اعتقدتُ لوهلة أن مسلسل عمر سيجذب السيدات المستطلَعات، واعتقدتُ أن باقي المسلسلات ستحتاج الى وقفة مختلفة بعده. يعرّض المسلسل التاريخي الهوية والانتماء إلى امتحان قسري أمام طغيان الشاشة، صفاء الصورة في التكنولوجيا الحديثة يجعلها مهيمنة وآسرة. في عمل وليد سيف وحاتم علي تحفة لم تستهوِ صديقاتي إياهن، تاريخ يتجاوز ليبرالية الغرب بقرون طويلة في قيم التسامح وحقوق الإنسان، في العدالة الاجتماعية. بقيت سمر في القمة.عندما كنت في بعض أحاديثي مع سيدات طرابلسيات أستَفز اسلامهن بالتركيز على أن سمَر خانم وهي على ما هي عليه من ذنوب ومعاصي، الا أنها امرأة مسلمة ،وكذلك زوجها وأمها، كنت أذكّرهن بطقوس جنازتها وكيف أمَ الصلاة عليها إمام معمم، فكانت جميع المستَطلعات على كلمة واحدة في رفض هكذا إسلام لا يمت بصلة إلى إسلامهن الصحيح. والعجيب فعلا إنهن لم تدارين تماهيهن بسمر. كنت أفهم ذلك بدون جهد، فكرة قبول علاقة السلطان سليمان القانوني بالجارية بدورها لا تنفصل برأيي عن تماه يختلط لدى النساء في الحب بين الجارية والمرأة الحرّة، في لا وعي النساء الملتزمات – على ما سمعت ورأيت -اعتبار حق الرجل المحارب في الإسلام يأخذ حيزا مدهشا، إضافة إلى قاعدة فقهية قالت إحداهن أنها تسمح للرجل بإقامة علاقات بالجواري. وسواء استطاعت هؤلاء النسوة استيعاب القاعدة المذكورة أم لا، فان انجذابهن للمسلسل يقع خارج قضايا الحداثة والتقليد في الالتزام الديني. الإسلام في طرابلس لدى الطبقة الوسطى في أعلى شرائحها هو دين السلف الصالح، فلا أفهم أبدا كيف تكتظ ممرات الجامعة اللبنانية وقاعاتها بالمحجبات، وكيف تكتسح في الوقت نفسه المسلسلات التركية ساحة المدينة. في النظرية يتكامل المسلسل التلفزيوني من وجهة مقاربات علم الاجتماع اليومي مع النسيج الكلي للبيئة بينما واقع الحال هنا، هو غير ذلك. إلاّ إذا كانت النساء تقارعن سرّا بؤس علاقات الحب والتبعية وربما الظلم.
دروس الدين في طرابلس تقليد جديد، منهج تفسير وشروح للقرآن والأحاديث يقوم بتأديته بعض رجال الدين وكذلك بعض السيدات. وقد لا يكون من المبالغة في شيء إذا قلت بأن هذه الدروس تشهد اكتظاظا عجيبا أينما عُقدت، سواء في قاعات المساجد أو في ضيافة إحدى المشاركات، ولما كان الحضور في أغلبيته من السيدات الشابات الموسرات ممن لا تعملن، فان المآدب "الشببلك" تكون مسك الختام ومناسبة لتستعرض كل صبية من طالبات درس الدين ما استطاعت تعلمه من البرامج التلفزيونية. تكتمل بذلك صورة ليس أمر تفسيرها بالهين. التلفزيون يصنع للجمهور عالمه وثقافته فلا يمانع بل يستسلم، ليس على مستوى الصورة فقط،، بل يبدو لي أن الغالبية العظمى تعيش المفاهيم أيضا في حدود عالم التلفزيون. فمؤازرة الثورات والربيع العربي والدفاع عن قيم الحرية وحقوق الإنسان لا تتعارض للحظة واحدة مع ممارسات قديمة وجاحدة. لا أريد الخروج عن الصدد الذي نحن فيه من أمر المسلسل التركي، ولا أريد سرد القصص التي لا تنتهي عن حالة الانفصام السائدة في مجتمع محلي منغلق على برامجه التلفزيونية من جهة، وفي حدود أخرى لا يهاب شيئا في سبيل نصرة الثوار.
لقد جرني مسلسل عمر إلى الكتابة مرة أخرى عن علاقة مدينة طرابلس بالمسلسلات التركية. كنت أظن أن المدينة ،مدينة العلم والعلماء والمدارس والزوايا والمساجد، ستضع المسلسلات التركية جانبا لتستمتع بحلاوة لغة وطلاوة لسان، كنت ما زلت أظن أن أهل المدينة يعرفون تلك اللغة كما يعرفون أولادهم...لست ممن يعيشون في الماضي وأمجاده، مسحورة بالحداثة وروعتها،ولكنها أسئلة تحتاج أجوبة، وقد أكون أخطأتُ في تحميل النساء هذا الكمّ من الخضوع لعمل تلفزيوني.
إلا أنني في كل الأحوال أعتبر أن هذه القضية المطروحة في السفير العربي هي قضية حية. سأبقى أكتب حولها من جعبة مليئة كلما نظرتُ في صورة جمال باشا.
ونحن في السفير العربي نشكرك على مساهماتك، ونتطلع إلى استمرارها!