كأنّهم صورة مصغّرة عن الأجواء السياسيّة في الوطن العربيّ عامةً، يهرع الفلسطينيّون داخل الأراضي المحتلّة العام 1948 إلى التنكّر من عشرات الشبّان، وهم فلسطينيّون يحملون المواطنة الإسرائيليّة، الذين انتسبوا لتنظيم «دولة الإسلام في العراق والشام». نحو 50 شاباً يقاتلون في سوريا بالأساس، إضافةً إلى غيرهم ممن تمّ اعتقالهم داخل إسرائيل بشبهة المساهمة في التنظيم. ضمن هؤلاء من انضمّ مباشرةً إلى «داعش»، ومنهم من انتهى به المطاف فيه بعد تنقّل بين فصائل السلفيّة الجهاديّة، عقب وصوله إلى سوريا عن طريق تركيّا.
مجتمع برمّته يتسابق لإعلان البراءة من شباب كبروا معنا، في حاراتنا وقرانا ومدارسنا.. نتسلّح بالمبالغة في توصيف «شذوذ» ممارسات داعش، نحاول أن نرسم ملامح هؤلاء الشبّان باعتبارهم شواذّ عن الوضع الاجتماعي السائد، حتّى يذهب الكثيرون إلى رفع ادعاء سيكولوجي، يتّهمهم من خلاله بالتخلف العقليّ والجنون، وأن «شيئاً ما أصابهم فجأة في عقلهم»، وكأن شخصيّات انفصمت في صباح أحد الأيّام. يظهر الادعاء السيكولوجي بائساً إذ أنه يتنصّل من طرح الأسئلة الفكريّة المُلحّة بالنسبة للسلفيّة الجهاديّة، ومن طرح الأسئلة السياسيّة الملحّة حول إمكانيّة المجتمعات العربية على مجابهة هذه الظاهرة بشكلٍ لا ينتقص من كرامتنا الوطنيّة - مثل التصفيق للطائرات الأميركيّة بهذا الشكل المخزي.
إنما هناك تفسيرات أخرى تقع في المشكلة ذاتها، حتى وإن كانت تتفوّق من حيث علميّتها على اتهامات الشبّان بالجنون، كالادعاء الاجتماعي الذي يتخذ الفقر والبؤس وانسداد الإمكانيّات بوجه الشباب، دافعاً فردياً مباشراً للخروج إلى الجهاد، وليس كحالة اجتماعية تؤدّي إلى الانكماش نحو المحافظة، وبالتالي تطبيع وجود الأصولية التكفيرية.
من دون أن نهمل الفرق المبدئي الهائل بين الفدائيين الاستشهاديين المقاومين للاحتلال وبين التكفيريين، نتذكّر ملامح النقاش الإسرائيلي الذي انجرّ وراءه الكثير من العرب حول العمليّات الاستشهاديّة: محاولة تشبيه الاستشهادي بمن يعيش بائساً مأزوماً فيبحث في موته عن مخرج، مما لا يصلح في الجدل السياسيّ الذي يسعى لفهم الأمور ومواجهتها. وهو ادعاء توصّلت إلى تفنيده البحوث الأكاديميّة في مجال دراسة «الإرهاب» (وضمنها دراسة «بروفايل الإرهابي») التي ازدهرت في الجامعات الأميركيّة خاصةً بعد هجمات «11 سبتمبر».
تأرجح بين الدولة اليهوديّة ودولة الإسلام
عبر مثل هذه التحليلات نهرب من مواجهة أزمة سياسيّة بنيويّة في المجتمع الفلسطيني: حياتنا السياسيّة التي امتنعت طويلاً عن الخوض في أسئلة وخلافات حول منهجيّات اجتماعيّة تفاقمت في العقود الأخيرة، وتم تجاهلها لمصلحة النضال ضد الاحتلال و«الحفاظ على النسيج الاجتماعي»، والأخير هو لفظ مرادف لرغبة الأحزاب والفصائل بالإمساك بالتأييد الجماهيري من خلال الحفاظ على البنية الاجتماعيّة القمعيّة القائمة.
الحالة السياسيّة التي سمحت بنشوء هذه الأزمة البنيويّة ونتج عنها لاحقاً ظهور السلفيّة الجهاديّة في الداخل، هي حالة سياسيّة عامّة تحركت غالباً في قلب محور مشدود بين قطبين.
القطب الأوّل: الحاجة الاقتصاديّة والحياتيّة المرتبطة بالسلطة الإسرائيليّة التي تسيطر وتخنق كل مناحي الحياة، وتهيمن على المجتمع وتخضعه لشروطها. والثاني: هاجس الحفاظ على الهويّة تحت الاحتلال، من دون غربلة ما تحمله من تراث مُشبع بالأبويّة، وبالتالي تمسّك بتقاليد يقع التديّن في مركزها. هذه هي الحالة العامّة. أما عينياً فقد ظهرت بوادر السلفيّة الجهاديّة في اللحظة التاريخيّة التي حسمت بها الحركة الإسلاميّة التابعة للإخوان المسلمين، بقيادة الشيخ رائد صلاح، مكانها على الخارطة السياسيّة، كقوّة تخشاها الأحزاب الفلسطينيّة، شيوعيّة وليبراليّة على حدٍ سواء، وتنظيم غير قابل للزعزعة.
تنكّرت هذه الحركة الإسلاميّة، مثل الجميع، من «داعش» والمنتمين له. لكن ما لا تستطيع الحركة التنصّل منه، هو أن هؤلاء هم منتوج لصيرورة تحوّل فكري وُلد من رحمها بعد أن ثبتت مكانتها واتسعت رقعتها لتتحمل الاختلافات الداخليّة والتناقضات في ما بينها.
ومثلما احتملت الحركة الإسلاميّة (وسمحت الحاجة والوضع الاقتصادي من حيث الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي) نشوء تيّار إسلامي داخلها يتجه نحو «قوانين اللعبة» الإسرائيليّة، فيطالب بدخول البرلمان الإسرائيلي والتصالح مع الأدوات القضائية والتشريعيّة الاستعمارية، احتملت كذلك، وفي الاتجاه الآخر، تيّاراً يلفظ أي التزام تجاه «اللعبة الواقعيّة السياسيّة»، ويُمعن في أصوليّته ويتلحف برجعيّته. يقاتل في سوريا مُعلناً أنه «لن يعود إلى القدس إلا فاتحاً»، بحسب ما يقوله أبو مصعب الصفّوري.
من مدينة البشارة إلى دولة الإسلام
أبو مصعب الصفّوري هو ربيع شحادة، أحد المقاتلين في صفوف تنظيم داعش في سوريا. أطلق على نفسه الصفوري، نسبةً إلى صفّورية التي هجّرت عائلته منها. ترك ربيع زوجته وعائلته في مدينة البشارة، الناصرة، وانطلق للجهاد في محافظة حلب. كُشف الأمر لأول مرّة بداية العام 2014، لكنّ القصة عادت وانتشرت كالنار في الهشيم بعد أن قابلت الصحافة الإسرائيليّة أحد أقربائه الذي أنكر بحرقةٍ أن يكون ربيع قد دعم الإجرام. فكّروا في المشهد: يقف إنسان فلسطيني أمام كاميرا الصحافة الإسرائيليّة التي كانت في الأمس تصفّق لأبشع جرائم العصر في غزّة، ويتوسّلها أن تصدّق أن قريبه «بحياته لم يمسّ بالآخرين».
لم يأت ربيع من انسداد للإمكانات. كان طالباً متفوّقاً بمجال هندسة المكانات في إحدى كليّات الجليل، وهو لا يرى نفسه مجرماً. يقول الصفّوري في مقابلة لصحيفة فلسطينية أن تنظيمه «مظلوم، يُتهم بالعمالة والتطرّف لأن منهجه نبويّ. النصارى في الرقة يعيشون بسلامٍ وأمان. أما المجموعات المتطرفة فلا علاقة لنا بها. ومن يرى غير ذلك فليأتنا بدليل، وها هي محاكمنا الشرعية جاهزة. أحداً لا يمس بالمسيحيّين. أكاذيب وألاعيب ملفّقة».
في تسجيل مصوّر آخر يقرأ ربيع، عن ورقة، وهو يجلس متربّعاً خلفه علم داعش وبارودة مسنودة للحائط من نوع كلاشنكوف. ويتحدّث عمّن يحاولون منع الشباب من الخروج إلى الجهاد: «إحذر أخي أن يصدّوك ويمنعوك هؤلاء الأعداء الذين تخفوا بلباس الأهل والأصدقاء عن فريضة الجهاد»، ثم يتلو آية من القرآن: «يا أيّها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم (ينظر ربيع إلى الورقة ليتأكّد) عدوّاً لكم فاحذروهم. صدق الله العظيم». قبلها قال ربيع أموراً لم أفهمها عن جلسة بين شياطين الأنس وشياطين الجنّ، أموراً غريبة، لكنّها تبدو واقعية أكثر مما قاله في المقابلة عن أن المسيحيين يعيشون بأمان تحت حكم داعش.
غرباء.. غرباء..
هذه اللهجة التي يتحدث بها ربيع، والتي بحسبهم تصوّر وقوف المجاهد وحيداً مع خياره الروحانيّ بالجهاد ضد عالم مادي بأسره يحاول وصفه بالجنون، مألوفة عند السلفيين الجهاديين، لكنها تعبّر عنّا أيضاً مثلما تعبّر عنهم. إذ نرفض التعامل بعقلانيّة مع الظاهرة ووضعها في سياق تاريخي وسياسي (من أجل مقاومتها)، ونحطّ من المنتمين إليها بدلاً من التصارع معهم بنديّة.
هذا التبرّؤ الذي يفصلهم عن المجتمع بدلاً من التنازع معهم من دون هوادة ضمن التناقضات الداخليّة في مجتمعاتنا، ينجب من رحمه شخصيّة «الغرباء» التي يتبنّاها السلفيّون الجهاديّون بدورهم: «غرباء وارتضيناها شعاراً للحياة، غرباء هكذا الأحرار في دنيا العبيد»، يقول أحد أشهر أناشيدهم الذي يعتمد حديثاً نبوياً: «طوبى للغرباء أناس صالحون قليل في ناس سوء كثير».
هم غرباء بالأساس عن العيش مع تناقضات الوضع القائم داخل الأرض المحتلّة تحت سطوة الصهيونيّة. غرباء عن المشي بحذر بين طرفي المحور، مثلما يفعل المجتمع بأغلبية شرائحه الساحقة. غرباء، يُطلقون النار على محال لبيع الخمور (منذ العام 2008، قبل أن نحلم بداعش). غرباء يطالبون بإقامة الخلافة ضمن مجتمعٍ يبحث عن الحريّة والعدالة والديموقراطيّة بالتخلّص من الاستعمار الصهيوني. غرباء يقطعون سوق الناصرة الذي تُفتتح فيه الحانات والمقاهي واحدة تلو الأخرى، مطلقين شعورهم ولحاهم بهيئةٍ سلفيّة مكتملة الاكسسوارات.
كائنات فضائيّة من كوكب التاريخ
قيل لنا إن الأيديولوجيا انتهت. إنْ لا مجال في أيامنا ليظهر من يعيد تعريف الفضيلة وتعريف الإنسان وسعادته. وإن لا مجال لتتحوّل هذه التعريفات الجديدة إلى مشروعٍ سياسيّ يشكّل الدولة والنظام. وقيل إن التاريخ انتهى. نحن صدّقنا. والآن، يصعب علينا أن نواجه الأيديولوجيا التكفيريّة المقيتة السوداء. نهرب لننزع عن المنتمين إلى تنظيم سياسيّ (يرتكب جرائم طبعاً) صفاته الإنسانيّة، من دون أن ننزع الصفات الإنسانيّة عمن ارتكبوا مجازر أبشع من داعش بكثير في جميع أصقاع الأرض، بل يتحوّلون إلى حماة الوطن العربيّ أمام داعش.
يجري الحديث والنقاش السياسيّ عن داعش كأننا نتحدث عن كائنات غريبة، كأنه فيلم خيال علمي أميركي يجتمع فيه العالم أجمع (بالأحرى، يجتمع مجرمو العالم أجمع) ضد غزو كائنات من كوكب آخر. وهذا الكوكب، كما يُراد لنا أن نعرّفه، هو كوكب التاريخ. فيستخدمون عبارات مثل أن «داعش» «أتوا من التاريخ» أو «لا زالوا يعيشون في التاريخ وما قبل التاريخ».
نعم، هناك مشكلة جديّة مع مَن بقي يعيش في التاريخ من دون أن يتقبّل الحاضر بتعدديته وكليّته. ولكن هناك مشكلة جديّة أخرى، أكبر بكثير، مع مَن يحاول أن يعيش وكأن التاريخ قد انتهى وانفصل عن كوكبنا، وأن الإنسان الأبيض الأخير قد أرسى أسمى مراحل التحضّر وانتهينا، وطلّقنا التاريخ وما يحمله لنا من مصائب وثروات على حدٍ سواء. هكذا، عبر هذه التفسيرات، ينتهي الكثيرون لتبرير أمور مروّعة، منها الغزو الأميركي والتعاون مع إسرائيل ضد «داعش». وهكذا نتنازل عن دورنا في أن نكون نهضويين ضد «داعش»، وأن نبقى على رفضنا لعرّاب التاريخ الأميركي.