نادية: إكتشافات ما بعد الظهيرة

في الحلقة الخامسة من الرواية المتسلسلة: تعبُر نادية الخط بين الحياتين بحذر. لم تمزجهما، ولم تعجبها إحداهما. تعود إلى المنزل من اكتشافات بعد الظهيرة، تضيف على الحيوات التي شاهدتها أو قابلتها تفاصيل أكثر، تصنع حكايات قبل النوم، تمنح الآخرين حياة غير حياتهم الحقيقية التي لم تتح لها الفرصة لتتعرف عليها كاملة، وتتوق بحنين مَرَضي لحياة غير كل الحيوات التي تعرفها والتي صادفتها.
2019-07-26

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
دارين أحمد - سوريا

يبدو وكأن نادية تدور في مدار وداد، لكنها لم تكن كذلك. لم تكونا صديقتين قديمتين، صارتا مؤخراً. اختارت وداد نادية صديقة لها في السنة الثالثة في الجامعة، تعرفت على عائلتها بسرعة، وزارتهم في كل المناسبات بابتسامتها المنافقة وشعرها القصير الذي لم تحبه لا الأم ولا الأخت الكبرى المتدينة. وفي السنة الرابعة تأكدت الصداقة حين بادرت أم وداد باتصال هاتفي لتهنئة أم نادية بخطوبة ابنتها الكبرى، وأيضا لتحكي لها عن جيرانها الذين ماتت ابنتهم الصغيرة بسبب الكوليرا وكيف أن الجيران تعاضدوا جميعاً لينقذوا الأم من موت محتم. تلك كانت الخطوة الأكبر والتأكيد الحاسم أن وداد فتاة موثوق بها. سمحت أم نادية لابنتها بأن تزور بيت وداد، وبأن تبقى طيلة عصريات الدراسة في منزلها، حيث أنها أقنعتها أن لدى وداد المولد الكهربائي الذي يقف في وجه مشكلة انقطاع الكهرباء، ويوفر جو مذاكرة مريح.

عذر كاف لاكتشافات ما بعد الظهيرة.

لم تكشف وداد منظورها للحياة مرة واحدة أمام نادية، أخذتها في رحلة غزت فيها أكثر خيالاتها: الكافيهات المختلطة التي تُقدَم فيها المخدرات كالقهوة مع شرح كيف أنها قد تعوض القات بمنظره المخزي، ويُختبأ فيها أوقات القصف الشديد كونها تحت الأرض. جلسة قات في بيت صديق والعودة منها في الساعة التي تبدأ فيها الطائرات بالتحليق. رحلة إلى الجبل للإطلاع على منظر العشاق الهاربين من المدينة ورحلات الزوجات الخائنات في فترات استراحة الحرب. التعرف على رابطة "نساء للنساء"، مجموعة المطلقات والمثليات والمنفيات من منازل العائلات الكبيرة.

وفي كل مرة كانت نادية لا تملك المال الكافي، كانت وداد تملكه. في البداية لم تحب نادية زيارة بيت وداد بسبب ذلك الجو المشتعل بين الفتاة وأمها وإخوتها الإثنين، والذي لم تعرف فيه إن كان يجب عليها أن تكون منافقة وتبتسم أو تتصرف كما تفعل وداد بوقاحتها الدائمة. لكن فيما بعد اكتشفت أن ذلك هو الشيء الوحيد الجيد في حياة وداد: دائرة الحرية التي تمنحها عائلة مفككة بأم منشغلة وأب مهاجر وأجواء حرب تبدو فيها الحياة رخيصة وهشة.

سمحت أم نادية لابنتها بأن تزور بيت وداد، وبأن تبقى طيلة عصريات الدراسة في منزلها، حيث أنها أقنعتها أن لدى وداد المولد الكهربائي الذي يقف في وجه مشكلة انقطاع الكهرباء، ويوفر جو مذاكرة مريح.

تفتحت نادية على الأكاذيب والأسرار، ابتلعتها، لكنها عرفت كيف تصيغها بشكل واع وذكي، لم تسقط أي كلمة سهواً، تعود عند السابعة، ليس بعدها أبداً. تحافظ وداد على المواعيد وتدبر الرحلات واللقاءات بناء على أوقات نادية، وتبادر بالاتصال بأم نادية قبل أن تتخذ الأم الخطوة وتنكشف الكذبة. تخيلت وداد أن نادية ستمثل دور الساذجة الخام في البداية، لكن نادية كانت أكثر استعدادا - بسبب طباعها في "عدم التفضيل" الطاغية عليها - لأن تجرب أي شيء.. ذلك البرود المستفِز لفتاة لا تبالي، لا تحنق، لا تندهش. احتفظت بنظرة الريبة في زوايتي عينيها لتواجه بهما مجتمع وداد الواثق من جبروته، المتصنع التمرد. لم تكن نادية لتظهر لا اللطف ولا العداء، ولم توجه لوداد يوماً كلمة امتنان أو تعبير انذهال، وكأنها خُلقت في كل العوالم مرة واحدة، ونشأت تحت كل الظروف. سحر ذلك وداد منذ البداية، يوما ما تمنت لو كانت هي هذه الشخصية فهي كانت تدهشها كل التفاصيل وتسحرها كل المفاجآت. تحول ذلك البرود فيما بعد إلى مسألة تحد بالنسبة لوداد، رأت نادية تتعالى في برودها وعدم تفضيلها لأي شي، رأت فيه جحوداً مستفزاً. كانت وداد تعي في قرارة نفسها أن لها سلطة على نادية، بيد أن نادية لم تكن لتعترف بذلك، على الأقل صراحة.

تعبر نادية الخط بين الحياتين بحذر، لم تمزجهما، ولم تعجبها إحداهما، تعود إلى المنزل من اكتشافات بعد الظهيرة، تضيف على الحيوات التي شاهدتها أو قابلتها تفاصيل أكثر، تصنع حكايات قبل النوم، تمنح الآخرين حياة غير حياتهم الحقيقية التي لم تتح لها الفرصة لتتعرف عليها كاملة، وتتوق بحنين مَرَضي لحياة غير كل الحيوات التي تعرفها والتي صادفتها. تقضي لياليها منذ كانت مراهقة في تخيل الأحداث الغريبة الاستثنائية التي ستصادفها هي وحدها، كائنات فضائية تصل منزلهم في منتصف الليل وتضع الجميع تحت قوة النوم العميق، ما عداها، تختطفها لترميها في عالم آخر، ولا يهم إن كان ذلك العالم جميلاً أو سعيداً، المهم أنها غادرت غرفة الأخوات. حادث على الطريق السريع يؤدي بالزمن للتوقف وللكائنات بالسكون المؤقت.. أيضا ماعداها، التي ستقابل الشخص الذي لديه هذه القوة لإيقاف الزمن. زلزال هائل يجعل الناس يهيمون في الطرقات لكنها ستنجو برفقة الرجل الذي اختطفها من الشارع تحت هول الانهيارات لتكتشف أنه أيضاً بقوى خارقة. سيناريوهات لا عد ولا حصر لها لرجال ونساء لديهم قوة الانتقال عبر المكان، يختطفونها من سلم العمارة وتجد نفسها في أماكن بعيدة. ومرة أخرى، ليس مهماً أبداً أن تكون أماكن جميلة، المهم أنها الآن بصحبة هذه القوة - الدهشة والتغيير..وهكذا لسنين طويلة، طورت نادية أحلامها بناء على الأفلام التي شاهدتها والقصص السحرية التي قرأتها، لم تكفر قط بتلك القوى، وانتظرت بصبر تلك الصدفة التي ستغير حياتها للأبد. لم تكن تكره حياتها، لكن شعوراً واحداً أمضّ أيامها: لم تكن تنتمي لهناك، لا لزمانها ذاك ولا للمكان والأشخاص.

تحولت الفتاة الكبرى لشخصية متدينة بسبب الحرب والكوليرا. كانت إصابتها بالكوليرا قد غيرت حياتها وبالتالي حياة البيت كله. فكرة أن الموت مترصد على الباب شحنتها بذنب مروع فرضته على كل من حولها، لم يكن أحد يستطيع الإعتراض ولا حتى الأب نفسه. فالإعتراض يعني الوسم بأنك لا تحب مظاهر الدين الطبيعية..

في الليل يتصاعد صوت صلوات الأخت الكبرى، خشوع تام وتضرع، تدعو برجاء لأشياء بعيدة عن عقل نادية المنشغل، صلوات عن الغفران والذنب، وإجتهاد في تكرار سيرة الجنة والعذاب. و تظل هناك في الظلام متكومة على سجادتها، تسمع نادية في أحيانٍ ما نحيباً غريباً صادراً عنها. تحولت الفتاة الكبرى لشخصية متدينة بسبب الحرب والكوليرا. كانت إصابتها بالكوليرا قد غيرت حياتها وبالتالي حياة البيت كله. فكرة أن الموت مترصد على الباب شحنتها بذنب مروع فرضته على كل من حولها، لم يكن أحد يستطيع الإعتراض ولا حتى الأب نفسه. فالإعتراض يعني الوسم بأنك لا تحب مظاهر الدين الطبيعية. قللت ساعات مشاهدات التلفاز، وحددت ما الذي يمكن مشاهدته، وسريعاً بدأ الصدام بشأن مواعيد الصلاة، وبشأن استخدام الهاتف. تذهب الكبرى إلى مركز تحفيظ القرآن بالحارة كل مساء، وتعود بمسحة الرضى حتى تحت وطأة القصف الذي يطال أطراف المدينة، تعود بنباتات جديدة جاءت بها سيدات المعهد الفاضلات. لم تتواجه معها نادية قط، لكن في الليل، وخلال كل نحيب غريب، كانت نادية تخترع لأختها ذنبا وخطيئة: تقابل خطيبها في السر، تسرق من مال الأم، تحب شخصاً آخر غير خطيبها، تتعاطى الممنوعات، تكذب في موضوع الذهاب لمعهد تحفيظ القرآن، تكره عائلتها..

لكنها تعود لتبرئها من كل ذنب. فقط تشعر بالشفقة تجاهها، وتجاه ما حدث لها، وتفكر: ماذا لو عرفت الأخت بكل خطايا نادية، بكل أكاذيبها الملتوية، بكل هذا الاستهتار بحياة مرفهة بينما يموت الآلاف من حولها كل يوم؟ مؤكد أن الأخت ستفقد عقلها وقد تقتل نادية نتيجة عاصفة شعور العار. وحيث أن الخطيئة في حياة نادية واردة ولا مفر منها، وربما يرد القتل، تمنّت نادية من جديد لو أنها تعرف ما الذي تخبئه لها الأيام، تمنت فقط لو تعرف الحلقة الأخيرة، أما التفاصيل قلم تكن مهمة. وشاركتها وداد الأمنية.

بعدها، وخلال إحدى رحلات اكتشافات ما بعد الظهيرة، كانت الفتاتين تعبران الشارع باتجاه مدخل ضيق في الأحياء القديمة، أصلحت نادية برقعها بحركة اعتيادية، وألقت نظرة طويلة على بوابة الدكان المقابل. كانت البوابة الحديدية مسدلة للأسفل، وعليها كتابات غير مقروءة، وقد اخترقتها عشرات الرصاصات، لكأن أحدهم وجه رشاشه نحو تلك البوابة وتوقف لديها، وفي لحظة، طفت في عقل نادية الجثث التي ما زالت في ذلك الدكان، رجال منكفئون على وجوههم في المساحات الضيقة للمكان، تختلط دماءهم التي تجمدت بقناني العصير وفتات البسكويت الذي أطارته الرصاصات الممطرة، ما الذنب الذي من الممكن أن يكون قد ارتكبه هؤلاء؟ ويا ترى كم من الرجال كانوا في الجهة المقابلة، حاملين رشاشاتهم بعزيمة؟

الرجال هم الشر. فكرت..

عائلات فقيرة محشورة في الشوارع الخلفية للعالم، منسيين كأنهم لم يكونوا. ترتفع رائحة الكوليرا والجوع من حارات كتلك.. تسللت الفتاتين تحت نظرات الفتية والصبايا الفضولية، أوقفت وداد صبياً هزيلاً وسألته بحذر إن كان يعرف منزل الشيخة لطيفة.

اخترقت الفتاتان الشارع مسرعتين، وفي الحارة الضيقة عبرتا بالأطفال القذرين والفتيات اللاتي أرتدين الحجاب للتماهي مع الجمع لكنهن أبقين على فساتينهن القصيرة، العائلات الفقيرة المحشورة في الشوارع الخلفية للعالم، منسيين كأن لم يكونوا، ترتفع رائحة الكوليرا والجوع من حارات كتلك، تسللت الفتاتين تحت نظرات الفتية والصبايا الفضولية، أوقفت وداد صبياً هزيلاً وسألته بحذر إن كان يعرف منزل الشيخة لطيفة. قادهما الفتى في الحارات الضيقة، حتى وصلتا لمبنى من طابقين، ثم انحدرتا إلى الأسفل عبر درجات مظلمة. تصاعدت رائحة بخور "الجاوي"، وأصوات نساء يتحدثن. فتحت الباب امرأة في الستين ترتدي جلابية خضراء اللون ويلف رأسها منديل أحمر، افترت عن ابتسامة بأسنان مصفرة بسبب السجائر والشيشة:

- جئنا للشيخة لطيفة، قالت نادية بصوت صاف.

- آه !ّ ردت المرأة – تفضلا يا بناتي.

لم تكن شيخة، كانت امرأة أربعينية، ثقيلة النظرات، أحست نادية كما لو أنها تحت السيطرة الكاملة للمعان عينيها، لم تتحدث كثيراً، أجلستهما على حصيرة بينما أعتلت هي فرشاً مزركشاً. سألت وداد بضعة أسئلة عن جامعتها وحياتها، ولم تعر نادية أي إهتمام. أخبرتها وداد أنهن جئن ليعرفن مستقبلهن، حيث سئمن التفكير. قالت لها أنها تعرف لماذا جئن، عدلت السيدة من هيئتها ثم وجهت عينيها لوداد:

- ستتزوجين شخصا غنياً، لن تعملين، سيخونك وتخونيه، ستكونين سعيدة في المجمل ولديك أولاد، وحواليك بحر وخضرة لا أراهما في هذه المدينة، ووجوه لا أراها في هذه المدينة.

- أتمنى أنها في جزر الكناري. قهقهت وداد. لكن السيدة لم تبتسم بل التفتت بنظرة باردة لنادية قائلة:

- أنت تمشين في طريق ابنة عمك ماجدة، لن يكون لك مصيرها، لأنك تحاولين الحياد، حولك الكثير من الناس والكثير من الحكايات، أنت محاطة دوماً بالناس ولا أستطيع رؤياك واضحة، ليسوا جميعا أخياراً.

تصمت الشيخة كأنها تخفي تفاصيلاً أخرى، بينما تسأل وداد بفضول:
- من هي ماجدة؟

- هي نفسها لا تعرف.. تجيب الشيخة بدلاً عن نادية الخائفة التي قررت الرحيل دون معرفة التفاصيل.

الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة

مقالات من اليمن