تُحدِّث سلمى علي بفيض من التفاصيل، للانتقال بالعلاقة من مرحلة "أ" حيث الأحاديث تدور حول العام وسطحيات الحياة، إلى المستوى "ب" حيث التعمق في شجرة العائلة والجيران وحكايات المدرسة التي نظل نرددها في كل محفل. وفي المرحلة " ب تكون العلاقة في موجاتها القصيرة المتدفقة شيئاً لا يصدق من لذة الحكايات والاكتشافات، عطش لقول المزيد وعطش لسماع المزيد. وخلال هذا يعيد الشريكان شريط الحياة إلى الوراء، يختلقان القصص إن اضطروا لذلك، يجمّلان ما حدث في الواقع أو يزيدانه بشاعة.. كل هذا لأجل متعة السرد، ولجعل الحكاية أقصوصة شهرازدية بحق وحقيق. وهكذا كان علي وسلمى في محادثات تمتد الليل بطوله، وكان من المرجح أن علي سيستخدم حكايات كتلك في منشوراته ركيكة اللغة.
لم تكن سلمى قد وافقت بعد على مقابلة علي.
تذرف أم سلمى دمعها في المطبخ. ابن أختها مفقود. يعرف الجميع الحكاية، كيف يختفي أمثالهم دون أن يُذكَروا في السجلات، مواطنون بدون هويات، بدون أرقام في سجلات الدولة، ليسوا فقط المنبوذين اجتماعياً، كانوا عملياً مثل الكلاب الضالة في الشوارع، تراعي وضعهم جمعيات حقوق البيئة والحيوان، متشدقون ومتشدقات ينهبون بأسمائهم ملايين الريالات في مشاريع لم يشاهدوا نتائجها يوماً، ترتفع اللافتة عريضةً في مناطق خيامهم: المشروع الإسكاني للمهمشين. لم يكن هنا أبداً أي مشروع إسكاني. تعرضت خيامهم الهشة وبيوتهم الصغيرة الحجرية للجرف بفعل الأمطار. ومثل الحيوانات الضالة أيضاً مات الكثير في صقيع الشمال القاسي. وحيث أن أساليب موتهم تتنوع، كانت أم سلمى تستغرب ذلك الانفجار العظيم من الدراما والتباكي بعد الحرب. بالنسبة لها ولعائلتها ولكل فئتها كان هذا ما عرفوه منذ البداية، ثم كيف للحرب أن تجعل مما هو أسوأ أشد سوءاً؟
لم تستسغ المرأة بحس فكاهتها المقتصِد كل ذلك التهويل. أخبرت ابنتها التي كانت أيضاً بنظرها تهوِّل مجريات الحرب، أنها كبرت وهي تتعرف على طرق الموت الممكنة، المعروفة وغير المعروفة، الحزينة والمضحكة، الغريبة والاعتيادية، في كل الشوارع حيث كانت تجوب مع أمها حاملة أكياس القمامة العملاقة. شهدت حالة وفاة لفرد من مجتمعهم لم يعره المارة حتى الالتفات، الأولاد الذين ماتوا ملتهِمين بالخطأ سماً وضع للكلاب الضالة، النساء اللواتي جرفتهن السيول ولم يعثر على جثثهن بعد، الفتيات اللواتي تعرضن للاغتصاب والتشويه، الفتية الذين أعدموا بطريقة اللهو من قبل شباب كان لديهم السلاح والكحول، رجل انزلق بقشرة موز، وسيدة مزقت شريانها على طريقة الانتحار بينما كانت تنظف ما حول صندوق القمامة، الرجال الذين اختفوا دون أن يبلّغ عن اختفائهم كونهم لا يملكون ما يثبت وجودهم من الأساس. لن نذكر الجوع، لن نذكر البرد، لن نذكر المرض، لن نذكر وفيات عسر الولادة والنزيف وانفجار الحمل والإجهاض. ترتاع سلمى بينما أمها تسرد كل ذلك بطريقتها ذاتها، بدون غضب أو سخط، وكأن ما حدث كان لا بد أن يحدث، والحرب هي شيء عادي أيضاً، ما الفرق؟ وابن أختها المختفي الآن لا تختلف قصته عن كل القصص السابقة، لكنه بالتأكيد لن يرقى لقصة ابن عم الزوج العالق في مشكلة الانتماء بين الشمال والجنوب، فذلك رجل آخر، كانت لديه بطاقة هوية، ولو أنه بسببها تعرض لما يتعرض له الآن، لكنه على الأقل يحملها.
كانت أم سلمى تستغرب ذلك الانفجار العظيم من الدراما والتباكي بعد الحرب. بالنسبة لها ولعائلتها ولكل فئتها، كان هذا هو ما عرفوه منذ البداية. ثم كيف للحرب أن تجعل ما هو أسوأ اشد سوءاً؟
يواصل والدها مكالماته للاطمئنان على الرجل الذي طُرد من محل الخضار خاصته، وضُرب بأعقاب بنادق الجنود الفتية ورجال آخرين بالزي المدني. تناثرت الخضروات في المكان، وحاول المراهق الابن أن يعترض سيل الضربات الموجهة لأبيه، لكن ضربة واحدة بعقب البندقية كانت كافية لزلزلة فكه الصغير الطري، أسنان صغيرة اختلطت بمعجون الطماطم الذي صنعته أقدام المقتحمين، حاول الأب الفرار، لكنه فقد في محاولته تلك ضلعين وعيناً و"معوزه" الذي رماه عنه شاب عشريني بعينين حمراوين. تتعرض البلاد للتطهير، في كل مكان مطهرون، على الحدود بين الشمال والجنوب شوهدت النسوة يصرخن محاولات الانضمام للذكور الذين تم فصلهم عنهن، في الجنوب في الداخل، تناثرت الأشلاء في كل مكان، تفجيرات وعمليات قتل واغتيال، إدارة عليا برعاية الدول الأغنى. الدول التي تطأ بقدميها الأمكنة فتحولها إلى قذارة خالصة، تصنع المأساة ثم تناقشها صحفها الصباحية، و"تقول بالضبط ما لم يحدث" كما وصف والد سلمى الأمر. فر الطلبة حملة الهويات غير الجنوبية. رميت الجثث أمام بسطات الخضار والملابس الصينية الرخيصة، ولم يفر من كان محظوظاً واختبأ من طريق التطهير الذي يصل العوالم الدموية الجائعة، بانتظار حلقة قادمة من فرز الهويات.
في الشمال كان المنهج مختلفاً، فُجِّرت البيوت حسب الانتماء، كانت التسجيلات المتداوَلة لتفجير المنازل قد بدأت قبل الحرب بكثير، حينما عبرت العصابات المقاتلة من منابعها باتجاه العاصمة، فنسفت في طريقها منازل المعارضين، وسلبت أموال غير المنتمين. اجتمع في النظام الشمالي خليط هيئة حكم من القرون الوسطى، ومنهج عصابات الجريمة في أمريكا اللاتينية، اُعتدي على مغنيّ الحفلات الشعبية، الشبان ذوو الشُعور المنطلقة، الفتيات بالعبايات الملونة، فصول الدراسة المختلطة، كافيهات المدينة التي لا تملكها عائلات السلطة - العصابة، السيارات العابرة بعد العاشرة مساءً. صودرت اللقاحات وحبوب منع الحمل. اقتحمت استراحات الشباب التي تظل مضيئة بعد منتصف الليل، وفرضت الضريبة على كل التجار وأصحاب رؤوس المال ممن هم خارج المنظومة الحاكمة. ازدهرت السوق السوداء، وأقفلت محطات بيع البنزين العادية، وخلقت المدن نظام حياة جديد، يعتمد على طوابير لامتناهية للحصول على غاز الطبخ أو وقود السيارات. خلقت مناصب جديدة ووظائف جديدة، واندثر نظام حياة كان يحاول مجاراة العالم.
كان للحرب مسمياتها الحماسية الخارجة من قصص التاريخ، وكان للحب أن يعيد كل تلك المسميات في رسائل الليل السرية الممحية فوراً مخافة أن يوقعهم سوء الحظ في نقطة تفتيش، وتصادر هواتفهم كما يتم عادة. وبنقاش يومي عن الوضع، كانت سلمى أكثر سوداوية، شاركت علي قصة ابن عم والدها، لكنها لم تأتِ على ذكر ابن خالتها المختفي. اكتفت بطمأنة أمها بكذبة جوفاء، أخذت الأم شيئاً من مخبوزات أعدتها الليلة الماضية، وتجلببت بخمارها الفضفاض مخفية حتى عينيها، ثم انطلقت إلى "عشة" العائلة. شعور من عار كسا سلمى، وشعور من خوف حملته الأم التي أيضاً، مثلها مثل الملايين، ضاعت في الانتماء. لم يكن لدى عائلتها في المنطقة القذرة خارج المدينة الوقت لتحزن، كان يجب أن يجدوا ما يأكلونه خلال اليوم. ولأن عالم الشحاذة أصبح مكتظاً، ولم يعد مقصوراً على المنبوذين والمهمشين، بل غزته كل طوائف المجتمع، وتقاسمته كما لو كان مهنة رسمية، ولأن عالم النظافة التي كانت الحكومة ترعاه شكلياً تلاشى، فقد ضاع هذا العالم الحزين، وبقي تحدي البقاء هو الشغل الشاغل. وجبة مكونة من خبز التنور وفاصولياء بصلصة الطماطم والكزبرة الخضراء كانت هدية يُحتفى بها. شاركت سلمى في صنعها، وهي تفكر كيف أنها ستسأل علي عن الوضع الاقتصادي لقرى الجنوب، وإن كان لديهم ما يزرعونه ويكتفون به بعد أن دمرت حرب الهويات عمليات نقل الخضار من الشمال إلى الجنوب.
تكتب سلمى لعلي:
" فعلاً، يجب أن نلتقي، لكني ما إن أستعيد هذا العالم القذر قبل ذهابي للنوم حتى أستبعد كل فكرة للسعادة. إنّ حياة كهذه هي عقاب محض، أحس كما لو أني ألعوبة العوالم العليا، أضحوكة مجالسهم النهارية، لذا أخشى أنه ما إن نلتقي فستصعّد العوالم العليا مزحتها، ونصبح أكثر تمزّقاً".
ليست الحرب فقط صور الأشلاء وهدير الطيران، وليست الشوارع المهدمة وعمليات الترحيل، ليست المخفيين والمغتالين.. الحرب أيضاً هذا الإحساس الشائن بالعار، بحقيقة الذات، بعدم الإفصاح عنها، بدفنها، بالتناقض.
"لا" متحفظة تكتبها سلمى في فقرة. لم يكن ذلك السبب كما تعرف هي، ورغم أن علي شاركها الفكرة الأدبية، إلا أنها خبأت ذنباً إضافياً، ما الحرب إن لم تكن هذه؟ إن لم تكن بشرتها السمراء الداكنة وعائلة أمها، وهذا النبذ القاتم لمجتمع يمضغ أجزاءه ويلوكها؟ ليست الحرب فقط صور الأشلاء وهدير الطيران، وليست الشوارع المهدمة وعمليات الترحيل، ليست المخفيين والمغتالين. الحرب أيضاً هذا الإحساس الشائن بالعار، بحقيقة الذات، بعدم الإفصاح عنها، بدفنها، بالتناقض. كانت تؤمن بطيبة علي، لكن الجسد موضوع لا علاقة له بالطيبة، سيكون علي طيباً جداً لو أنه أحد مندوبي التنمية البشرية لمخيمات عائلة الأم، لكنه لن يكون طيباً إن اكتشف أن من يحب افتراضياً هي نصف "خادمة"، نصف كاذبة، ونصف منافقة أيضاً. وصمت سلمى نفسها بنفسها، ولم تنتظر علي ليفعل. وفي أفكارها تلك كانت تنتقل من الألم الكبير إلى الكراهية المطلقة، لكنها ومع ذلك تواصل حكاياتها الليلية مع علي، مارّين بكل ما يحدث في البلد، متناولين قضاياه ومحللين المصائب اللامنتهية. يتخلل ذلك حكايات شخصية، دعابة، وبالطبع غزل وحب واحتياج.
"ليالي الحب والحرب"، كما يبتسم علي ويذوب قلبه.
موت
06-06-2019
نادية
14-06-2019
علي
27-06-2019
سلمى
18-07-2019
نادية: إكتشافات ما بعد الظهيرة
26-07-2019
علي: القصص الأخرى
08-08-2019