الخمور على موائد السياسة في اليمن: حديث في السيطرة على السلطة بالدسائس والمؤامرات

الجزء الثاني من رصد الباحث لوقائع اليمن السياسية والسوسيولوجية من خلال العلاقة بالخمور، تهريباً وتسويقاً واستهلاكاً واستخداماً في الابتزازات بين المتصارعين.. ونفاقاً!
2019-08-03

شارك
عبيدة زريق - سوريا

في محافظة تعز، وسط البلاد، وحتى عام 2011، اشتهر فندق (ق.ر) التابع للجنرال (ض)، قائد اللواء 32 مدرع، بكونه حصناً منيعاً لبيع قناني الخمرة المهربة.

يقع هذا الفندق أسفل الامتداد الشمالي للهضبة التي تضم الحرم الأمني للقصر الجمهوري بالمدينة. يباع الخمر في هذا المرفق من شباك صغير، يطل على حديقة مزروعة بأشجار المانجو والباباي، وتعتليه صورة طويلة مجسمة للرئيس صالح.

يصف الباحث (أ. إ) أجواء المكان الذي زاره أكثر من مرة، كان آخرها عام 2009:

- يقف المرتادون في صف متباعد صامت. كان هناك سكير نحيل، تبدو على ملامحه معالم قلق، وتستقر قطرات عرق على محجري عينيه. يعبر السكير الصف، يسألهم فرداً فرداً مشاركته في شراء قنينة، فهو لا يملك سوى نصف السعر، والفندق لا يتعامل بأنصاف القناني.

ويَقسم الباحث، وهو متخصص في السوسيولوجيا، صف المشترين للكحول إلى ثلاث مجموعات: فئة السياسيين والجنود، وفئة الطبقة الوسطى المتآكلة واللاهثة وراء أرستقراطية واهمة، وفئة العمال الذين لم يغادروا طقوس النصف الثاني من القرن العشرين. ويضيف: ترابط مقابل بوابة الفندق عربة عسكرية نوع "شبح"، من قوات الأمن المركزي التابعة لنجل شقيق صالح (يحيى صالح)، وينتصب عليها سلاح معدل (12/7) مغطى بالمشمّع، ويجلس في مقصورتها جندي وموظف تحويلة، يدخنان ويمضغان قاتهما كالإبل المستجِرَّة. إنهما يرقبان الحركة الخجولة لزبائن الفندق.

ويعتبر (أ) أنه وبقدر أهمية هذه الحراسة في تأمين الفندق من الهجمات المحتملة للمتطرفين، فهي مناط بها المهمة موضع الجدل: يقوم موظف التحويلة في العربة العسكرية بإلقاء تحية، بهزة خفيضة من رأسه للسيارات الجيب العسكرية وسيارات التويوتا الضخمة والمعكسة النوافذ، المغادِرة للفندق بحمولتها، وإبلاغ نقطة التفتيش في "جولة" (دوار) القصر على بعد ياردة جنوب الفندق، لتسهيل مرور هذه العربات.

وإلى جانب تأمين محاباة رجال الأمن للفئة الأولى التي يغادر أفرادها القصر بحمولاتهم، كان من المهم التعرف على هوياتهم من خلال أرقام لوحات مركباتهم، لأغراض مستقبلية تتوخاها السلطات العليا.

يَقسم الباحث السوسيولوجي صف المشترين للكحول إلى ثلاث مجموعات: فئة السياسيين والجنود، وفئة الطبقة الوسطى المتآكلة واللاهثة وراء أرستقراطية واهمة، وفئة الكادحين. وإلى جانب تأمين محاباة رجال الأمن للفئة الأولى التي يغادر أفرادها القصر بحمولاتهم، كان من المهم التعرف على هوياتهم من خلال أرقام لوحات مركباتهم، لأغراض مستقبلية تتوخاها السلطات العليا.

وتبقى الفئتان الأخيرتان، وهما الأكثر هشاشة في هذه المعادلة.. فأصحاب المركبات المدنية العادية، والعمال الراجلون بسيقانهم الحنفاء، ينتهون كطرائد مشروعة لنقطة التفتيش ومن ثم لقوانين حفظ النظام. فعند مغادرتهم لعتبة سور الفندق، يتذرع الجنديان بالانهماك بأكياس القات، ثم وقد صارت المسافة بين الطرفين قابلة للمناورة، يبلغ موظف التحويلة نقطة التفتيش المعلومات المفصلة عن المركبات وأرقامها، والعمال وأرديتهم، ليتم إيقافهم والشروع بمباحثات على جانبي الطريق، تخرج معها مسرحية رجال القانون على النحو التالي:

يصعد الجنود إلى المركبات، فإذا وجدوا مالكها من ذوي التعليم المتوسط، يهددونه بالمحاكمة، فإذا نجح في عقد صفقة معهم، يتم إطلاق سراحه مقابل نهب قنينته الكحولية وما يمتلكه من مال. وإذا تشبث بمشروبه، ينقل إلى جهات الاختصاص لمباشرة التحقيق معه في ارتكاب الجرم الجسيم.

الدستور كرشوة

أقر دستور الوحدة المستفتى عليه عام 1991، في مادته الثالثة الشريعة الإسلامية مصدراً رئيساً للتشريع، فيما كفلت المادة 23 منه الحريات الشخصية لليمنيين، وحماية الدولة لها. غير أنه، وفي العام 1994، وبعد هزيمة الحزب الاشتراكي المسيطر جنوباً، جعلت الشريعة الإسلامية مصدراً وحيداً للتشريع، وتم إلغاء المادة 23 كرشوة للإسلاميين الذين ساندوا صالح بالسلاح والفتاوى. وبذلك تمّ تعديل قانون الجرائم والعقوبات ليُلحق شرب الخمر وتعاطيه وحيازته بالجرائم الجسيمة.

وبقدر ما عارضت الأطراف الإسلامية الوحدة اليمنية التي وقعت بالفعل في 22 أيار/ مايو عام 1990، بحجة "حرمة الاتحاد بالجنوب الماركسي الملحد"، أصدرت في 1994 فتوى تحرّم الانفصال، وتبيح للقوات المهاجمة استباحة رجال ونساء وأطفال الجنوب.

ويعتبر المحامي (د.د) أن قوانين الخمر صممت لتناسب الأغراض السياسية، حيث يفقد المدانون بهذا الفعل جزءاً من أهليتهم القانونية والاجتماعية، فلا يحق لهم الشهادة أمام المحاكم، ويمكن بسهولة الطعن بأهليتهم في حال رشحوا لشغل مناصب سياسية وخدمية.

بيرة "صيرة"

أنشئ مصنع "صيرة للمشروبات الوطنية" بمديرية المنصورة، مدينة عدن، في ثمانينيات القرن الماضي، وخصص لإنتاج مشروبات كحولية محلية، ومن ذلك جعة صيرة الشهيرة.

وسط النقاشات التي أفضت إلى الوحدة، يتذكر الكاتب الصحافي محمد العصار دعابة سياسية وردت على لسان الشخصية السياسية عمر الجاوي الذي سُئل: لماذا مصنع "البيرة" لا يزال مفتوحاً بالرغم من الوحدة. فرد، بما عرف عنه من الفطنة: ليس لدينا من البيرة في الجنوب غير الماء، أما الشعير فيأتي من منطقة جهران بمحافظة ذمار الشمالية.

وبعد الوحدة اليمنية، دار جدل بين أعضاء أول مجلس نواب وحدوي بعد اعتراض أعضاء من حزب "الإصلاح" على وجود ميزانية للمصنع، بذريعة مخالفة ذلك للشرعية الإسلامية، التي هي المصدر الرئيس للتشريع.

رجل الدين السلفي عبدالمجيد الزنداني، وقد عاد من تغريبته "القبلية" وأصبح في حماية "الفترة الانتقالية"، أعاد في تموز/ يوليو 2013 هذا الجدل إلى الواجهة، وقالت "هيئة الفضيلة" التابعة له أن مؤتمر الحوار الذي عقد في آذار/ مارس 2012 يريد أن يعيد دستور "الوحدة"، مطالباً بإبقاء دستور صالح الذي يتضمن الشريعة مصدراً وحيداً للتشريع.

بقدر ما عارضت الأطراف الإسلامية الوحدة اليمنية التي وقعت بالفعل في 22 أيار/ مايو عام 1990 بحجة "حرمة الاتحاد بالجنوب الماركسي الملحد"، أصدرت في 1994 فتوى تحرّم الانفصال، وتبيح للقوات المهاجِمة استباحة رجال ونساء وأطفال الجنوب.

وكان الرئيس عبد ربه منصور هادي قد رفض مقترحاً بضم أعضاء "هيئة الفضيلة" للمشاركة في الحوار، ما جعل رجال دين يصعّدون من لهجتهم تجاه مخرجاته.

وقالت الهيئة أن برلمان ما بعد الوحدة الذي كان يرأسه الدكتور ياسين سعيد نعمان حاول تمرير ميزانية مصنع "صيرة" للخمور، وأنه كان لاعتراضهم أثر في إيقاف هذا الأمر الذي اعتبروه مخالفاً للشريعة الإسلامية.

رد نعمان -وكان حينها يشغل منصب الأمين العام للحزب الاشتراكي -بحدة على الزنداني، وقال أن ميزانية المصنع تمّ حلها خارج مجلس النواب، بإسقاط اسم المصنع وإبقاء ميزانيته، ملمحاً إلى وقوف سلطة صالح على مصانع للخمور في إفريقيا، وأنها ظلت تدخل إلى البلد دون أن تدفع ضرائب. وأوضح نعمان أنه وبعد حرب 1994 نُهب المصنع وسُلِّمت معداته لأيد أمينة، في إشارة إلى أن سلطة صالح تقف وراء هذا الأمر.

وعلى الرغم من البروباغندا الرائجة والتي تلصق شرعنة شرب "الخمور" باليسار اليمني حصرياً، يوضّح "ع"، وهو ينتمي إلى "الديمقراطي الثوري"، أحد الفصائل التي شكلت قوام الحزب الاشتراكي بعد العام 1990، بأن فصيله يتبنى لائحة داخلية صارمة تحظر على الملتحقين فيه تعاطي الكحول. ويرى هذا الفصيل أن الرجل الذي يشربها أو يجري خلف غرائزه الجنسية غير مؤهل لأن يقود المجتمع، باعتبار هذين الأمرين ينعكسان سلبياً على شخصيته وعلى سعيه للصالح العام.

معارك مقدسة

وكانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" قد وثقت نهب مصنع صيرة في تقريرها الصادر في تشرين الأول/ أكتوبر 1994 وهو يقع في 30 صفحة. وقد ورد فيه أنه "وبالرغم من أن نسبة الضرر الذي ارتكبه الإسلاميون وأعضاء حزب الإصلاح (بعد دخول قوات صالح إلى الجنوب وهزيمة الاشتراكيين) كان بسيطاً نسبياً مقارنة بالدمار الشامل الذي قام به آخرون، إلا أنه أثار الانتباه لأنه استهدف ما يعتبرونه رموزاً للانحطاط والتغريب، ومن بينها مصنع صيرة بمديرية المنصورة.

وكان مسؤولون في عدن الجنوبية، قد أعلنوا في حزيران/ يونيو 1994، وبسبب دعاية الحرب الشمالية، أن المصنع والذي تبلغ أرباحه آنذاك (عام 1993) 8 ملايين دولار، سيتحول إلى مصنع للمشروبات الغازية. (المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية، باريس، 27 حزيران/ يونيو 1994). وبحسب تقرير هيومن رايتس، فإن ما حدث فعلاً لمخازن الكحول وفي مصنع صيرة هو أن المليشيات الإسلامية (ويدعون بـ"المطوعين") قدموا إلى المصنع بحسب شهود عيان بعد تدمير معداته بواسطة جنود حكوميين. وقال صحافي شاهد الحريق وهو يلتهم المصنع أن ضابطاً برتبة مقدم في الجيش الحكومي قال له في المكان "أن الجنود الحكوميين أضرموا النيران في المصنع". وأضاف أن ألسنة النيران كانت بارتفاع 80 قدماً. وزعم مراسل ل"صحيفة الثورة" الرسمية متأسفاً، أن الحريق حدث بطريقة غير متعمدة حيث حصل إطلاق نار "أشعل الكحول في البيرة".

قوانين الخمر صممت لتناسب الأغراض السياسية، حيث يفقد المدانون بهذا الفعل جزءاً من أهليتهم القانونية والاجتماعية، فلا يحق لهم الشهادة أمام المحاكم، ويمكن بسهولة الطعن بأهليتهم في حال رشحوا لشغل مناصب سياسية وخدمية.

وكان جعبل طعيمان، أحد أعضاء مجلس النواب وينتمي لحزب الإصلاح، قد قال حينها للمعارض السياسي عمر الجاوي من حزب "التجمع" ذي التوجه اليساري، إنهم فخورون بحرقهم مصنع صيرة وكل البيرة المعبأة فيه، وأن "المناقشات جارية لتحويل الموقع إلى مسجد". (المصدر: مقابلة مع الجاوي في عدن 19 تموز/ يوليو 1994).

مع ثورة 2011 وانحسار سلطة صالح، ارتفعت أسعار الخمور في السوق السوداء إلى مستويات قياسية، وذلك بعد توقف عمليات التهريب وبسبب ارتفاع أسعار الكحول في السوق العالمية، وراج نوع من العرق المصنوع محلياً بخبرات إفريقية وغربية وبسعر رخيص.

قصة قنينة

تشي نوعية المشروبات الكحولية التي تدخل البلد بالطبيعة الاحتكارية لهذا المورد الحيوي. وقد راجت في السبعينات الفائتة ماركات ويسكي اسكتلندي، أشهرها "جوني ووكر"، وله تسمية شعبية "أبو عسكري" أو "أبو خطوة"، وويسكي "فات 69"، و"هيغ 69"، وبلاك أند وايت" وله تسمية شعبية "أبو كلب وأبو كلبين". والجن الـ"دراجون أبو تنين" ويفضله الكثيرون على الويسكي بسبب رائحته العطرة التي لا تشي بشاربه، إلى جانب جن آخر على زجاجته ملصق لزيتون.

وعرف تسويق الخمور في ذلك الزمن بثلاثة مستويات للباعة: الفنادق الكبيرة التي تضم "ميني بار" في غرف نزلائها، كما تقدم كؤوساً منه على موائد المطعم. والمستوى الثاني، هو الفنادق الصغيرة، مثل فندق "س" بصنعاء، التابع لأوقاف الحكومة. وتحرص هذه المرافق على بيع الخمور من خلال شباك صغير يطل على البهو الخارجي، ويأخذ الزبائن أماكنهم في الطابور بتوجس وصمت. والمستوى الثالث، هو في منازل الأسر المتوارثة لهذا التقليد، والدكاكين الصغيرة. أحد الذين قابلتهم، يتذكر قصة لأحد الباعة الذين كان يشتري منهم مؤونته من المشروب. يقول "ص"، أنه كان يذهب لشراء الكحول إلى منزل البائع، فيجده مقفياً إلى شباك البيع، يحدق في صورة على الجدار المقابل لنجله الذي استشهد في ثورة 26 أيلول / سبتمبر. وعندما يسمع المشتري يلتفت إليه ويناوله مطلوبه ويعود للصورة.

ويعزى التنوع في دخول المشروبات في السبعينات الفائتة إلى عوامل إقليمية منها طفرة النفط، وبدء عصر الموضة المرافقة لحالة الرفاه، وأيضاً إلى عوامل انفتاح داخلية، منها سيادة حكم الحمدي ذو التوجه العلماني في الشمال، وإرث الاستعمار البريطاني في الجنوب.

ثم ظهرت بعد ذلك بعقد من الزمن ماركات مقلدة رديئة من زجاجات الكحول، لا تزال رائجة إلى اليوم، ويعتقد أنه يتم تعبئتها في مصانع بجيبوتي يستثمر فيها عسكريون مقربون من نظام صالح، ومنها ماركة "تتشر"، و"بيلز" و"الملك روبرت الثاني". وكثيراً ما يشار إلى هذه الماركات بين "الموالعة" (المولعين) باعتبارها المشروبات الليلية للصداع الصباحي.

وظلت الخمور في هذه الفترة محافظة نسبياً على سوق تداولها، بالتراتبية نفسها التي عرفتها سوق السبعينات، مع تغول السلطات القائمة آنذاك بين المهربين للتحكم بهذه السلعة.

مع ثورة 2011 وانحسار سلطة صالح، ارتفعت أسعار الخمور في السوق السوداء إلى مستويات قياسية، وذلك بعد توقف عمليات التهريب، وراج نوع من العرق المصنوع محلياً بخبرات إفريقية وغربية وبسعر رخيص. وتشي نوعية المشروبات الكحولية التي تدخل البلد بالطبيعة الاحتكارية لهذا المورد الحيوي.

واشتهرت التسعينات بثلاث ماركات من الفودكا الروسية هي "استالشنايا" و"متكوفا"، وماركة بريطانية أخرى تدعى "سميرانوف". وشهدت هذه الفترة انحساراً للأطراف المتداولة للخمور، مع امتناع الفنادق عن تقديم هذا المشروب واحتكاره في منازل الأسر المتاجرة به، وانسحابه من الوسط إلى الأطراف، ومن بينها أسواق الطوق الغربي لصنعاء.

أما الجعة، فكان سوقها رائجاً أكثر من الويسكي والفودكا والجن. ومنذ منتصف السبعينات وحتى منتصف الثمانينات من القرن الفائت، دخلت أنواع لا تحصى من علب الجعة. وحصلنا من أحد الذين عاصروا تلك الفترة على حكاية جعة كانت لها تسمية شعبية غريبة في الجنوب وهي "النظام الداخلي".

وهي اكتسبت هذا الاسم من لون علبتها الزرقاء التي تتوسطها نجمة حمراء، فبدت لصيقة الشبه بألوان علم الحزب الاشتراكي! وإلى تلك الثمانينات، كانت الأسواق القبلية الصغيرة على جانبي الطريق الجبلي المؤدي إلى الحُديدة تبيع الخمور في رفوفها الأمامية. بعد ذلك استمر بيع الخمور لكن مع إخفائها في الأقبية الداخلية لهذه الدكاكين، ثم وبعد العام 2011، صارت هذه الأماكن تبيع اللوز البلدي والحليب الرائب والقات.

وتراوح سعر مختلف أنواع الكحول في العام 2007 بين 13 و19 دولاراً للقنينة، وسعر علبة الجعة المتوسطة في العام نفسه بين 6 و9 دولار.

أنخاب الدبلوماسية الغربية

وتبقى السفارات الغربية قبل أحداث أيلول/ سبتمبر 2014، مصدراً مهماً لكسر حظر دخول المشروبات الكحولية من المعابر الرسمية للبلد. تحظى الأمتعة الدبلوماسية بالحصانة، بناء على المادة 27 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961، ما سمح بشحن كميات لا يستهان بها من الكحول للاستهلاك الشخصي.

ومع معرفة هذه الممثليات بالقانون اليمني وبتحكم المحافظين في بنوده، يحرص السفراء على دعوة مسؤولين حكوميين ومعارضين سياسيين وشخصيات ثقافية وصحافية وقيادات اجتماعية.. للاحتفال بالمناسبات القومية للدول التي يمثلونها. وفي الأروقة الفخمة تقدم ألوان الطعام وتعرض المشروبات الكحولية والعادية على الطاولات، ويفتتح الكرنفال بالموسيقى الهادئة والأضواء الخافتة.

يرى السوسيولوجي "أ. إ"، أن هذه الحفلات على كرمها، تخفي سلوك هيمنة غربية بحق النخب المستضافة. فممارسة الناس لطقوس تجرمها قوانينهم، وعلى أراض يمنية، يبدو وكأنه نوع من الحماية، لكنه يمثل في باطنه نوعاً مقيتاً من الاستغلال.

فهذه النخب تمارس المتعة بدفع ثمنها من استقلاليتها وحريتها، حيث أن هذه السفارات ترى في الكبت الذي يعيشه الناس فرصة لاستمالتهم وربما لشراء ضمائرهم، وبالتالي سلخهم عن مجتمعاتهم. كما أن هناك نوعاً من السيرك الذي يبهج الدبلوماسية الغربية التواقة لرؤية شعوب لا تستطيع السيطرة على غرائزها، لتكرس الانطباع الاستشراقي في ذهنية الآخر المتفوق.

أحد المدعوّين لهذه الحفلات أدلى بشهادته وقد نزل في العام 2009 ضيفاً على السفارة الفرنسية وشاهد حارساً يسحب شاباً ثملاً حاول مراقصة فتاة "صفراء" (شقراء) مراهقة، ليرميه خارجاً.

تخفي الحفلات الباذخة في السفارات الغربية سلوك هيمنة غربية بحق النخب المستضافة. فممارسة الناس لطقوس تجرمها قوانينهم، وفي بلادهم، يبدو كنوع من "الحماية"، لكنه يمثل أيضاً استغلالاً مقيتاً. وترى السفارات في الكبت الذي يعيشه الناس فرصة لاستمالتهم وسلخهم عن مجتمعاتهم. كما يبهجهم هذا السيرك وهم تواقون لرؤية شعوب لا تسيطر على غرائزها، ما يكرس الانطباع الاستشراقي في ذهنية الآخر المتفوق.

وبينما كانت الأضواء تنطفئ، يولد من الكرنفال اجتماع مصغر بين "الغربيين المتحكمين بأدمغتهم" وبعض اليمنيين الذين عرفوا قواعد اللعب النظيف، لوضع خطة للتعاون والشراكة. وقد أطلق القرويون نيران مدفعيتهم على الثكنات وسط العاصمة، إيذاناً بحرب شرسة أسقطت في طريقها أكذوبة الليبرالية الجديدة بزعامة إدارة الرئيس بارك أوباما، عن نجاح "النموذج اليمني".

وفي 21 أيلول/ سبتمبر 2014، أفاق الثملون على جماعة لا تقر إلا بشرعة البندقية، وتسيطر على مطار صنعاء الدولي، كاشفة سيقانها ومشهرة بنادقها الكلاشينكوف على الطائرات المتجهزة للإقلاع، بحثاً عن خصومها الهاربين.

دولة القرويين

مصدر ملاحي في مطار صنعاء تحدث عن وصول أول طرد دبلوماسي، بعد فرض الحوثيين طوقاً أمنياً على المنفذ الجوي، فقال: "وصلت الطرود المغلفة بالمشمع على الرافعات، فأصر المسلحون على تفتيشها. وفي مستودع البضائع تمت مصادرة طواقم القناني الأنيقة، وصب محتواياتها في مغاسل الأيدي. ثم بعد ذلك اعتمدوا آلية لإحراق أي مخزون من الكحول في مقلب الأزرقين للقمامة مع مهربات أخرى.

في ظهيرة 3 أيلول/ ديسمبر 2017، أعلن مقتل صالح. واحتاج القتلة لإعلان النبأ إلى 12 ساعة لإخراج مسرحية: نقل مسلحون حوثيون جثمان صالح من منزله وسط صنعاء، إلى ضاحية من ضواحي صنعاء على متن عربة عسكرية، وصوروا الجثمان الملفوف ببطانية على أنه لرجل حاول الهروب في لحظاته الأخيرة. كشف الأمر صورة غير مقصودة صورها مسلح للجماعة ما حدا بالقتلة لاعتماد الدسيسة ذاتها التي كادها صالح لسلفه الحمدي: نشروا صوراً لواجهة في منزل تعرض أنواعاً من الخمور الفاخرة ولمجوهرات قالوا إنها ضبطت في منزل الرئيس صالح.

ومع أن الأمر لا ينفي ولا يؤكد تعاطي "صالح" للخمرة، أخبر "غوغل" الجميع حكاية أخرى: هذه الصور نشرتها الصحافة التونسية لأحد قصور بن علي، وليس صالح.

الخطيئة والمدنس

في كتابها حول "يهود صنعاء"، الصادر عام 2006، بينت الباحثة جميلة الرجوي جانباً من القوانين التي أصدرت في العام 1932 أثناء حكم الإمام يحيى حميد الدين - حكم في الفترة من 1904 إلى 1948 - والتي تضمنت تقنين بيع الخمر وشربه. وحصرت هذه القوانين تداول هذه السلعة باليهود فقط وبإشراف من "عاقل حارة" (حاكم محلي بسلطات عرفية). وهناك حكايتان قديمتان من هذا الزمن وهما على الرغم مما تحملان من ازدراء طائفي، إلا أنهما ترويان في الواقع كيفية مقاومة الشعب اليمني محاولات ربط الخمر باليهود وإلحاقه بـ"المدنس".

تتحدث حكاية شعبية متواترة عن أن الإمام يحيى حميد الدين (1869 - 1948) الذي عرف بالبخل، استثنى اليهود من قوانين شرب الخمر وصناعته، بشرط الامتناع عن تقديمه أو بيعه للمسلمين. لكن تناهت إلى مسامع الإمام ذات يوم وشاية مفادها أن بعضاً من حاشيته يرتادون حانة في حارة اليهود بصنعاء ويتنادمون بالخفاء.

استدعى الإمام مالك الحانة، وطلب منه قائمة بأسماء الذين يرتادون الحانة من الأتباع. أطرق اليهودي لأنه من الصعب تذكر أسمائهم لكثرتهم، فواتته حيلة، ألهمته القول: سيدي.. ماذا لو أحصيت لك الذين لا يرتادون الحانة؟

الحكاية الثانية تتحدث عن فقدان الإمام يحيى السيطرة على شعبه المسلم الذي صار معظمه مدمناً، ويعمد لإخفاء الخمرة في الأواني الفخارية والخشبية المعدة لحفظ السمن والعسل والقشطة والقهوة. فاتخذ فرداً من مواطنيه اليهود لاختبار المشروبات والتمييز بين العادية والكحولية.

شرع الإمام بمداهمة المنازل، آمراً اليهودي بتناول رشفة من كل السوائل المتروكة في الأواني، ليبت في أمرها.

أتى المساء على اليهودي وقد ثمل تماماً وصار من الصعب عليه أن ينهض على ساقيه، علاوة على حمل الآنية إلى فمه، ولذا طلب مساعداً يتولى مهمة رفع الآنية إليه، للحكم على المشروبات من رائحتها بدلاً عن مذاقها. وكان كلما قرّب المساعد إناءً، يشتم اليهودي محتواه وعيناه مغمضتان، ويكتفي بالقول: "منه منه يا سيدي"، أي من المشروب الكحولي نفسه.

ويسكي أمير المؤمنين

في شهادته لقناة روسيا اليوم على مرحلة حكم الإمام أحمد حميد الدين (1891 - 1962)، تحدث البروفسور أوليغ بيريسيبكين السفير السوفييتي لدى صنعاء عام 1959عن محاولة اغتيال الإمام في محافظة الحديدة، جاء فيها ذكر للويسكي.

وعلى الرغم من أن الدولة المتوكلية ثيوقراطية كما هو معروف، إلا أن ممارسات الإمام أحمد الشخصية لم تكن توحي بذلك.

يقول أوليغ أن الإمام قدم إلى الحُديدة حيث كان كثير التنقل، وحين كان في زيارة لمستشفى الحُديدة الذي كان يعمل فيه أطباء سوفييتيون، وصل قبله ثلاثة من ضباطه وأطلقوا عليه النار. جزء من حراس الإمام المصاب قاموا بحمله إلى السيارة لنقله إلى القصر، وأخذوا معهم الجراح السوفييتي فان جان، وكان من أصل أرمني. أما الجزء الباقي من الحراس فقد انقضوا على المتآمرين للقبض عليهم.

ويشرح السفير أنه وبعد إحضار الإمام إلى القصر، طلبوا من الجراح السوفييتي أن يقوم باستخراج الطلقات من جسد الإمام، لكن الطبيب قال لهم ليس لدي الأدوات اللازمة، والمكان غير مناسب لإجراء العمليات الجراحية. فهددوه ووجهوا إليه مسدساً فوافق. قال لهم ابحثوا إذاً عن زجاجة ويسكي بالقصر.

عند هذا قاطع الصحافي السفير وسأله هو يبتسم: بالقصر عند أمير المؤمنين؟ بادله السفير الابتسامة: نعم عند أمير المؤمنين وجدوا زجاجة ويسكي بسرعة، فأحضروا للطبيب ليتراً من هذا المشروب كما حدثنا الطبيب فيما بعد. ويتابع السفير: طلب الطبيب منهم أدوات طبية فأتوا له بحقيبة محمولة فيها بعض ما طلب، أحضروها من المستشفى. قام الطبيب بغسل الأدوات بنصف كمية الويسكي أما النصف الثاني من الزجاجة فأفرغها في فم الإمام بدلاً عن المخدر، ثم استخرج من جسده عدة طلقات وبعدها لفه بقطعة من القماش النظيف. ويختم السفير هذا الجزء بالقول: تمت العملية في ظروف منزلية. أخبرونا أن الإمام قال لهم أن كل شيء على مايرام. ويمكنهم أن يخلدوا للراحة. فأطلقوا سراح الطبيب فان جان، وعبروا له عن امتنانهم، وأهدوه فرساً.

متاحف ثورة سبتمبر

بعد وفاة الإمام أحمد، تولى منصبه ولي عهده ونجله الإمام البدر الذي لم يدم طويلاً في موقعه، إذ اندلعت ضده ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962. وظلت متاحف الثورة التي هي في الأصل قصور الإمام أحمد، تعرض أنواعاً من المتاع الشخصي بينها الخمور، في الواجهات الزجاجية حتى أتت جماعة "أنصارالله" التي يتهمها خصومها باعتناق النهج الإمامي. وفي 2 شباط/ فبراير 2016 دمرت الجماعة قصر العرضي في شارع الشهداء بتعز، لينكشف ارتباط البلد بشكل وثيق برواسب الماضي، وعدم قدرتها على المضي قدماً.

مقالات من اليمن