مثلت ندى القلعة، المغنية السودانية المشهورة، ثقافة مضادة لثقافة الهيمنة الرسمية. الجهود المبذولة من قبل الدولة والأجهزة الرسمية لفرض ثقافة ذات طابع ديني، والأموال المخصصة لهذه الغاية، والقمع، لم تستطع جميعها إلغاء ظاهرة ندى القلعة وغيرها من الظواهر الثقافية والفنية التي تحرج «المشروع الحضاري». فهي تتحداه وتحاربه وتضعفه دون اللجوء الى الأيديولوجيات الكبيرة ومؤامرات السياسة، أو الكفاح المسلح. تستخدم دبابيس صغيرة في تنفيس البالون الضخم. وتقدم ندى القلعة (بوعي أو لاوعي) ثقافة مقاومة وممانعة لا تريد أن تكون جزءا من الثقافة الكبرى، وهى ثقافة فرعية ولكنها شديدة التأثير وقادرة على جذب الناس. فهي تحشد آلاف المشاهدين والمعجبين والفضوليين، بينما تعجز الثقافة الرسمية عن حشد الناس في مهرجاناتها، رغم توقيفها العمل وملاحقة الموظفين والموظفات، وتحضير الباصات وتقديم وجبة فطور. التحدي: من يستطيع تحريك الناس طوعيا في ميدان عام أو إستاد، مستخدما سلطة قائمة على الرضا والقبول والمحبة؟
تقدم الفنانة ثقافة جماهيرية مختلفة، يميل البعض لاعتبارها هابطة أو منحلة أو غير «محترمة». وقد أصبحت ندى القلعة إيقونة ورمزاً، بل مرجعية في بعض تفاصيل مرتبطة بالشكل والموضة والسلوك. فهي ليست مجرد مغنية وصوت بل «سلعة ثقافية»، أي انه يمكن تداولها وإعادة إنتاج بعض عناصرها. وتدرك ندى كيف تمارس سلطتها في الاختلاف من خلال اللبس والزينة. وهي هنا تحارب السلطة الرسمية بأسلحة السحر والغموض والمغامرة. فالنظم تعتمد على إلغاء الفوارق والاختلاف والتنوع. وهي تخشى المرأة بالذات بسبب تاريخها الملعون والمشترك مع إبليس منذ بداية الخليقة! لذلك، اهتم النظام الحالي في السودان بملبس النساء والفتيات، ومارس من خلاله عملية التنميط، وألبس طالبات المدارس ملابس الصاعقة العسكرية وفرض الحجاب. ولكن ثقافة ندى الفرعية تقدم ملبسا حديثا يثير الإعجاب بين النساء قبل الرجال، وينتشر سريعاً. كذلك الزينة. فقد قدمت أشكالا جديدة لنقش الحناء. وهذا إبداع بعيد المدى. يحكي لي صديق أن موضة «رسمة العنكبوت» أو ما وضعته ندى على يديها في إحدى مقابلاتها التلفزيونية، رآها تملأ أيدي النساء في حفل زواج بعد أيام على تلك المقابلة المتلفزة. ويمثل شعْر المرأة إحدى مشكلات وعقد العقل العربي الإسلامي، وقد ثارت حوله معارك وواقعات عظمى. وندى قدمت شكلا للشعر بين الإخفاء والإظهار، بان تجعله مقصوصا بطريقة غُلامية، مضحية ببعضه بخلاف الشعر بالغ الطول، وأخرجته في النهاية عن التنميط.
الترميق: ثقافة المجتمع
يقال إن الثقافة هي سياسة المجتمع والسياسة هي ثقافة الدولة. وعندما يبرز التناقض بين الاثنين تظهر الأزمة. وقد أمسكت ثقافة ظاهرة ندى وغيرها من الظواهر المشابهة في المجتمع، وتركت السياسة للدولة بلا مجتمع. فالدولة تمارس السلطة بصورة مجردة، وهي غير ملموسة بين المواطنين في سلوكهم واتجاهاتهم ورؤيتهم الشاملة. من جهة أخرى، تمارس الثقافة سلطتها من خلال حرمان الدولة من آليات لا تستطيع السيطرة عليها واحتكارها، ومن بينها اللغة والرمز. فالدولة يمكن أن تحتكر المال والاقتصاد والعنف الشرعي من قوانين وسجون وممنوعات، ولكن يستحيل أن تحتكر اللغة والرموز مهما بلغت قوة ووحدانية أجهزة إعلامها. والآن توجد لغات عديدة للتواصل تنتشر بين فئات اجتماعية، من طلاب وشباب ومجموعات اثنية ومهمشين. ولأصحاب الثقافات الفرعية آليات تحوير للثقافة الرسمية وتفريقها من مضامينها، وهذا ما يسميه الأنثروبولوجي ليفي شتراوس الترميق (bricolage)، لوصف نمط إبداع الثقافة الشعبية في تفاعلها مع الثقافة الرسمية وتحويرها. والخطورة هنا تكمن في أن عناصر أو مفردات من تلك الثقافات، التي تتعالى عليها الثقافة المهيمنة، تصبح جزءاً من هذه الثقافة نفسها. وهنا يمكن إعطاء مثال إدخال الآلات الموسيقية الحديثة في المديح. وهكذا عَلْمنت، (أي جعلتها علمانية) الثقافة الشعبية التي تحب الموسيقى ولا تراها حراما أو مكروها، الثقافة الدينية الرسمية. وهذه الأخيرة لم تحتج على الموسيقى في المديح النبوي لأنها تريد له الانتشار بين الشباب والفئات المهمشة. ولن نستغرب إذا جاءت محاولات لتأليف المدائح الدينية بلغة «الراندوك» أو «عربي جوبا» التي تشيع بين الشباب في السودان، وهي ولدت من «الروشنة» أو «الشات»، وتحمل مفردات مثل كلمة «نفِّض» أي أترك الأمر المعني، أو كلمة «أساسي» التي تعني أكيد، وجمل مثل «البت دي شديدة شدة الحرامي» بمعنى أنها تتمتع باللباقة والكياسة والذكاء، و«طيارة» لوصف الجمال، و«دمار» التي تعبر عن درجة كبيرة من الجمال...
الفرح والتسلية ليسا نقيض الجدية
تدخل ظاهرة ندى القلعة ضمن ما يعرف في دراسات علم الثقافة والاجتماع بالثقافة الجماهيرية، وقد تصنف أحيانا ضمن الثقافة الاستهلاكية. ويمكن لنا في العالم الثالث النامي أن نفرق بين ثقافة التنمية وثقافة التسلية. وقد يكون الفصل صعبا إن لم تكن التسلية استهلاكية ومعطلة للتنمية. وأخشى أن يكون الانطباع هو أن التنمية ترتبط بالكآبة والحزن. وكان هذا خطأ بعض التجارب الاشتراكية التي ضحّت بالفرح والأجيال من اجل مستقبل لم يأت. وقد حاول كاسترو في كوبا تجنب ربط الاشتراكية بالكآبة والحزن، فقيل إنها «اشتراكية مع السامبا»، وكان الكوبيون الذين يقفون لساعات طويلة في طوابير المخازن يرقصون ويغنون لكسر ضجر الانتظار. ومن الخطأ ربط الفرح والتسلية بعدم الجدية باستمرار. وفي حالة ندى القلعة، فهي تقاوم الكآبة بالغناء، وهي و«ثورة الإنقاذ» وحكومته يمثلان نموذجين متناقضين. تحاول هي أن تبث الفرح والحياة والحب بينما وبالمقابل، يقدم «الإنقاذ» ثقافة الموت والحقد والكراهية. تطلق ندى أجواء من الموسيقى الراقصة وتدخل روح الفرح حتى في أغاني الفخر والمدح. وهذا إبداع ايرويسي يجعل أعتى الرجال يتمايلون... في ساحة ندى القلعة. فهي تخاطب رجولة و«ذكورة» تقاعدت خلال السنوات العشرين الماضية ولا تجد تعبيرا عنها إلا في أغاني وليالي المغنية. وهي تضرب على استيهام الرجولة بعد أن قبل الكثيرون الذل والإذلال. وتمثل تعويضا نفسيا. والمجتمع السوداني يعيش للمفارقة ثقافة التفكك الأسري في دولة «المشروع الحضاري»، وذلك من خلال التناقض بين التدين والترف من مال ونساء. فقد حاول بعض الاسلامويين جعل تعدد الزوجات ظاهرة. وفي عهد ذلك المشروع الحضاري ظهرت وانتشرت أغنية «راجل المرا حلو حلا»، وطرق أذني غناء يقول:
تلك العجلة بره
ما قصدي المضرة
بس عايزة يطلق الضرة
ثم:
بقابلو في الصالووانا
بشربو الليمون
انا بصافحو بالقانون
حاول الاسلامويون اغتيال شخصية ندى القلعة من خلال وسائل إعلامية شهّرت بها، بينما تلك الوسائل هي نفسها توزع الانحلال والتدهور الأخلاقي ونشر الفضائح. وهي بذلك سعت إلى استغلال كوننا ما زلنا نعتبر العيب والعار مرتبطين بسلوك المرأة الجنسي (وقد اعتذر مظفر النواب لتلك التي تبيع الجسد الغاني بينما هناك من يبيعون ضمائرهم ومواقفهم). ومن قام بالحملة جاهل لقواعد ثقافة الاختلاف والتمرد التي تمثلها ندى، وهو قام بدعاية لها وساعد على انتشار الظاهرة من حيث لا يدري. وهي من جانبها تؤكد لامبالاتها واختلافها، بأغنية تقول بكل رواء صوتها وأدائها الرشيق:
ما علينا ما علينا
مهما يقول الناس يقولو
ما علينا ما علينا
وفي النهاية، تغلبت ثقافة الاختلاف، وهي تسعى لتأصيل نفسها من دون حاجة لدعم حكومي أو دعاية. وهكذا فندى القلعة تنتشر وتمارس سلطتها الثقافية بكل قوة واندفاع.