تصرّفت المقاومة الفلسطينيّة بقدرٍ من المسؤولية حين أخفت أسماء العملاء الذين أعدمتهم وسط مدينة غزة يوم الجمعة الماضي (22 آب /اغسطس 2014)، فغطّت وجوههم أثناء تنفيذ الحكم لئلا تتحمل عائلاتهم عار أبنائها. هذا، على الأقل، ما قالته جهات مقرّبة من كتائب القسّام. جرى الإعدام وفقاً لقرار سياسيّ وأمنيّ، يقع الانضباط والمسؤوليّة في تنفيذه كجزء من الانضباط والمسؤوليّة في إدارة المعركة الحاليّة. يعكس ذلك حالة فيها المقاومة التي تقاتل إسرائيل هي ذاتها سيادة «الدولة» على «مواطنيها». وهو، لوجه المقارنة، نقيض الحالة في لبنان مثلاً حيث لم تُخلط الأمور، وبقي الجاسوس، رغم كل شيء، مواطناً يُحاكم أمام الدولة.
«ليس من عادتنا أن نعطي أنصاف حلول. عندنا إما أن يكون المتهم (بالعمالة) بريئاً، وإما أن يتوب، أو يُقتل. لا يمكنك أن تفرض عليه حبساً منزلياً أو ما شابه. هذه هي الظروف التي نعيش بها - من دون دولة» يقول الشيخ أحمد ياسين في العام 1993، في مقابلة من داخل سجنه، يخوض من خلالها في قضيّة إعدام العملاء.
في آذار/مارس 2004، استشهد مؤسس حركة حماس وقائدها بغارة جويّة إسرائيلية بعد خروجه من أداء صلاة الفجر. بعد سبعة شهور من الاغتيال، أعلنت كتائب عز الدين القسّام عن إعدام العميل حسن محمد مسلم الذي أدلى بمعلومات قادت لاغتيال الشيخ ياسين. من جملة ما قاله في حينه مشير المصري، المتحدث باسم حماس، إنّ الإعدام أتى «بعد أن تركت السلطة الفلسطينية مجالاً واسعاً ولم تقم بواجبها ومسؤوليّتها تجاه محاسبة العملاء وحماية الشعب والمقاومة». في مستندات أخرى نُشرت حول الأمر ، ذُكر أنّ العميل مسلم كان متورطاً بقضايا جنائيّة واعتقل لدى جهاز المباحث الفلسطينيّة في العام 2003، وخلال التحقيق، برزت حوله شبهات أمنيّة فحُوّل لجهاز الأمن الوقائيّ حيث تم التحقيق معه ثم أُطلق سراحه.
لم يكن الرأي القائل بمسؤولية «السلطة الفلسطينيّة تجاه محاسبة العملاء» وليد الانتفاضة الثانية، ولم يكن مجرّد رأي حمساوي مناهض لسلطة فتح. في العام 1992 قال فيصل الحسيني، عضو اللجنة التنفيذية لحركة فتح في حينه، في مقابلةٍ معه، إن عمليات إعدام العملاء العشوائيّة من قبل المجموعات غير الخاضعة للتنظيمات تحصل لأن «هذه المجموعات الصغيرة تعرف أن القيادة الموحّدة لم تصدر تعليمات لعقاب العملاء، لذلك فقد تحملوا هذه المسؤوليّة بأنفسهم. كان على القيادة الموحدة أن تجري تحقيقات، وتقول إن فلان فعل هذا وذاك، وعليه فإنه يعاقب بهذا الشكل أو غيره، لكنها لم تفعل ذلك».
سؤال السُلطة والسيادة هو المطروح دائماً في قضيّة العملاء. ليس في إعدامهم كمعضلة قانونيّة وأخلاقيّة فقط، بل في إمكانيّة العدوّ على تجنيدهم أيضاً، وكذلك في توجّهات الفصائل بشأن العمالة وأساليب الوقاية منها. وهي توجّهات غير مفصولة عن الأجندة الاجتماعيّة وأولويّات المرحلة لدى كل من الفصائل المتصارعة على النفوذ والسلطة. على سبيل المثال لا الحصر: التركيز بشدّة على الإسقاط بواسطة الجنس من دون غيره مع نمو حركات المقاومة الإسلامية.
هزيمة 1967: الفترة الذهبيّة!
خضع المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة بعد العام 1967 للحكم العسكري الإسرائيلي الذي قبض على كل مفاصل حياة الفلسطيني. وعلى الرغم من «ضمّ» المناطق، فإن السبب / الفارق الوحيد الذي حال دون أن تصبح رام الله وغزّة من «مدن إسرائيل»، أن الحكومة الإسرائيليّة قررت الامتناع عن فرض المواطنة على أهالي الضفّة وغزّة كما فعلت مع فلسطينيي الداخل، وذلك من منطلق الخشيّة الديموغرافيّة بالأساس، لكن أيضاً لعدم تقييد النشاط الأمني لإسرائيل في هذه المناطق بالمنظومة القانونيّة المدنيّة. غير ذلك، كانت الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة تحت سيطرة إسرائيليّة كاملة نتجت عنها إمكانيّة واسعة لتجنيد العملاء. «الفترة الذهبيّة» كما تسمّيها قيادات استخباريّة إسرائيليّة سابقة.
منذ هزيمة 1967 وحتّى الانتفاضة الأولى في العام 1987، لم يقتصر دور العملاء أبداً على ما نعرفه اليوم من عمل استخباريّ سريّ. كانت الحالة أوسع من ذلك بكثير، والاختلاف الأهمّ فيها كان اشتغال جزء من هؤلاء بالعلن. وإن كنّا اليوم نتحدّث عن إسقاط شبّان وشابّات فلسطينيين في أيدي المخابرات الإسرائيلية، وعن ابتزاز أو استغلال لظروف حياتيّة صعبة من أجل تجنيدهم لجهاز «الشاباك» الاستخباريّ الإسرائيليّ الناشط في الداخل، وفي الضفة وغزّة، فإن سنوات ما بعد الهزيمة شهدت مبادرة للانضمام لهذا الجهاز من قبل فلسطينيين من أجل الوصول إلى نفوذ وسلطة وقوّة، بينما تسيطر إسرائيل على كل جوانب الحياة، هذا بالإضافة إلى كون العلاقة مع الأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة كانت مصدر ربحٍ يدر على العملاء أموالاً طائلة، ليس من قِبل الجهاز، بل نتيجة التجارة بالخدمات التي يستطيع العميل توفيرها لمن يحتاجها.
كان هذا بالأساس عمل من يسمّون بالوسطاء. باعوا للناس تصريح السفر إلى الأردن في العام 1993 مثلاً بمبلغ 300 دولار أميركي، رخصة بناء في منطقة سكنيّة بألف دولار، وألفيّ دولار في منطقة غير سكنيّة (كأنّ الإسرائيلي قلق على معمار البلد).أما تصريح للمّ شمل العائلات الفلسطينيّة فكان يكلّف حتّى 10 آلاف دولار.
هؤلاء الوسطاء هم نوع من العملاء المعروفين للجميع، الذين تربطهم علاقة بالإسرائيليين وبموظّفي مؤسسات الإدارة المدنيّة (عبر مسؤوليهم في المخابرات) بشكل علنيّ. والوسطاء ينضمّون إلى أنواع أخرى من المتعاونين، غير العملاء الاستخباراتيين السريين، مثل السماسرة الذين تركز عملهم على بيع الأراضي العربيّة للمؤسسات الحكومية الإسرائيليّة، أو قبل النكبة للمنظمة اليهوديّة أو حتى لأفراد يهود، وكذلك «العصافير»، وهم العملاء في السجون الذين تتركز مهامهم على استنطاق المعتقلين أثناء فترة التحقيق وانتزاع الاعترافات منهم... وأيضاً هناك من حسم الموقف منهم باعتبارهم عملاء بعد اشتعال الانتفاضة الأولى وإعلان المطلب الشعبي بلفظ كل المؤسسات الاسرائيلية والاستقالة منها. في حينه، كل من رفض الاستقالة من موظفين فلسطينيين في الإدارة المدنية الإسرائيليّة، كموظفي المجالس القرويّة المعيّنة من قبل الحاكم العسكريّ، ورجال الشرطة، اعتبرهم المجتمع الفلسطيني عملاء. يُضاف إليهم العملاء من القيادة التقليديّة القبليّة (المخاتير) وتسييس العمالة في أواخر السبعينيات عبر تأسيس «روابط القرى» كجسم سياسيّ مناهض لمنظمة التحرير.
الانتفاضة الأولى وانهيار السيادة
شكّلت بداية الانتفاضة الأولى مرحلة مفصليّة في ما يتعلّق بملاحقة العملاء وإعدامهم. سجّلت أحداثها في أذهان جيل كامل عاصرها بالشعارات السياسيّة وبالأغنية الثوريّة التي ظهرت حينها، وبعضها سجّل تفاصيل الإعدامات، مثل قصة إعدام جاسوس إسرائيلي اسمه محمد العايد في بلدة قباطية شمال الضفّة عام 1988 وتعليقه لأيام على عمود كهرباء. منذ العام 1987 وحتى نهاية 1993، أي سنوات الانتفاضة الأولى، قُتل في الضفّة وغزّة 942 فلسطينياً بتهمة العمالة. وبحسب المصادر الإسرائيليّة، فإن 40 في المئة منهم فقط كان لهم علاقة بمؤسسات إسرائيليّة. لوجه المقارنة، نذكر أن عدد شهداء الانتفاضة الأولى الذين قتلتهم إسرائيل كان 1300 شهيد.
بالمقابل، ولوجه المقارنة أيضاً، ارتقى بالانتفاضة الثانية أكثر من 4 آلاف شهيد، بينما يُقدر عدد من قتلوا على خلفية اتهامهم بالعمالة بين 200 و400 قتيل... وذلك رغم تسليح الانتفاضة الثانية، وتطور العمل الأمني بمفهومه العسكري، وزيادة دور العملاء فيما يتعلّق بالاغتيالات. إنْ حاولنا الإشارة إلى سببين أساسيين لتقليص هذا العدد، نجد انتقال الإدارة المدنيّة ليد سلطة أوسلو خلال التسعينيّات، مما قلص الارتباط المباشر بالإسرائيلي وقلّص إلى حدٍ كبير، بناءً على ما انتجته الانتفاضة الثانية، ظاهرة العملاء العلنيين، وقامت أجهزة الأمن الإسرائيليّة بالتركيز على العملاء الاستخباراتيين السريين المنخرطين بالعمل التنظيمي والعسكري السري أكثر منه بالحياة الاجتماعيّة والنضال الشعبي. أما السبب الآخر، فالغياب شبه التام لكل ما هو خارج الهرميّة الفصائليّة القائمة.
الأسئلة المطروحة، وما وراءها
التاريخ الفلسطيني بوسعه أن يقدّم دروساً في أهميّة الحذر الشديد في ملفّ العملاء وإعدامهم: تاريخ الاغتيالات المتبادلة تحت تهم العمالة إبان الثورة الفلسطينيّة الكبرى، وتاريخ الإعدامات المتبادلة بين الفصائل بتهم العمالة مع نهاية الانتفاضة الأولى، والتي غطّت كذلك عشرات جرائم قتل لنساء تحت الادِّعاء الذكوريّ النتن «الحفاظ على النسيج الاجتماعي»، وصراعات حمائليّة وغيرها، وبعضها تمّ حتّى بأيدٍ إسرائيليّة، حيث نفذت وحدات «المستعربين» الإسرائيليّة نهاية الثمانينيّات عمليات اغتيال بحق فلسطينيين ظهرت وكأنها إعدام لعملاء. بعض القيادات الفلسطينيّة اعترفت لاحقاً أنهم لم يكونوا على دراية بظاهرة المستعربين إطلاقاً.
في النقاش المحتدم حول إعدام العملاء اليوم في غزة، يغيب السؤال عن مهنيّة المحاكم الثوريّة التي أصدرت القرار. بل إن معظم الجهات المعادية لحماس تجاهلت كلياً صدور قرار من القضاء الثوريّ بإعدام 18 عميلاً. لكن ما يظهر بجديّة في النقاش هو الخلاف بين من يطالب بالمحاكمة العادلة للعملاء من منطلقات القانون الدولي (الجافّ)، وبين من يطالب بإعطاء المقاومة (باعتبارها سيادةً قائمة في غزّة) شرعيّة قانونيّة لتحقيق العدالة بحقّ من شاركوا بقتل المئات.
وجذر هذا الخلاف، لو بحثنا، نجده في عقودٍ طويلة اجتهدت خلالها منظمة التحرير ثم سلطة أوسلو لتحصيل اعتراف العالم الغربي بها. في العام 1989، كانت منظمة التحرير قد توجّهت للصليب الأحمر والخارجية السويسريّة للانضمام إلى مواثيق جنيف (كان المؤتمر الوطني الافريقي قد سبقها بتسع سنوات) تحصيلاً للشرعيّة الدوليّة، ورُفضت، ومع هذا فقد خضعت المنظمة لمعايير دوليّة كثيرة، من ضمنها التنازل عن دورها المباشر في تطهير الضفّة وغزّة من العملاء، كما تنازلت إجمالاً (والانتفاضة الثانية هي الاستثناء) عن المقاومة كأداة لتحقيق العدالة.
بالنسبة لشرائح واسعة من الشعب الفلسطينيّ، قبل القانون الدوليّ وقبل جنيف وروما، كل موقف وحديث عن العدالة ينطلق من ظاهر البنود القانونيّة الجافة، لا من مبدأ أن مقاومة الاحتلال والدفاع عن الحياة والحرية والكرامة هي جوهر حسّ العدالة والإنسانيّة، إنما هو موقف يُراد به تكبيل المقاومة لا تحقيق العدل. وهو موقف يظهر متبجحاً مقيتاً في ظل جهاز إسرائيلي وحشيّ مهول مبني بشكل مطلق على الاعتقالات الإداريّة، والملفات السريّة، والتعذيب، وقطع التواصل عن العالم الخارجي، وعرقلة كل الإجراءات القضائيّة بحق عشرات الآلاف، ومنهم آلاف الأطفال.
أما نقاش سيادة المقاومة، وصحة عمل القضاء الثوري، وإمكانيّة انزلاق الإعدامات في سنوات قادمة إلى أجندات حزبيّة واجتماعيّة، خاصّة على غرار ما نفّذته الفصائل الإسلاميّة (بالأساس، وليس فقط) في عقودٍ ماضية، خاصةً أن الإعدام يتم بمرجعيّة دينيّة قبل كل شيء.. فهو سؤال آخر. وهو سؤال يحتاج شجاعة ليُسأل في زمن الحرب الذي نسكت فيه عن أمورٍ كثيرة. ومع هذا، يجب أن يُسأل.