لم تكن مسألة الهويّة بالنسبة لأيٍ من مركّبات الشّعب الفلسطينيّ مسألةً شاغلة كما كانت للفلسطينيين داخل الأراضي المحتلّة العام 1948. لن نجد فلسطينيّاً في الداخل لم يُسأل مرة واحدة في حياته على الأقل، في الجامعة أو في مقابلة عمل، في سيارة أجرة أو في لقاء حزبيّ، ذلك السؤال المُفخخ: "كيف تعرِّف/ين نفسك؟". سؤال يلحقه، طبعاً، نقاش لا ينتهي حول تلك الوصمات التي نحملها، وحول ترتيب تلك الوصمات في الجُملة المفيدة - ما الذي يسبق الآخر؟ تعريفك الدينيّ لنفسك؟ الجندري؟ القوميّ؟ عربيّ فلسطينيّ أم فلسطينيّ فقط؟ والمواطَنة؟ هل يُمكن تجاهلها؟ هكذا، وببساطةٍ شديدة، يحتاج كل إنسان فلسطينيّ داخل إسرائيل إلى جُملة تبدأ بالضمير المنفصل "أنا"، تعرّفه، ترافقه مثل ظلّه، يحفظها ويُطلقها حيثما يُسأل.
منذ النكبة تشكّل الهويّة شغلنا الشاغل. جمعيّات تختصّ بـ "تعزيز الهويّة"، وأحزاب ترفع شعار "الهويّة الوطنيّة"، حتى مخيّمات للأطفال كانت بعضها (ولا زالت) تُسمّى "مخيّمات الهويّة"، وقائمة لا نهائيّة من المشاريع والمؤسسات التي تتكرر فيها عشرات المرّات الكلمة ذاتها التي تحوّلت هاجساً يتصاعد عبر التاريخ متموّجاً مع كل تراجعٍ للحركة القوميّة العربيّة والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. بعد النكبة موجةٌ أولى، بعد "النّكسة" موجة ثانية، وبعد التوقيع على اتفاقيّة أوسلو موجة ثالثة. كلّها أحداث مفصليّة جرّت وراءها جزراً اجتماعياً للمجتمع الفلسطيني في الداخل، وتراجعاً جماهيرياً عن الخطاب السياسيّ المناهض لإسرائيل لمصلحة رغبة اجتماعيّة بالاندماج (كشرط للبقاء) في المؤسسة - الدولة التي بدت في تلك الفترات الثلاث وكأنها ثبتت وجودها نهائياً. وقد نكون اليوم أمام موجةٍ جديدة..
الأسْرلة: صكّ استسلام
لم يبق للفلسطينيّ داخل إسرائيل بعد النكبة لا أرض يخسرها ولا أملاك. المدن هُجّرت بالكامل والقرى تحوّلت إلى معسكرات عمّال كبيرة ينام الناس فيها ويستيقظون للعمل في مصالح الإسرائيليين من دون حيّزٍ عام أو استقلاليّة للتداول الاقتصاديّ، وضيق شديد في مساحات التفاعل الاجتماعي بين الناس. وباختصار: لم يبق للفلسطينيين في الداخل، وهم جزء من الأمّة العربيّة، ما يدفعونه جزيةً في كل حربٍ (أو تنازل، مثل أوسلو) تخسرها هذه الأمّة ضد إسرائيل. بعد كل هزيمة لحقتْ النكبة، لم يكن لمن لا يملكون شيئاً ما يقدّمونه للمنتصر من أرض أو مُلك، لكنّهم كانوا يتنازلون في كل مرة من جديد عن انتمائهم لثقافة مجتمعهم – تلك الثقافة التي تعبّر عن علاقتهم الأصلانيّة بطبيعة فلسطين. بالنسبة للإسرائيليّ، كان تنازل الفلسطينيّ عن ملامحه الثقافيّة يعبّر عن تنازله عن ذاكرته، وبالتالي تنازله عن علاقته بالأرض، أي أن هذا التنازل الثقافيّ كان عبارة عن تجديد مستمر لوعد الفلسطينيّين بأنهم لن يطالبوا الإسرائيليّ بحقّهم التاريخي بأرضهم.
وُصف هذا "التنازل" في الأدبيّات غير الكثيرة التي كُتبت حول الفلسطينيين في الداخل بمصطلحات مثل التهويد والأسرلة، وقد طُرحت مشاريع "تعزيز الهويّة" كمشاريع نقيضة لما سُمّي "مشاريع الأسرلة". والأسرلة مصطلح أتى ليوازي "التهويد". التهويد للمكان، والأسرلة للإنسان. إذ لا يمكن للأوّل، الذي يعني طمس الملامح العربيّة للمكان وإعطاءه ملامح يهوديّة، أن يستخدم في وصف المشروع الإسرائيلي تجاه الإنسان الفلسطيني. لماذا؟ أولاً، لأن المشروع ليس دينياً لتحويل المسلمين والمسيحيين للديانة اليهوديّة بأيّ حالٍ من الأحوال، والسبب الثاني (الذي يعزّز الأوّل) أن مفتاح الامتياز تحت السيادة الإسرائيليّة، رسمياً، هو أن يكون الإنسان من أمّ يهوديّة، وعليه فهناك مصلحة سياسيّة للإسرائيليين بمنع تحوّل الفلسطينيين بطوائفهم كافة للدين اليهوديّ. هنا يجب التشديد على أن الانتماء الدينيّ هو المفتاح الرسميّ (فقط) للامتيازات، بيدّ أن المفتاح الحقيقيّ هو الانتماء لطبقة اليهود الأوروبيين في إسرائيل، وهي طبقة تَعتبر أصلاً يهود الدول العربيّة عبئاً على "طموحاتها التنويريّة".
حشرة كافكا تستيقظ في إسرائيل
ذلك وحده لا يكفي ليُثبت أن "مشروع الأسْرلة" يوازي مشروع تهويد المكان، لأنه يَفترض عن طريق الخطأ، كما يُطرح غالباً، وجود هويّة ثقافيّة إسرائيليّة يُمكن الانتماء إليها. هل يُمكن أن نشير إلى ثقافة إسرائيليّة؟ هل يُمكن الإشارة إلى مجتمع إسرائيليّ؟ يمكن بالفعل الإشارة في إسرائيل إلى ثقافة أشكنازيّة يهوديّة، والى ثقافة اليهود المغاربة، أو إلى مجتمعٍ يهوديّ روسيّ، أو مجتمعٍ يهوديّ أثيوبيّ. إن ما يُمكن الإشارة إليه في إسرائيل كدوائر اجتماعيّة وثقافيّة هي تبلورات مختلفة للجاليات اليهوديّة حول العالم، تكوّنت على امتداد مئات السنوات والسرديات التاريخيّة المختلفة، وهي لم تغيّر شكل المجتمعات وثقافتها فحسب، إنما تغلغلت لتشكّل تيّارات دينيّة مختلفة في اليهوديّة يتأسس اختلافها على مَوطنها وثقافتها الأصليّة. وهي تيّارات يسود بينها، بالمناسبة، جدل دينيّ وسياسيّ جديّ. فكيف يُمكن أن نَدّعي بأن "مشروع أسرلة" الفلسطينيين هو مشروع لطمس ملامحهم الثقافيّة العربيّة واستبدالها بأخرى "إسرائيليّة"؟
إن الإجابة على هذا السؤال تتطلّب فهماً للأسرلة باعتبارها عمليّة تشويه للهويّة الثقافيّة القائمة، وليس استبدالها الكامل بأخرى. والتشويه، باللغة العربيّة، يخلق "المسخ"، وهو لفظ هام في هذا الموضع لأنه يحيلنا إلى رواية فرانز كافكا الشهيرة المنشورة العام 1915، التي تصف إنساناً استيقظ ليجد نفسه حشرةً هائلة الحجم. هذه الرواية، كما جاء في جزءٍ من تحليلاتها الكثيرة، تأتي بتفاصيل التحوّل (التشوّه العظيم) كناتجٍ حتميّ لاغتراب الإنسان داخل نظام رأسماليّ يُفقده إنسانيّته حين يُفقده علاقته بالطبيعة. العلاقة مع الطبيعة، مع الأرض، هي ذاتها العلاقة/ الذاكرة/ الثقافة التي يتنازل الفلسطينيّ عن انتمائه إليها في كلّ مرةٍ يضطرّ فيها إلى التنازل (كشرط للبقاء، كما ذُكِر)، بعد كلّ هزيمة من هزائم أمّته. التنازل عن الهويّة الثقافيّة الذي ينتزعه النظام الصهيوني من الإنسان الفلسطيني إنما ينتزعه لأنه نظام استعماريّ قائم على "قومجيّة" رأس المال، وبالتالي فإن مَسخ الإنسان – بعد مصادرة كل ما يملكه – إنما هو مسخٌ لهويّته القوميّة يعبّر عن تنازل الإنسان عن حقّه بامتلاك طبيعته.
الهويّة: يُحفظ المُنتج في مكانٍ متجمدٍ
إن علاقة التعلّم القائمة بين الرأسماليّة والدولة الاستعماريّة تنقل أدوات القوّة الناعمة التي تستخدمها الشركات الكبرى حول العالم إلى يد الاستعمار. فمثلما تتكدّس الأموال في حسابات أصحاب الشركات الكبرى من خلال خلق مجالات عمل تحترم العامل وتُعطيه حقّه وحريّته ـ صورياً ـ بينما تُكسب الثروة على حسابه، يدفع الاستعمار نحو الحفاظ على هويّة فولكلوريّة منزوعة من موقفها السياسيّ، وهو موقف عبّرت عنه شخصيّات سياسيّة إسرائيليّة في أكثر من مناسبة. واليوم، بعد 15 عاماً على آخر "انفجار" شهده المجتمع الفلسطيني في الداخل بوجه الإسرائيليين، نجد أنفسنا نُشرف على مرحلةٍ بهذه الملامح، إذ تذهب تيّارات جديّة في الأحزاب السياسيّة الفاعلة في الداخل إلى تبنّي خطاب سياسيّ يقترح ويطالب بنماذج جديدة من "الاندماج" داخل المؤسسة الإسرائيليّة من "دون أن يتنازل المجتمع الفلسطينيّ عن هويته الثقافيّة". هذه توجّهات لا تنكر الصراع مع إسرائيل، إنما تُفرغه من جوهره كصراعٍ وجوديّ ضد الاستعمار، وتحوّله صراعاً مدنياً من أجل المساواة بالفرص، وهي بهذا تلبّي رغبة حديثة للاستعمار في الإبقاء على الهويّة الثقافيّة الفولكلوريّة، ولكن تفريغ الهويّة الثقافيّة من الدور السياسي الذي تؤدّيه، أيّ من المطالبة بحقّها التاريخيّ على طبيعتها وأرضها. وهي بهذا تُتيح الحديث عن حقوق الفرد المشتقّة من كونه "إنساناً مواطناً"، لكنها تتخلص من نضال الشعوب لأجل حقوقها السياسيّة (المشتقّة من حقها التاريخيّ) كمجتمعات سيّدة نفسها. وقد نجد أفضل تعبيرٍ عن هذه المرحلة في تسريب بعض قيادات "القائمة المشتركة" لصحيفة "هآرتس" الإسرائيليّة أنّهم رفضوا دعوةً لزيارة جامعة الدول العربيّة "من أجل التركّز بالمسائل المتعلّقة بالجمهور العربيّ مباشرةً"، وكأنّنا أمام صراعٍ في دائرةٍ معطاة ومسلّم بها، ولسنا جزءاً ولا دوراً، من صراعٍ أوسع بكثير على موقع هذه الدائرة - المستعمرة اتجاه محيطها الطبيعيّ. ولا يأتي هذا النهج السياسيّة من فراغ، إنما يُدفع إلى التدهور نتيجة تراجعٍ اجتماعيّ عن الانتماء للهويّة الثقافيّة والهويّة السياسيّة على أثر هزيمة الأمّة التي نعيشها في أيّامنا، ونقصد الحضيض الذي حفرته الصراعات الطائفيّة والمذهبيّة في الوطن العربيّ، وحال سوريا ومصر واليمن والعراق وغيرها، فهذه أيضاً هزيمة بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
أسئلة عن الآتي..
لقد واجه الفلسطينيّون في الداخل مشروع تشويه الهويّة الثقافيّة بسعي دائمٍ للحفاظ على هويّة ثقافيّة تحوّلت مع الزمن إلى هويّة جامدة أشبه بتمثال قديم. تتحوّل رؤية الإنسان لنفسه في المرآة إلى موقف سياسيّ يوميّ يُقوّض تركيب الفرد. وفي صراع ضدّ آلة تسطو على كل شيء، وتهاجم كل شيء، يُصبح الفصل بين الحياة السياسيّة وبين كل شيء آخر مهمة مستحيلة، يُصبح "تحرر" الفرد من السياسة موقفاً سياسياً، ويشكّل ذلك ردّةً عن النشاط السياسيّ المناهض لإسرائيل، خاصةً أن الأحزاب الوطنيّة لا زالت تسعى لفرض مؤسساتها، بوصفها مؤسسات تؤطّر حياة الإنسان منذ ولادته في منظّمات "الأشبال" مروراً "بالشبيبة" و "الحركة الطالبيّة"، وصولاً إلى البلوغ وأخذ دورٍ قياديّ/ أبويّ في العائلة الحزبيّة. وفهم الأحزاب لنفسها على أنها تؤطّر هويّة الإنسان وحياته، يحوّل بقاءها التنظيميّ والجماهيريّ هدفاً سامياً بحدّ ذاته، فتضطرّ غالباً ألّا تجازف بحياتها، وأن تنصاع لتراجع اجتماعيّ بدلاً من قيادة المجتمع نحو التغيير السياسيّ، وذلك من أجل الحفاظ على "وجود" الحزب. هكذا، تُبتلع الأحزاب الوطنيّة في دائرة التنازلات و "الاندماج"، ويحدث لها ذلك بينما هي تردد شعارات عن تاريخها النضاليّ، تماماً كم تفعل حركة فتح منذ خروجها من بيروت.. وتماما مثلما بُرِّر التنازل عن القضيّة في أوسلو مقابل التمسّك بالتنظيم "الشرعي والوحيد"، ومثلما ابتُلعت أحزاب اليسار في فوهة الأنظمة الدكتاتوريّة العربيّة لسنوات طويلة. واليوم في الداخل، نجد مبرر "الوحدة الوطنيّة" الذي تنتهزه "القائمة المشتركة"، فتُخضِع التيّارات السياسيّة إلى خطاب منسجم مع أهدافٍ ورؤى يستفيد الاستعمار منها: خذوا هويّتكم التراثيّة، اقرأوا شعر المتنبّي واسمعوا أغاني أم كلثوم، ولكن تنازلوا عن الجوهر السياسي للهويّة الثقافيّة - تنازلوا عن الشاهد على حقّكم التاريخي في هذه الأرض.