الاقصى رمق المدينة الأخير

يتجادل الزمان والمكان على دورهما في التاريخ. إن اتسعت رقعة الأحداث الجغرافيّة، يُصبح المكان فضفاضاً بينما يثبّت الزمان بصمته يوماً وعاماً وقرناً. بالمقابل، كلّما مرّ الزمان بعواصفه على وجه مكانٍ واحدٍ، يشحذ هذا المكان مكانته في قلب التاريخ. القضيّة الفلسطينيّة ملأى بصورٍ حادّة للأماكن، حيث ان بيروت أو غزّة ليستا اسمين لمدينتين بقدر ما هما عنوانان لفصولٍ في كتاب تاريخ فلسطين. ولا يُفترض
2014-11-26

مجد كيّال

كاتب فلسطيني من حيفا


شارك

يتجادل الزمان والمكان على دورهما في التاريخ. إن اتسعت رقعة الأحداث الجغرافيّة، يُصبح المكان فضفاضاً بينما يثبّت الزمان بصمته يوماً وعاماً وقرناً. بالمقابل، كلّما مرّ الزمان بعواصفه على وجه مكانٍ واحدٍ، يشحذ هذا المكان مكانته في قلب التاريخ. القضيّة الفلسطينيّة ملأى بصورٍ حادّة للأماكن، حيث ان بيروت أو غزّة ليستا اسمين لمدينتين بقدر ما هما عنوانان لفصولٍ في كتاب تاريخ فلسطين. ولا يُفترض بعبء المكان هذا أنْ يفاجئ إن تذكّرنا أن قضيّتنا، في نهاية المطاف، هي صراع على الأرض. هذه الملاحظة لا بدّ من أن تكون نقطة الانطلاق حين نكتب عن القدس – المدينة التي تحوّلت إلى الفصل الأكثر جوهريّة في قصّة فلسطين.

 القُدس بوّابة الضفّة الغربيّة، خاصرتها الناعمة التي تستطيع إذا ما شددْت عليها بإصبعيك أن تقطع جنوب الضفّة (من بيت لحم إلى الخليل) عن شمالها (من رام الله إلى جِنين مروراً بنابلس). وهذه البوابة الجغرافيّة بين الأراضي المحتلّة عام 1948 وتلك المحتلّة عام 1967، هي كذلك بوابة انتقال الحدث السياسي من الصراع على حدود دولة الهزيمة، إلى الصراع على وجود الاستعمار على أرض فلسطين الكاملة كسلطةٍ جوهرها القهر. من جهة الإسرائيليين، فقد وصل شأن الدولة الفلسطينيّة، على أرض الواقع، إلى نهايته، وهم يعلمون، كما نعلم نحن، أن كل الخطوات الدبلوماسيّة التي اتخذتها القيادة الفلسطينية بشكلٍ "أحادي الجانب"، إنما هي سير مستقل في غرفةٍ وضع جدرانها الإسرائيليّون. وبقيت القدس، منفذ النضال الوحيد الذي يمكن أن يخترق منه غرفة هزيمة 1967 الاسمنتيّة، ويعود إلى الأرض كلّها.

عزل الديني عن المدني

عربياً، طُرح نقاش جدّي وحاد على اثر العملية التي نفّذها غسّان وعُديّ أبو جمل بسبب استهدافها كنيسا يهوديّا. ومن دون التوقّف عند وجهات النظر، حتّى تلك المستفزّة، فأهميّة النقاش نابعة بالأساس من أن هذا الحدث ليس عادياً، ويجب ألا يكون، كما هو ليس بعاديّ تدمير 203 مساجد خلال أقلّ من شهرين في غزّة، ولا كما كان عادياً اغتيال الشيخ أحمد ياسين على باب المسجد بعد خروجه من صلاة الفجر. لكنّ اشكاليّة النقاش في ارتكازه على ثنائيّة ديني/غير ديني واعتماده على نموذج غربيّ حديث يُعزل فيه الدينيّ عن المدني، متجاهلاً تمحور الحياة المدنيّة في حالة القدس حول اللاهوتي. واختلاط السياسي بالديني في القدس هو وليد الظروف الموضوعيّة للمدينة، وليس شأن صعود التديّن والأحزاب الدينيّة فقط.

 وينتمي النقاش حول العمليّة إلى نقاش أقدم حول مكانة المسجد الأقصى في القضيّة الفلسطينيّة، وإن كان التركيز في النضال لأجل الأقصى يحوّل القضيّة الفلسطينيّة إلى قضيّة دينيّة، ولماذا يستفز دخول مستوطن إلى الأقصى مشاعر الناس فيخرجوا إلى الشوارع بينما يسود الصمت إزاء أفعال المستوطنين في الخليل أو استيلائهم على عكّا؟ هذه الأسئلة، التي تُطرح من وجهة نظر وطنيّة علمانيّة، هي ضروريّة، ولكن محاولة الإجابة عنها بادعاء رمزيّة الأقصى فقط هي محاولة غير ناضجة ولا تفي بتسوية التناقضات في المواقف حول هوية القضيّة. الحقيقة، أن للأقصى والحرم الشريف أهميّة بالغة على الجغرافيا أولاً، من حيث المسعى الإسرائيلي لتقسيم المدينة، وأهمية اجتماعيّة من حيث كونه محركاً للحركة الاقتصاديّة في البلدة القديمة.

تعاطي آخر فُتات المدينة

تبلغ مساحة الحرم القدسيّ الشريف 15 دونماً تقريباً، وهو يشكّل خُمس مساحة القدس العتيقة المحاطة بالأسوار. الحرم صدر البلدة القديمة، منه وإليه تُرفد حركة الناس في السوق المحيط الذي تعيش من رزقه آلاف العائلات المقدسيّة وتتركّز فيه الحركة الاقتصاديّة والاجتماعيّة وحركة السياحة، بما في ذلك حجّاج كنيسة القيامة. أي ان الحرم يشغل إلى حد كبير محرّك حياة المدينة في البلدة القديمة.

 بالمقابل، يعيش في القدس أكثر من 350 ألف فلسطينيّ موزّعين في أشلاء القدس على قرى وأحياء تحوّلت جرّاء خنقها، ومصادرة أرضها، وشقّ الشوارع حولها وعبرها، وانعدام أي تخطيط لمصلحتها.. إلى غيتوهات فقر وبؤس تضربها الجريمة والعصبيّة المحليّة وغيرها من آفات التفقير. 75 في المئة من سكّان القدس تحت خطّ الفقر، 85 في المئة من أطفال القدس تحت خطّ الفقر. وهؤلاء المخنوقون في قراهم المحاصرة التي فقدت أي إمكانيّة للتطوّر، وتكدّست بيوتهم فوق بعضها من دون إمكانيّة نشوء أي حيّز مدنيّ اقتصاديّ، لم يبق لهم غير البلدة القديمة التي يسكنها أقل من 10 في المئة من فلسطينيي القدس. الصلاة في المسجد الأقصى، وهذه حقيقة لا مفرّ منها، هي السبب الماديّ الوحيد الذي لا يزال يدفع عشرات آلاف المقدسيين للخروج من أحياء الفقر المحاصرة للتواجد داخل الأسوار وتعاطي آخر فُتات المدينة.

عملاق القُدس الأكبر

لا يُطرح الاستيلاء على الحرم الشريف وحده، لكنّه يأتي في سياق سيطرة صهيونيّة منفلتة على الأملاك في القدس، خاصةً في البلدة القديمة ومحيطها. لا يبخل الإسرائيليّون بأي من أساليب السيطرة: أخذ البيوت بقوّة السلاح، تزوير المستندات، واستخدام السماسرة العملاء. وضع السيطرة على الحرم، حتى لو كان ذلك باقتطاع وقت محدد لليهود وآخر للمسلمين، في سياق استيطاني أوسع للقدس يجعلنا نرى الصورة واضحة: تحويل البلدة القديمة من فضاء مدني عربي إلى فضاء فيه حركة متوازنة بين العرب واليهود توفّر حجّة أمنيّة لتقسيم البلدة القديمة وتطبيق فصل قومي واضح فيها بالأوقات والمناطق والطرقات. لماذا؟ ليس الأمر محاولة لتهويد التاريخ فقط، ولا هو شأن ديني فحسب، لكنّها حاجة تخطيطيّة عنصريّة ماسّة تتثبّت بفضلها الرؤية الصهيونيّة للمنطقة. حاجة اسمها: توحيد القدس.

 حين يقول الإسرائيليّون "توحيد القدس"، فالتطبيق الفعلي لذلك هو جعل كل المستوطنات اليهوديّة المحيطة بجميع أطراف القدس، غربيّة كانت أم شرقيّة، امتداداً جغرافياً يهودياً واحداً تحت سلطة إسرائيليّة واحدة. ولهذا، فإن الجزء الأكبر من التجمّعات العربيّة في "القدس الموحّدة" يتم ابتلاعها مجزّأة ومفصولةً ومحصورة داخل عملاق "القدس الكبرى"، بينما تبقى بعض التجمّعات العربيّة الأخرى خارج منطقة نفوذ المدينة بما يضمن ألاّ يتعدى الفلسطينيّون في المدينة نسبة 30 في المئة من سكّانها. وصَل الإسرائيليّون المستوطنات ببعضها البعض عبر مركز المدينة ضمن رؤية "القدس الكبرى"، فعلوا هذا أولاً عبر شبكة شوارع صادرت ما تبقّى من أراضٍ عربيّة، ثمّ عبر مشروع القطار الخفيف الذي يفي بالغرض ذاته. ولعلّ الميّز الأهم الذي شهدته القدس على اثر استشهاد الفتى محمد أبو خضير حرقاً، كان قطع الشبّان في منطقة شعفاط سكّة القطار الخفيف، وقد أخرجت تلك الخطوة السلطات الإسرائيليّة عن طورها، لما تحمله من أبعادٍ تخطيطيّة سياسيّة.

الملك داوود مرّ من هنا..

أسلوب آخر، ولعله الأكثر استخداماً، في تقطيع أوصال التجمّعات العربيّة في القدس هو ما يسمّى "الحدائق القوميّة"، وهي مساحات شاسعة من المتنزّهات التي يشيّدها الإسرائيليّون بكميّات ومساحات لا تمت للمنطق بصلة، وهي بالمناسبة تشبه بشكلٍ كبير تشييد الغابات، وهو أسلوب يستخدمه الإسرائيليّون في النقب. مثلاً، لدينا "الحديقة القوميّة" التي تطوّق أسوار البلدة القديمة وتصادر 1,100 دونم من وادي الجوز والشيخ جرّاح وكذلك مناطق سكنيّة من حيّ سلوان، ما يعني أن بيوتاً سيتم هدمها من أجل إقامة متنزّه. ومتنزّه آخر ستتم إقامته على 730 دونماً من أراضي العيساويّة والطور، لأن الرواية تقول ان الملك داوود قد مرّ من هناك.

ما علاقة ذلك بالمسجد الأقصى؟ انه العصب الأساسيّ للسيطرة على البلدة القديمة وتهويدها. ولماذا البلدة القديمة بالذات؟ لأنّ طرح "القدس الموحدة الكبرى" يُعرّف مساحة القدس على أنها دائرة نصف قطرها 20 كيلومتراً، ويكون مركزها البلدة القديمة، والأخيرة هي نقطة الوصل والربط بين التجمّعات الفلسطينيّة في المدينة من رأس العمود وسلوان جنوب البلدة القديمة والشيخ جراح ووادي الجوز والعيساويّة شمالها.

 إن الفارق الذي يشغله الحرم القدسيّ الشريف كعصب مركزيّ في البلدة القديمة هو أنه يضيف بعداً آخراً للصراع في القدس، وهو الصراع على الحيّز المدني الشرقيّ الذي يشغل فيه "الحرم" الدينيّ محوراً مادياً يتحرّك حوله المجتمع، مقابل رغبة إسرائيليّة في بناء مدينة حديثة نقيّة من العرب يكون مركزها التاريخيّ في البلدة القديمة متحفاً ميّتاً يروي تاريخاً مزيّفاً لمدينة يهوديّة موحّدة وكبرى.

بوابة الانتقال من "الدولة" إلى الحقّ

إن فهم مكانة المسجد الأقصى المدنيّة بالنسبة للقدس، وأهميّة القدس كمدينة وفصل تاريخيّ في القضيّة الفلسطينيّة، هو الأداة لحل التناقض بين الديني والعلماني في النضال الفلسطيني.. وجرأة تمسّك العلمانيين بدورهم في القدس. هذا ما يقودنا إليه نقاش عمليّة الكنيس، حين رأينا أن الشبّان المنفّذين ينتمون إلى الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين.

 لقد حطّم الإسرائيليّون كل تنظيم سياسيّ رأى النور في القدس، رفضوا أي وجود حتّى للسلطة الوطنيّة، أغلقوا المراكز الثقافيّة والنوادي، ضربوا بيدٍ من حديد وسحقوا جهاز التعليم ليحرموا الشباب من العلم والثقافة. هكذا، ظنّ الصهاينة أنهم يستطيعون القضاء على نضال المقدسيين من أجل حياة كريمة على أرضهم كاملة. لم يفهموا بعد، ويبدو أنهم لن يفهموا ـ فالغباء صفة تلازم انعدام الأخلاق ـ أن ضرب التنظيم السياسيّ لن يؤدّي إلا لأشكالٍ جديدة من المقاومة تلفظ الهرميّة ويكون الفرد فيها سيّد نفسه وقراره، فتعجز أجهزة المخابرات عن تتبعه، ويُصبح السلاح بمتناول ايدي الجميع: سكيناً أو فأساً أو سيّارة. وإن حرمان الناس من الثقافة لن يمكّنهم من تجاهل الظلم والبؤس والاحتلال، لكنّ مبادئ القانون الدولي الإنساني قد لا تصلهم وسيكون "المدنيّ" والعسكريّ واحدا بالنسبة لهم. هل يستمرّ الاشتباك؟ هو لم يتوقّف أبداً منذ احتلال القدس، لكنه يخفت ويعلو، المجتمع وحده يحدد مقدرته على الصمود، ويحدد بالتالي وتيرة الاشتباك.

 القدس بوّابة الانتقال السياسي للثورة الفلسطينيّة، تلك المتعثّرة الجميلة المتعبة العنيدة، من الضفّة الغربيّة إلى داخل الأرض المحتلّة. من النضال لأجل دولةٍ فلسطينيّة، إلى النضال من أجل حقّ إنسانيّ، ضد نظام قهر عنصريّ. نضال القدس بدأ يدفع الإسرائيليين للتخبّط بين تناقضاتهم، يفتشون عن حلول لأزمة جديّة في جوهر نظامهم السياسي. تأجيج هذه الأزمات وحده هو الطريق من خارج النظام إلى داخله، عمقه وجوهره، وإنهاكه بعنصريّته إلى أن ينهار انهياراً شاملاً.

 

مقالات من القدس

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

للكاتب نفسه

فلسطين: حقوقيّون في ظلال الـ"درونز"

مجد كيّال 2022-01-06

تلعب إسرائيل دوراً محورياً في تشكيل رؤية الحروب في عصر "الدرونز". فهي اعتمدت في حروبها السريعة بعد حرب 1967، على الارتكاز لسلاح الجو، وقدرات المراقبة والسيطرة عن بعد، وتجنب التوغّل...

لحظة كل الممكنات وكل المخاطر

مجد كيّال 2021-05-26

الحرب العميقة تنطلق على مستويين. الأوّل هو المستوى الأمني، وقد بدأت إسرائيل تسعى إلى ترميم صورة "الوحش" التي كسرناها. ولكن هناك مستوى أخطر: حين تهدأ الأخبار، تبدأ المؤسسة الأمنيّة ببسط...