لقاء نادية بسلمى

مجتمع الجوع، وشراكة الانحلال
2019-08-29

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
منى نحلة - لبنان

تحكي الجدة لنادية حكاية الدجاجة والبيضة، لتعلّمها ألا تستخف بمتاعب ومصاعب الآخرين. تقول الجدة: ذات مرة ابتهلت أمٌ للخالق أن يجعل ولادة ابنتها سهلة، قالت: اللهم سهّل على ابنتي وضْعها كما جعلته سهلاً على الدجاجة. لكن تلك الأم لم تكن تعرف كم تعاني الدجاجة لحظة وضع البيض. فالدجاجة بسبب الألم تغيب عن الوعي لسبع مرات متتالية خلال وضع البيضة. لذا وبسبب دعوة الأم، تتالت على الفتاة المسكينة إغماءات الألم، وفي السابعة فارقت الحياة.

تضحك نادية غير مصدِّقة حكاية الجدة، لكنها تفكر فيها على أيّ حال، وتقرر نقلها لوداد لحظة لُقياها.

في الشتاء انضمت نادية لحملة على الفيسبوك تُعنى بجمع الأغطية والملابس ليتم توزيعها على الفقراء. كانت قد عرفت لعبة الخروج، ولم تكن بحاجة لأن تخبر أحداً إلى أين تذهب. فكرت بأنها قد تصادف شخصاً مدهشاً خلال هذا. كان العديد من الشبان قد استثمروا في حملات كتلك. فعلٌ خيري، لكنه يسهم في العمل لدى منظمات المجتمع المدني. انتشرت حكايات عن أناس تلقوا الدعم بالملايين من منظمات خارجية، ابتدؤوها بأعمال خيرية، وانتهوا بحسابات بنكية وفواتير مزورة. لم تكن نادية تعرف هذا بعد، كانت الخطة أن تجد شيئاً جديداً، أو أن تلتقي بأحدٍ جديد. مغامرات ما بعد الظهيرة لم تعد ترضيها، وتعلق وداد المرضي بها أصبح لا يُحتمل. كانت ترضخ لطلبات وداد بإعطائها تقاريراً آنية عن كل ما تفعله. غيرةٌ بلهاء من كل ما عداها. وبما أن نادية تعلمت الكذب بشكل محترف، عرفت كيف تتملص من وداد وتعلّقها الفج، صنعت مساحة - تراها وداد هائلة - بين عالميهما، وبشبكة من الأكاذيب المؤرخة في تسجيلات الواتساب، لم تخطئ نادية أبداً، كانت تعرف إلى أين تذهب، تراجع ما مضى، وتمضي في الكذبة نفسها.

كان هناك من يتسلل متخفياً إلى البيوت ليوصل للناس اللقاحات الممنوعة بحجة "الغزو الخارجي"، والممرضة التي تتوسل للأم بأن تسمح لها بتلقيح طفلها، لن تخشى الاعتقال من الميليشيا المانعة للقاح، بقدر ما تخشى أن يكتشف أخوها في البيت أنها تتسلل منزل عارضة اللقاح.

لم تعد نادية تنتمي للبيت. لم تنفر منه، لكن عالمها ابتعد، ومضت في وهم نوستالجي ليس منه فكاك. الأحلام السابقة نفسها، لكن بتعديلات أكثر ملائمة لوضعها الذاتي. لم تفوت فرصة تستطيع استغلالها لتكون في الخارج بين أناس آخرين. لكنهم كانوا جميعاً على السواء: ينفثون الملل، والعادية، رتابة ونفاق، تَصنُع بأن يكونوا غير ما هم، لكنهم أعفن من أن يكونوا ما يدّعون. راعتها تفاهة الشبان، وأذهلها لحد ما الفجور الذي كانت تتعاطاه الشابات في مجالس قات وداد، وحين دلفت لحمام النساء في إحدى الكافيهات، وقرأت التحذير المكتوب بالعربية والإنجليزية بأنه "إذا ما كانت فتاتان معاً في الوقت نفسه في الحمام، فسيتم اقتحامه" ضحكت ملء المكان. كان ذلك شيئاً يستطيع إضحاكها في منتصف الليل، وفي مجتمع الحرب.

تشاهد نادية كيف أن الجميع منهَكون، متربِّصون، جاهزون للقتال، ينزلقون ببساطة وسلاسة نحو أيّة رذيلة ويسمُون عالياً مطالبين بالفضيلة. ومثلما كانت فئة تَحرق المجانين في الشارع، وتسحل جثث المحاربين الأعداء، كانت هناك فئات تتسلل متخفية إلى البيوت لتوصل للناس اللقاحات الممنوعة بحجة "الغزو الخارجي". وتلك الممرضة التي تتوسل للأم أن تسمح لها بتلقيح طفلها، لن تخشى الاعتقال من الميليشيا المانعة للقاح، بقدر ما تخشى أن يكتشف أخوها في البيت أنها تتسلل إلى البيوت عارضة اللقاح.

أما نادية فلم تصنَّف ضمن أي فريق، لم تقم بعمل حقيقي يُحسب لها كي تنتمي لفئة الصالحين، ولم تصبها لوثة مجتمع الحرب. تقف هناك باستقرار الطبقة الوسطى التي لم تفقد راتبها ولا منزلها، محايدةً لم تعرف الجوع، ولو أنها عرفت رعب الحرب. أبوها الذي احتفظ بوظيفته في القطاع الخاص، ابتهل بشكر وامتنان حين رأى كل زملائه يتساقطون. يتذكر ذلك الشاب الذي بكى بحرقة حين سُرِّح بعد أسبوع واحد من بدء الحرب، استدعاه الموظف الفرنسي قائلاً له بمهنية عالية: لا مجال للعمل، نحن راحلون. توسل إليهم أن يحتفظ بالهاتف الذي حصل عليه ليقوم بمهام المبيعات، ليكتشف بعد ذلك أن قيمته كانت قد اقتطعت من مستحقاته. حكى الأب تلك الحكاية عشرات المرات خلال سنوات الحرب، كانت نادية تفكر أنه لا بد أن يحلم به، ولا بد أن يوظفه لديه في كل مرة ينشئ فيها شركة خلال ساعة القات السليمانية.

كان العديد من الشبان قد استثمروا في حملات "إنسانية". فعلٌ خيري، لكنه يسهم في العمل لدى منظمات المجتمع المدني. انتشرت حكايات عن أناس تلقوا الدعم بالملايين من منظمات خارجية، ابتدؤوها بأعمال خيرية، وانتهوا بحسابات بنكية وفواتير مزورة.

أعلمت كل من في البيت بأن صديقة لها ستتبرع بالملابس القديمة لجيرانهم الجوعى. تحمست الأم، وبحمولتها ومبلغ سيارة الأجرة الذي تقاضته من الأم مسبقاً ليكتمل فعل الخير، شدّت نادية الرحال لتقابل المجموعة فاعلة الخير. كان هناك فتاة تظهر جزءاً من شعرها، وتُدخِل في كل جملة كلمة إنجليزية، و لديها رائحة بستان، وكان هناك فتى ضئيل الهيئة يرتدي بنطالاً أبيضَ يلتصق بعظمه، وفتاة ثالثة ترتدي النقاب، ويبدو أنها تجد نفسها مهمة للغاية، إذ كانت تتحدث بلغة الاقتراح غير القابل للنقاش، وعند كل حديث تضرب مثلاً حكاية عن نفسها. ثم انضم للمجموعة مراهق غرّ، لم يعرف كيف يقدم نفسه. لم تقل نادية الكثير، اكتفت بتقديم نفسها. وفي الطريق إلى المكان المعتزم تقديم الملابس فيه، غرقت نادية في خيبة الأمل: ليس هؤلاء من كانت تتوقع. كانت الفتاة ذات الأهمية تقود سيارتها باحترافية، جلست الفتاتان والمراهق في الخلف، وفي المنتصف، قررت نادية ألا تنشغل بالطريق، كان كابياً مريضاً، أناس يجوبون الشوارع كأنهم بدون وجهة، ويشبه فيلماً يصوِّر عالماً موبوءاً. انفصلت نادية عن الواقع، شاهدته كأنما لا تنتمي إليه. كل أولئك الرجال بملابسهم الرثة، يقفون وراء بسطات الخضار والملابس والأشياء غير المهمة كل أولئك النسوة اللواتي يسترحن على الأرصفة، ولا تستريح أيديهن المتوسلة للصدقة. ممن الصدقة؟ من أناس أيضاً نحيلي الأجساد، زائغي النظرات. لا يدهش هذا نادية على أيّ حال، كانت تعرف كل هذا، تعرف الأصوات والروائح والكلمات، تعرف نظرات النساء تحت البراقع، وإصرار الصبية المستفز، تعرف النظرة التي ترميها الشابات على سائقي السيارات، وتعرف قبل هذا كله، كيف يفكر الطرَفان: مجتمع الجوع، وشراكة الانحلال.

أوضحت الفتاة ذات الأهمية أن الخطة تقضي بزيارة سريعة لمخيمات المهمَّشين خارج المدينة، الملابس التي قسمت على أكثر من كيس بلاستيكي سيتم توزيعها على خيام مختلفة. ولأن هؤلاء الناس - كما وصفت - غالباً ما يكونون أسرة واحدة، فسيتقاسمون ما جُلب لهم. حاولت الفتاة بخصلة الشعر أن تضيف شيئاً ما، لكنها قوبلت بالتجاهل، أما الفتى ببنطاله العظمي، فقد استدرك بما اعتقده قولاً مضحكاً. لم تحمل نادية أية ضغينة تجاههم، ولم تقرر ما إذا كان ما قالوه يعجبها أم لا. ركزت في الجبال الحمراء التي تحيط بالطريق، في الرجل الذي يرتعد على مقربة من السيارة، بالصبية الذين يتقافزون حفاة. كان برد المدينة جافاً وقذراً، والفتية احمرّت خدودهم، وتشققت بسبب الصقيع. رمت لهم نادية في خيالها بصرة الملابس التي جلبتها، وبكل ملابسها وأحذيتها، وبطانيات أمها المخبأة في أعالي الخزانات، ثم أعدت لهم عشاءً ضخماً. وهناك على مقربة وقفت تدخن سيجارة اشتاقت لها، ولم يكن في خيالها، ولا مشاعرها أي ألم أو عطف، أرادت فقط أن تنام على صورتها تدخن سيجارتها، وكل الصبية يضعون زيوتاً غالية الأثمان على تشققات خدودهم وأقدامهم.

في حي المهمشين: "هنا بيت موت، هذه المرأة فقدت ابنها على الحدود، شمال وجنوب، بإمكانك ترك الثياب والذهاب، شكراً لكم على أيّ حال"، ثم رفعت ناظريها باحتقار لبقية المجموعة.

عبرت السيارة ببطء في الجولة المزدحمة، متدفقة إلى الخارج في طريق سريع يخلو من المتسولين والباعة والراكضين. تجمد العالم فجأة، وفي المخيلة التي غزتها الأغاني الأجنبية الصادحة من السيارة، نامت صورة المدينة. أسى يمزق الذاكرة، وحنين لعالم لا تكون فيه مسؤوليات. تصدق نادية مقولة فتاة الفيسبوك التي قالت أنها ليست الله لتحمل ذنب كل هؤلاء، وأن أقصى ما يجب عليها أن تفعله هو أن تهمس في سرها: أنا آسفة. رددت نادية بدون أسف: أنا آسفة.

في حي المهمشين، تقافزت فتاة الأهمية ممسكة بفتاة الخصلة حول برك الماء الصغيرة. وكما في نزهة، بدتا مشرقتين، وانكمش المراهق الذي اخترع حديثاً مع فتى بنطال العظم. بقيت نادية بملامحها الطبيعية، لا امتعاض ولا استهجان. كان الوقت عصراً والشمس باهتة، وفي البيت الحجري المكون من غرفة يلتصق بها، كغرفة ثانية، طربال أزرق قديم تجمعت تحته أدوات الطبخ، وقفت عجوز ناحلة على الباب، متسائلة لكن بابتسامة ساذجة، تنظر لفتاة الخصلة نظرتها لكائن خرافي الجمال. اتجهت إليها فتاة الخصلة، قبلتها على خدها، وأخبرتها أنها فقط أحضرت ثياباً مستعملة. شرحت العجوز بابتسامة خائفة من أن تغير الفتاة رأيها حين تراها وحيدة: كلهم في الخارج الآن، لكنهم سيعودون، الكثير من الأولاد وأمهاتهم، نعم نعم يحتاجون الملابس. لم تقل نادية شيئاً، ولم تقْدم على شيء، استمرت الجولة، وفي مبنى شبيه لكن بطربالين اثنين، سمعت نادية نواحاً، اقتربت المجموعة من المكان، خمس نسوة كن يجلسن في الداخل يحطن بإحداهن، كان بكاءً مكتوماً ونحيباً بدون قوة. بدت امرأة كأنما انتزعت من معركة من بين النساء المحيطات، كانت شابة بجسد قوي، تبكي بصمت، تراجعت المجموعة، وخشيت أن تقتحم لحظة الألم تلك. لكن نادية تقدمت فجأة، كبر ثقب في أحشائها، وكادت تبكي قبل الوصول، دفعها ألم وغضب للبيت بطرابيله الاثنين، وثلاثة جدران من الحجر. تفاجأت النسوة بذلك الاقتحام، وهبت الفتاة الشابة من مكانها تواجه نادية:
- نعم؟

- نحن هنا لنوزع ثياباً للشتاء

- آها، أنت من "حملة غطاء الشتاء" على فيسبوك

- أووف - نادية بدهشة حقيقية - تعرفينها؟

- أعرف كل شيء، ردت الفتاة بجفاء. هنا بيت موت، هذه المرأة فقدت ابنها على الحدود، شمال وجنوب، بإمكانك ترك الثياب والذهاب، شكراً لكم على أيّ حال. ثم رفعت ناظريها باحتقار لبقية المجموعة.

- هل بإمكاني معرفة اسمك على الفيسبوك؟ بدون تفكير توسلت نادية، ثم أردفت مسرعة: ليس لأغراض دراسة، أقسم لك.

نظرت إليها الشابة مستغربة، مدت لها نادية تلفونها متوسلة، وحينها رفعت إحدى النسوة عينيها منادية إياها: سلمى، قدمي لهم ماء، واقترحت عجوز: سلمى أعدي الشاي..

- كلا، كلا شكراً، سارعت نادية. فقط سنضع هذه الصرة هنا. ثم التفتت من جديد للشابة مبتسمة بأمل: سلمى، هل لي أن أتشرف بإضافتك على الفيسبوك؟

على مقربة كانت فتاة الخصلة تبكي متأثرة. في حارة اليهود كانت العرّافة تقلب كأساً من القهوة، وفي شارع جانبي كان علي يرتعد من البرد، وهو يفكر بسلمى، وفي مبنى دافئ بأثاث فاخر، كانت وداد تفكر في خياراتها للمستقبل، وبعيداً كان قبر ماجدة يرزح تحت قوة المطر، بينما تبتهل لها الجدة بالرحمة، وعالياً في السماء حلقت طائرة، وعلى الأرض اهتز هاتف فتاة الأهمية بأخبار انفجارات في مدن قريبة. لكن لو جمعت كل قصص الدنيا، ما كانت لتكون مثقال ذرة مقابل أن تعود نادية بسلمى في هاتفها.

الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة
الحلقة الخامسة
الحلقة السادسة
الحلقة السابعة

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

رثاء...

ريم مجاهد 2023-07-06

"صلاح" لم يكن ابن أمي الوحيد، لكن أمي كانت - تقريباً - عالم صلاح الأوحد. هذه العلاقة التي تُسلّم بها العائلات التي تحظى بطفل/ة من ذوي الاحتياجات الخاصة... يعرف الجميع...