى إنشاء قيادة عسكرية خاصة بإفريقيا، الأفريكوم. وتلعب الجماعات الإسلامية في هذا الإطار بمنتهى البراعة دور الفزاعة الموكَل إليها، من تدمير المزارات الدينية في تومبوكتو إلى اختطاف الفتيات في نيجيريا، مرورا بالغارة المسلحة على موقع تيغنتورين الغازي في الجزائر.
ويتوافق توزيع الأدوار في هذا المشهد مع ما يمليه ميزان القوى القائم بين مختلف الأطراف. وللنظام الجزائري مصالحه الخاصة وحساباته، ولكنه ليس في وضع يمكّنه من الاعتراض على التوجهات الغربية، ما يفسر كونه ينخرط في خدمة مصالح إستراتيجية تتجاوزه. ومن الواضح أن صعود نجم الحركات الجهادية في الساحل وإفريقيا الغربية ليس صيحةً من صيحات الموضة السياسية، فالتيار الجهادي الإفريقي، الذي يموله بشكل كبير أمراء النفط، يعبّر عن إفلاس الدول التي أقيمت بعد الاستعمار وبيروقراطياتها الفاسدة المدعومة أيما دعم من قِبل القوى الغربية. ويكشف وضع طوارق شمال مالي المحزن الفقر المدقع الذي يعانيه سكان المنطقة على اختلاف انتماءاتهم (العرقية والدينية)، ولا غرابة أن تزهر كلّ أشكال التعصب في مثل هذه التربة، حيث البؤس واليأس قدرا يومياً لملايين البشر، وأن تكونَ الحرب الأبدية على الإرهاب أفق الساحل الإفريقي الواضح الوحيد.
هل من سبب وجيه يحتم على الجيش الجزائري أن يتجنَّد تحت لواء الامبرياليات التابعة الفرنسية والبريطانية ؟ ومن عليه تحمّل تبعات جنوح السفينة الليبية؟ أولئك الذي قصفوا بلدا أعزلاً بآلاف القنابل ومئات الصواريخ بعيدة المدى، متعلّلين بتأويل تعسفي لتفويض الأمم المتحدة. الطرف الذي يجب أن يتحمل المسؤولية المباشرة الكاملة عن الأزمة الليبية هي الدول التي تستنسخ «سياسة المدفع» البائدة وقادتُها المستنيرون ممن يفضلون تبديد مئات الملايين من الدولارات في أعمال عسكرية استعراضية، على استثمارها في التنمية وتحسين ظروف المعيشة في منطقة بالغة الفقر ـ وهم إذ يتصرفون بهذا الشكل فلإدراكهم أن سوء التسيير والبؤس عوامل اضطراب دائم يضمن لهم فيها استمرار وجودهم العسكري.
أما النظام الجزائري، الفاقد المصداقية داخليا، الباحث دوما عن سند غربي، فعليه تحمل مسؤولية اختياراته: أن يُعْلم بها شعبه على الأقل ما دام لا يرى داعيا لطلب موافقته عليها. لا يجهل أحد أنه لا يوجد حل عسكري ممكن للأزمة الليبية، ولذا يتوجب عاجلا تحديد هوية الفرقاء الليبيين ذوي المصداقية والمشاركة الفعالة في إعادة الاستقرار السياسي إلى ليبيا، لأن بقاء الوضع فيها على ما هو عليه يهدّد المنطقة كلها بدوامة من العنف المتصاعد لا تحمد عقباها. وبطبيعة الحال، ينبغي أن يفضي تحديد هوية هؤلاء الفرقاء وجرد المسائلِ المختلَف عليها بينهم إلى أجندة سياسية مدنية يقبلُها أكبر عدد ممكن منهم. وبالنظر إلى حسن معرفتهما بالوضع السائد لدى جارهما الليبي، فبمقدور الجزائر وتونس أن تسهما معا في إطلاق تلك الآلية بين مختلف الأطراف الليبية. ليست الأولوية إذا اليوم للمغامرات الحربية غيرِ مضمونة النتائج، وإنما هي لمساعدة الساعين إلى حل سياسي سلمي وديموقراطي في هذا البلد الواقع في براثن خطاب الحرب ومزايداتها.
(ترجمه من الفرنسية ياسين تملالي)