نصف مليون طالب من الصّف الأوّل حتّى الثاني عشر يدخلون العام الدراسي الجديد في ظل نقصٍ حاد في غرف التعليم، التجهيزات اللازمة لهذه الغرف، ساعات التعليم، الحراسة والتأمين وغيرها. لكن هذه التفاصيل الهامة التي تشغل عادة المؤسسات تبقى بعيدة عن هموم الأم والأب. الهمّ الحقيقي في هذه الأيّام هو الهم الاقتصادي الثقيل العائد لتمويل اللوازم المدرسية والملابس والحقائب، ناهيك عن كتب الدراسة التي لم يعد بالإمكان تبادلها بين جيلٍ وجيل. تشتكي العائلات من تغيّر الكتب بشكلٍ شبه سنويّ، وتحوّل معظمها الساحق إلى كراريس لا يمكن تناقلها بين الأخوة أو الجيران أو حتى في معارض تبادل الكتب المجانيّة التي كانت تقيمها الحركات الشبابيّة.
تطرفٌ خياليّ
الحالتان الأكثر خطورة في جهاز التعليم هما القائمتان في صحراء النقب وفي مدارس القدس. تطرّف الأزمات هناك يجعلها تبدو للزائر الجديد خياليّة: لا تعترف سلطات الاحتلال بجزء كبير من قرى صحراء النقب، كما تترك القرى التي تعترف بها في أوضاعٍ اقتصادية واجتماعية مزرية. في قرى صحراء النقب و"المدن" التي أقامتها إسرائيل لتهجّر إليها أهالي القرى، يصل عدد الطلاب العرب البدو في مدارس قرى صحراء النقب إلى أكثر من 70,000 طالبا يتكدسون في 98 مدرسة فقط. الكثافة المدرسية (بحسب المعطيات الرسميّة) تصل إلى 1.71 متر مربّع للطالب، بينما هي في المدارس اليهوديّة 4.26 امتار مربّعة للطالب. "منتدى التعليم العربي في النقب" كان قد نشر إحصائيّات تفيد بأن قرى النقب تنقصها 100 مدرسة، بينما أشارت تقارير في العام 2010 إلى نقص 9000 غرفة تعليميّة.
وما حال المدارس القائمة؟ عدا عن أن جزءاً كبيراً من القاعات الصفيّة في تلك المنطقة هي عبارة عن غرف متنقلة، فإن 17 مدرسة في قلب الصحراء ستفتتح السنة الدراسيّة بدون كهرباء، أي بدون تكييف في أيام الصيف الحارقة. يقطع طلاب النقب يوميا مسافات طويلة في طرقٍ صحراوية شاقة، خاصةً في أيام الشتاء، من أجل الوصول إلى مدارسهم. مثال على ذلك أطفال قرية الصواوين (350 طفلاً) يسافرون يومياً إلى أقرب مدرسة إليهم، والتي تبعد 20 كيلومتراً. أما أطفال قرية أم بطين، ففي مسيرتهم الصباحيّة نحو المدرسة عليهم أن يجتازوا نهراً من مياه الصرف الصحي العادمة الذي يمر وسط القرية، الطلاب هناك صاروا محترفين ببناء الجسور الخشبية الخفيفة. نسبة نجاح طلاب النقب في الامتحانات النهائية (التوجيهي) تكاد لا تتعدى 25 في المئة، بينما لا يصل إلا 15 في المئة منهم إلى نتائج تمكّنه من القبول في الجامعات.
القدس حالةً لا تقل تطرفًا، لكن ما يزيدها تعقيداَ هو تعدد السلطات المسؤولة عن جهاز التعليم الذي يحتضن، إن لم نقل "يخنق"، نحو 88000 طالب. تشرف وزارة التربية التابعة للسلطة الفلسطينية على 38 مدرسة، في حين تشرف الوزارة الإسرائيلية على 54 مدرسة، ووكالة الغوث للاجئين على 8 مدارس أخرى. لكن هذه المدارس الرسميّة لا تقترب من سدّ حاجة التعليم المقدسي، فيبقى خارجها نحو 30,000 طالب من مجمل المجموع، من دون أطر تعليم مجانيّة، فتضطر العائلات لدفع مبالغة طائلة مقابل تعليم أبنائهم في مدارس أهلية خاصة يبلغ عددها 46 مدرسة، ليصل مجموع مدارس القدس إلى 146 مدرسة فقط.
تشير التقارير الحقوقية إلى نقصٍ حاد في غرف التعليم (تتراوح المعطيات بين 1000 و1500 غرفة ناقصة)، كما تُشير وزارة التربية الفلسطينية إلى كثافة صفيّة (وليس مدرسيّة) تتراوح بين 0.5 متر و0.9 متر للطالب الواحد، بينما المفترض بحسب المعايير الدولية كحد أدنى هو 1.5 متر مربّع للطالب (بحسب تقرير وزارة التربية الفلسطينية). ولعلّ القضية الأخطر التي تواجه جهاز التعليم المقدسي هو نسبة التسرّب العالية التي تصل إلى نسبة 40 في المئة، بحسب إحصائيات بلدية الاحتلال الصادرة في شهر أيّار/مايو من العام الحالي، وهي نسب مرتفعة تعود بالأساس لانضمام الطلاب لسوق العمل من أجل إعاشة عائلاتهم وتحمل العبء الاقتصادي الناتج عن سطوة الاحتلال.
جرائم المضامين
ظروف التعليم قضيّة هامة تقلق الناشطين والمؤسسات، رغم عجزهم عن إحداث تغيير جذري أمام مؤسسات الاحتلال الصهيوني. لكن المضامين التربوية والثقافية والعلمية التي يتلقاها الطلاب الفلسطينيون داخل الخط الأخضر لا تقل خطورةً عن الظروف الماديّة. لقد أحدثت دراسة صادرة عن "جمعية الثقافة العربيّة" ضجةً كبيرة واهتماما غير مسبوق بقضيّة المضامين التربويّة لما كشفته من "جرائم تربويّة" تُرتكب بحقّ الطلاب.
تطرق التقرير إلى الأخطاء في كتب التدريس، مثلاً، وذلك عن طريق مسح لغوي شامل لـ29 كتاب اعتمدتهم وصادقت عليهم وزارة الاحتلال، وصل تعداد الأخطاء في صفحاتهم إلى 16,225 خطأ، منها أخطاء النحو (1240)، والإملاء (11787) والأخطاء المعجميّة (823) وغيرها الكثير. أما في دراسة مضامين كتب التاريخ، فتنكشف المنهجية الصهيونية التي تحذف كل ما يتعلق بالرواية الفلسطينية من أسماء وأحداث وشخصيات، كما تعتمد التوراة مرجعاً أساسياً في الرواية التاريخية. وفي كتب الجغرافيا، يشير الباحثون إلى منهجية تطبيع الوضع القائم عبر اجتزاء المعلومات وتفادي الملابسات التاريخية، عدا عن استخدام الأسماء التوراتيّة والصهيونية لوصف الحيّز الجغرافي والروابط الثقافية المحيطة به. في نهايته، يتطرق البحث إلى الوضع الكارثي لتدريس الفنون والموسيقى في المدارس، بما لا يزيد عن ساعةٍ أسبوعية واحدة لكل موضوع، كما يشير إلى مدارس كثيرة لم يسمع طلابها بحصص التربية الموسيقية.
يلخّص البحث الأسباب المركزية التي تقود جهاز التعليم إلى الحضيض، ويشدد على خطورة الخضوع التنظيمي للوزارة الإسرائيلية، وارتباط المضامين المعرفية بسياسات الدولة العنصرية، كما يشير إلى انعدام التأهيل لدى متخذي القرارات في دائرة المعارف العربيّة، وغياب قواعد البيانات المتعلقة بالمعلمين أو بالطلاب. إضافةً إلى ما ذُكر، يشير التقرير إلى سياسات التعيينات المتبعة باختيار المعلمين والمدراء، ويحمل هذه السياسات مسؤولية ضعف الطواقم التدريسيّة. وقد فتحت الأحزاب السياسية في الداخل والجمعيّات الأهلية (القانونيّة منها خاصةً مثل مركز "الميزان" ومركز "عدالة") معركةً ضد التدخل الرسمي والصريح لجهاز المخابرات الإسرائيلي "الشاباك" في تعيين المعلمين والمدراء في المدارس.
للوهلة الأولى، تبدو "المدارس البديلة" التي انطلقت في العقد الأخيرة خطوةً إيجابية في رفض ومقاومة سياسات الاحتلال بما يتعلق بجهاز التعليم. انطلقت هذه المدارس القائمة على مبادئ التربية الديموقراطية، متحدية قرارات حكومية تقضي بإغلاقها لرفضها الالتزام بشروط الوزارة الإسرائيلية والبلدية. على سبيل المثال، تستقبل مدرسة "حوار" في حيفا طلاباً من الصف الأوّل حتى الثامن، وقد خرّجت هذا العام فوجها الأوّل بعد مسيرة مضنية ضد بلدية الاحتلال في حيفا ووزارة المعارف، كانت أهم محطاتها اعتصامات الأطفال أمام البلديّة وأوامر اعتقال صدرت بحق أولياء الأمور وأيام عمل تطوعي لترميم مبنى جديد للمدرسة وتجهيزه بعد أن طردتهم البلديّة من مبنى المدرسة الأوّل.
لكن هذه المدارس بالحقيقة تبقى حكراً على العائلات الغنيّة القادرة على دفع مبالغ طائلة لتمويل مدرسة لا تلقى دعماً حكومياً. القائمون على المدرسة يفتخرون بمستوى الإنجازات التعليمية لأبنائهم، ويتجاهلون حقيقة أن شريحة الطلاب في المدرسة يأتون أصلاً من بيوت وبيئة اجتماعية تكرس لهم موارد تربويّة (تعتمد على التمويل) بشكلٍ لا يحصل عليه أي طفلٍ آخر في المدن والقرى المحيطة بهم، أو حتى في الأحياء المجاورة لهم. فدورات تعليم الشطرنج، البيانو والباليه، إلى جانب ساعات المدرسين الخصوصيين التي باتت سوقًا يستنزف آلاف العائلات، ليست متاحةً لطلاب سيقضون عامهم الدراسي في نصف مترٍ مربّع.