انتهت قصّة نشأت ملحم. لم تعد أسئلة التفاصيل فاغرة الفم، الأجوبة أغلقت الدائرة.. وحبستنا داخلها، بين تخبّطات أكثر حدةً وقسوة. نشرت المخابرات الإسرائيليّة فيلماً قصيراً مركباً من مقاطع وُجدت على الجهاز الخليويّ الخاص بمُنفّذ عملية تل أبيب. في الفيديو يتكلّم الرجل ويُشير إلى عينيه، لكننا نرفض التحديق بهما. نتمترس بما لنا، بمواقفنا التي لا تُخطئ أبداً، أو بآرائنا التي إن فشلت بتوصيف الواقع، اتهمنا الواقع بتخييب الظنّ، أو ادّعينا بأنه مُفبرك. لكنّ التسجيلات التي تركها نشأت ملحم تروي حكايةً أقوى منّا بكثير. مقاطع فيديو تجمع حياة شعبٍ كاملٍ عبر تلخيص كل أطرافه المتنافرة والمتباعدة، وتكثيفها بتطرفٍ تام. ثلاث دقائق يظهر فيها الشاب في كل أقطاب حالاتنا: خائراً حين يقول "زحلقنا في عالي في واطي"، ويظهر متحدياً وهو يحمل الرصاصة بيده. يظهر متستراً بقبّعة دون أن ينظر إلى الكاميرا وهو يمشي نهاراً في شوارع تل أبيب – الحيّز العام الإسرائيلي. ويظهر محدّقاً بالكاميرا عن قرب، مكشوف الوجه في غرفته المعتمة. يظهر دنيوياً مرة، وروحانياً مرةً أخرى. وهو يشرب البيرة، وهو سنّي متعصب وطائفيّ وعنصريّ. وهو متفائل بخلاص ربّانيّ، ومتشائم من مصائب البشر، شيعة كانوا أم مسيحيين أم يهودا. ونحن، بدلاً من البحث عن أنفسنا في هذه الصور، آثرنا النقاش إن كان الفيديو مفبركاً أم لا، وإن كان متشائل القرن الواحد والعشرين شهيداً أم غير شهيد..
الوقائع الغريبة في اختفاء نشأت ملحم المتشائل
ظُهراً، وقف الشاب على باب حانة في مركز تل أبيب النابض، وأمام كاميرات المراقبة فتح النار وقتل إسرائيليَين اثنين بسلاح والده. والده رجل معروف بتعاونه مع الأمن الإسرائيليّ، أما السلاح فهو مُرخّص من قِبَل الإسرائيليين. ثم اختفى نشأت عن الوجود مثل السحر. قبل أن يخرج من تل أبيب، تُفيد رواية الشرطة الإسرائيليّة بأنه توجّه إلى أحد الأحياء الثريّة في تل أبيب، وعلّق على شُرفة عمارة فخمة راية "لا اله إلا الله" وخرقة سوداء كتب عليها بالعبريّة والعربيّة: داعش!
من هناك، استقلّ نشأت سيّارة أجرة ثم قتل السائق، شاب فلسطيني اسمه أمين شعبان، وسرق ساعته ثم استقل حافلةً إلى قريته. عاد إلى بيت عائلته القديم ومكث هناك، قبل أن يُعدموه. ثمانية أيّام جُنت خلالها إسرائيل وانقلبت رأساً على عقب: فُرض حظر التجوّل في شوارع تل ابيب لساعات طويلة، وتضاربت دوائر المخابرات والشرطة والجيش في محاولة للقبض على شابٍ حددوا هويّته بعد أن أبلغ عنه والده. وبينما بثّت كاميرات التلفزة الإسرائيليّة من جوار بيت دون أن يعرفوا بأن ملحم يختبئ في داخله، أصبح النظام الأمنيّ الصهيوني يبدو كأنه سيرك واحد كبير يعرضه التلفزيون وهو يتخبّط بعبثٍ وفشل بسؤال واحدٍ: "كيف اختفى نشأت ملحم من مركز تل ابيب المزدحم في وضح النهار؟".
رواية إميل حبيبي التي نُشرت لأول مرة في العام 1974 تظهر الآن، في واقعنا، بصيغة تلائم حال الفلسطينيين اليوم – أكثر عنفاً فردانياً، أكثر دمويّة، وأقل سذاجةً. سعيد أبي النحس المتشائل قام، حقًا قام. لكنّه قام بثياب سنة 2016: تحت القمع الإسرائيليّ، غارقاً بالتناقضات ومخطوفاً بالماورائيّات.. يختفي نشأت ملحم من وسط تل أبيب. حسب الإسرائيليّون كل إمكانيّات الهرب، وحاولوا أن يُفكّروا كما يفكّر عسكريّ فذ، وكما يُفكّر مجرم خبيث، وكما يفكّر مبتدئ غبيّ. لكنّهم لم يُفكّروا، ولا يستطيعون التفكير مثلما يفكّر الإنسان تحت تأثير "جميع مشتقّات وأنواع السُطُل، من الجامد إلى السائل إلى السائح حتّى الغبار المنثور"، أي المخدرات التي يقول ملحم في تسجيلاته أنّه تعاطاها.. دماغهم لم يستطع أن يعمل مثل دماغ انهارت عقلانيّته.
غرائزيّة المجتمع، عقلانيّة الفرد البسيطة
المجاز الذي يتحمّله نشأت ملحم، هو الدلالة على انهيار العقلانيّة الجماعيّة للمجتمع الفلسطيني. إن عقلانيّة الجماعة هي تنظيمها السياسي والاجتماعي بموجب القوانين والمبادئ. وحين تتحطّم الحياة السياسيّة لمجتمع ويتهشّم تعبيره السياسيّ، تتآكل عقلانيّة الجماعة فتعود لتتصرّف بموجب غريزتها، تلقائيّتها وعواصف عاطفتها، تلك المُهانة والثكلى والعارية والمتألّمة. وفي هذا الوضع المأساوي تُصبح عقلانيّة الفرد الفلسطيني البسيطة هي الشيء الوحيد الذي يمنعه من الخروج حاملًا سكّينه أو مسدّسه ليهاجم الإسرائيليين بعشوائيّة. إن الشيء الوحيد الذي بقي يثني الفلسطينيين عن ذلك هو سؤال الجدوى على مستوياته المتعددة – وحساب الجدوى هو أساس العقلانيّة. وتقلب هذه الوضعيّة مفاهيم أساسيّة بالنسبة للتفكير الاجتماعيّ: إن الحياة السياسيّة للجماعة من خلال النظام السياسي والاجتماعيّ تعمل بموجب قوانين عقلانيّة من أجل أن تكبح جماح الفرد وتقيّد حريّته وشراسة غريزته. أما في الحالة الفلسطينيّة، فنحن نشهد حالة معاكسة تُصبح فيها عقلانيّة الإنسان البسيطة هي التي تكبح غريزة البقاء العنيفة لدى الجماعة.
إن تهشّم الحياة السياسيّة في فلسطين هو التحصيل الحاصل للاستعمار المُنفلت: كمّ الأفواه ودسّ السموم المعرفيّة في أجهزة التعليم، الفقر المُرعب رغم تغطيته باستفحال الخدمات البنكيّة التي تجعله يزداد عمقاً يوماً بعد يوم. سرقة الأرض وهدم البيوت وكابوس الاكتظاظ السكّانيّ وخنق الحركة والحرمان من استخدام المدى الجغرافي الطبيعي. والبطالة والجريمة والمخدّرات والعشائريّة والذكوريّة الدمويّة. هذا كلّه تحت نظامٍ لا يُريد قمع المجتمع فحسب (مثلما هو الحال في أي دولةٍ قمعيّة أخرى)، إنما يُريد التخلّص منه ونفيه عن الوجود. ولم تعد تشكّل حركة التحرر الفلسطيني بمختلف مكوّناتها طوراً بديلاً من التنظيم العقلانيّ للجماعة، إذ لم تعد تنطق بلسان جمهورها إلا بحدود المحافظة على نفوذها.
فتى الحرب
من رحم هذا المجتمع، يولد الـ War Boy كما يصفه المخرج السينمائي الاسترالي جورج ميلر في فيلمه المرشّح للأوسكار Mad Max: Fury Road. وفتى الحرب هذا، هو الذي يأتي من مُجتمعٍ مُستعبد صودرت كل موارد حياته (الماء في الفيلم/ الأرض في فلسطين) يفقد فيه الإنسان معناه وقيمة وجوده، فيتمسّك بالاحتمال الوحيد الذي يأتي عليه بالاعتراف (بالمفهوم الهيغلي) والمجدي: التضحية لأجل أهداف ما ورائيّة. في التسجيلات المصوّرة يعبّر نشأت ملحم عن انعدام قيمتنا، وعمّا يعوّض عنها موجهاً حديثه للإسرائيليين: "بتغلطوا علينا؟ ماشي، احنا بسيطة، شو إحنا؟ أما إنكم تغلطوا على سيدنا النبيّ، هذا إشي بعده ما صارش"... في الفيلم الهوليوديّ، يقول فتى الحرب حين تقترب لحظات موته في المعركة: "اشهدوا عليّ". وهنا استشهد نشأت ملحم.
لكننا اختلفنا وبشدّة إن كان الشاب شهيداً أم غير شهيد. على هذا الأساس انقسم الفلسطينيّون وهاجموا بعضهم في وسائل التواصل الاجتماعي وما تبقّى من صحافة. البعض قال أن الملابسات غير معروفة، وقال آخرون أنه طالما استهدف إسرائيليين فهو شهيد، والبعض تأكد من أن نشأت ملحم ليس شهيداً لأنه طائفيّ وعنصريّ. بعضهم اعتبره غير شهيد لأنه يشرب البيرة. وهذا النقاش بحدّ ذاته يحتوي على كلّ العصبيّات التي يلخّصها ملحم: نحن لا نتفهّم أن يكون من نختلف معهم ضحايا، ولا نتحمّل أن يكون من نختلف معهم أبطالا. وباختصار – نحن لا نتحمّل أن يكون من نختلف معهم بشراً في حضيضهم أو عظمتهم. نحن نريدهم على شكلنا لنُلصق بهم الأوسمة. نشأت ملحم هو ضحيّة كل الظروف الاجتماعيّة التي فرضها الاستعمار، ضحيّة مرض العنصريّة وضحيّة مُجمل إسقاطات الفقر، وضحيّة الصدمة النفسيّة التي خلّفها مقتل رفيق عمره قبل سنوات طويلة على يد الشرطة الإسرائيليّة، وضحيّة الوالد الفلسطيني المتعاون مع الأمن الصهيونيّ، وضحيّة التديّن الغيبيّ. هو ضحيّة قادها وعيها الممسوس إلى تفجّر لا- وعيها الذي يعرف الجُناة المسؤولين عن كلّ هذا... ويعرف الأمكنة التي يشربون فيها البيرة ساعات الظُهر.
نجمةٌ في قاع بئرنا
معنى العصبيّة أن لا نتحمّل أن يكون من نختلف معهم بشرا مثلنا نشعر بألمهم، وهذا معناه أن نتوقّع من الضحيّة أن تُغلق فمها لئلا تُتلف صورتها التي يُمكننا التضامن معها والإحساس بوجعها. لكنّ نشأت ملحم لم يسكت، وحكى بصوتٍ واثقٍ كل ما نعرفه ونخفيه: أن مجتمعنا آخذ بأكل نفسه ويعود إلى أطوار بدائيّة من التعاقد والتكافل. وبينما نحن في هذه المرحلة الحرجة، يتبجّح من يطالبون بفوقيّة بأن يُظهر النضال الفلسطيني "وجهاً إنسانياً"، وهم ينسون أن الإنسانيّة هي منتوج الحياة السياسيّة وليست معطى مُنْزلاً. وبالتالي، فإن الحفاظ على "وجه إنسانيّ" رغم قمع الحياة السياسيّة للمجتمع ليس أكثر من عمليّة تحنيط للإنسان الفلسطينيّ الذي يواجه مهمة واحدة ووحيدة: أن يُحافظ على حياته في أرضه أمام كل محاولات الاستعمار للتخلّص منه. لذلك، ينتاب الفلسطينيّ هاجس الإثبات بأننا لا زلنا على قيد الحياة، بأن شيئاً لا زال ينبض في عروقنا وشَراراً لا زال يلمع في عيوننا.. وأننا لا زلنا كما الكائنات الحيّة كلّها: نُقاتل من يقتلوننا.
في الشعر الفلسطينيّ (وليس فقط) يرتبط الشهيد بالضوء والسمو. إحدى الاستعارات المتكررة في القصائد التي تتناول النضال والتضحيّة هي النجمة. معين بسيسو يكتب عن "نجوم الدم تزهو في النهار"، محمود درويش يكتب عن "شهداء واقفين، كلٌ على نجمته" وعن أحمد الزعتر الذي كان "الخطوة النجمة" وسميح القاسم يكتب عن "نجوم الملائكة البيض" تُحيط بالشهيد. والآن، يأتي نشأت ملحم الذي أثقل علينا كثافة الصورة وتركيب الواقع والتناقضات المفزعة التي تضبط ملامح وجوهنا، القُبح الذي زرعه فينا الإحتلال والقسوة التي لا مفرّ منها.. يأتي ليُحطم وهم السموّ، ومن عينه التي نرفض التحديق بها يلمع الشرار، فيُصبح نجماً يلمع في قاع البئر الذي نسقط فيه جميعنا.