خلال الشهرين الفائتين (أيار/مايو وحزيران/يونيو) حضرت إسرائيل بقوة في الإعلام التونسي، ولكن ليس في علاقة بفلسطين وبقية الأراضي العربية المحتلة، بل في علاقة مباشرة بالشأن التونسي نفسه. ففي بداية أيار/مايو 2019 نشرت "هيئة السكان والهجرة" الإسرائيلية احصائيات عن عدد الأجانب الذين دخلوا إسرائيل سنة 2018 وجنسياتهم: 949 تونسي كانوا من بين "الزوار"، لكن لا أحد يعلم هوياتهم ودياناتهم وأسباب تواجدهم هناك، خاصة وانه بإمكان من يدخل الى اسرائيل طلب عدم وضع الأختام الإسرائيلية على جوازات السفر والاكتفاء بوضعها على وثيقة منفصلة يمكن التخلص منها لدى مغادرة إسرائيل.
بعدها بأيام أعلنت إدارة فيسبوك عن غلق 256 صفحة أنشأتها جهات إسرائيلية لنشر اخبار مغلوطة بغاية التأثير السياسي في عدة بلدان، وكان نصيب تونس 11 صفحة. وفي آخر الشهر نفسه كشف "الاتحاد العام التونسي للشغل" (وهو النقابة الكبرى في البلاد) عن قيام وكالة اسفار تونسية بتنظيم رحلات للقدس ومدن فلسطينية محتلة مروراً بالأردن، وطالب بالتحقيق في الأمر ومحاسبة المتورطين.
لكن الحدث الذي حظي بتغطية إعلامية أكبر واثار ردود فعل أكثر وأقوى هو بلا شك التحقيق الذي بثته القناة 12 الإسرائيلية في بداية حزيران/يونيو (ثم قامت قناة "الميادين" اللبنانية بترجمته وبثه) والذي يُظهر سياحاً إسرائيليين في تونس يهتفون بحياة إسرائيل وجيشها ويلتقطون صوراً بالقرب من البيت الذي إغتيل فيه القائد العسكري الفلسطيني "أبو جهاد"/خليل الوزير (1988). اغضبت الفيديوهات والصور المعروضة التونسيين إذ رأوا فيها اعتداءاً صارخاً على سيادة البلاد ودعاية لكيان ما زال اغلبهم لا يعترفون به ويعتبرونه معادياً. وزارة الداخلية نفت أن يكون هؤلاء السياح قد دخلوا البلاد بجوازات سفر إسرائيلية، اما وزير السياحة (وهو يهودي الديانة) فقال أن هناك حملة دعائية تستهدفه من "جماعة المقاومة" (يقصد "قناة الميادين"). قد يكون هذا التتالي السريع للأحداث بعلاقته بإسرائيل محض صدفة، لكن لو دققنا جيداً في ما حدث خلال السنوات الفائتة لاتضح ان هناك سعي محموم من الإسرائيليين لاختراق الساحة التونسية في عدة محاور..
الموقف الرسمي من التطبيع
على المستوى الرسمي، لا توجد علاقات بين الدولة التونسية وإسرائيل أو بالأحرى لم تعد موجودة (على الأقل علانية). فمنذ بداية سنوات 1950 أي في أوج حركة التحرر الوطني في تونس، حاول قياديون تونسيون التقرب من الإسرائيليين طمعا في دعمهم لمطلب تونس في الاستقلال عن فرنسا. وكان اول لقاء، حسب المؤرخ الإسرائيلي ميخائيل لاسكيه ، في أروقة الأمم المتحدة وجمع بين الباهي الأدغم (قيادي في حزب الدستور ووزير أول سابق) وممثل إسرائيل رافائيل جدعون. ثم تلتها لقاءات أخرى قبل وغداة الاستقلال بين مسؤولين تونسيين كبار والسفير الإسرائيلي في باريس جاكوب تسور. لكن الأمور لم تتطور إلى التطبيع الرسمي والعلني، حتى وإن لم يخفِ بورقيبة منذ الستينات الفائتة موافقته على تقسيم فلسطين و"حل الدولتين"، في زمن كان يُعتبر فيه هذا الطرح هرطقة وخيانة عظمى. حتى قبول تونس باحتضان قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إثر إخراجها من بيروت في 1982 لم يكن يعني تغييراً جذرياً في موقف النظام التونسي الذي سيلعب دوراً (سواء في زمن بورقيبة أو بن علي) في اقناع القيادات الفلسطينية بالسير في "مسار السلام". وكان هناك حتى حديث عن تواطؤ قيادات أمنية وسياسية تونسية مع الإسرائيليين خلال قصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في منطقة "حمام الشط" (عملية الساق الخشبية، تشرين الاول/ أكتوبر 1985) وكذلك عند اغتيال القائد العسكري خليل الوزير "أبو جهاد".
الحدث الذي حظي بتغطية إعلامية أكبر واثار ردود فعل أكثر وأقوى هو التحقيق الذي بثته القناة 12 الإسرائيلية في بداية حزيران/يونيووالذي يُظهر سياحاً إسرائيليين في تونس يهتفون بحياة إسرائيل وجيشها ويلتقطون صوراً بالقرب من البيت الذي إغتيل فيه القائد العسكري الفلسطيني "أبو جهاد"/خليل الوزير (1988).
مع بداية التسعينات الفائتة وهرولة عدة دول عربية نحو "مسار السلام"، بدأت الموجة الثانية من الاتصالات بين النظام التونسي والإسرائيليين لتنتهي باتفاق فتح تمثيليات لكل دولة لدى الجانب الآخر: "مكتب مصالح" تونسي في "تل أبيب" (افتتح في أيار/مايو 1996) وآخر إسرائيلي في العاصمة تونس. كان يفترض بهذه الخطوة ان تمهد للتطبيع الكامل للعلاقات، لكن اندلاع الانتفاضة الثانية في أيلول/سبتمبر 2000 وما رافقها من جرائم إسرائيلية وما أثارته من غضب شعبي في تونس والعالم أحرج النظام التونسي ودفعه إلى قطع العلاقات واغلاق التمثيلية الديبلوماسية، وبقي الأمر على هذا الحال إلى حد اليوم. الاستثناء العلني الوحيد كان زيارة سيلفان شالوم وزير الخارجية الإسرائيلي (من أصل تونسي) لتونس في 2005 للمشاركة في "القمة العالمية حول مجتمع المعلومات" برعاية الأمم المتحدة، وقد رافقتها احتجاجات عنيفة، خاصة في الجامعات التونسية.
التطبيع البحريني مع إسرائيل يخرج إلى العلن
14-05-2018
بعد الثورة طُرحت بقوة مسألة تجريم التطبيع ودسترتها وعُرِض مشروع قانون على "المجلس التأسيسي" في 2012، لكن الإسلاميين (حركة النهضة) وحلفائهم الذين كانوا يهيمنون على المجلس رفضوا الأمر وتعللوا بعدة حجج أهمها ان توطئة الدستور أشارت إلى دعم تونس لحركة التحرر الفلسطيني مما يعني ضمنياً عدم التطبيع مع إسرائيل.. وهذه مغالطة لأن "تجريم التطبيع" يعني إجراءات ردعية وليس مجرد شعارات أو عتب: عقوبات مالية وسجنية لكل مطبِّع. أما أطرف الحجج فهي تلك التي ساقها زعيم كتلة حركة النهضة في المجلس التأسيسي "الصحبي عتيق" حين قال في حوار تلفزي بأن كل من خالد مشعل وإسماعيل هنية نصحا قيادات النهضة بعدم ادراج مسألة التطبيع في الدستور وبإفرادها بقانون عادي. هذا القانون لم يرَ النور وحتى عندما طرحت كتلة "الجبهة الشعبية" مشروع قانون آخر لتجريم التطبيع في 2015 بعد انتخاب برلمان جديد، ماطلت الكتل المهيمنة ("نداء تونس" و"حركة النهضة") وعطلت النقاش وأجلت جلسات التصويت عدة مرات.
مسألة التطبيع توضّح بشكل جلي المسافة الكبيرة التي تفصل "روح" الثورة التونسية وحسابات/سياسات الحكام الجدد. اذ يبدو ان الإسلاميين و"الدساترة" (أبناء "الحزب الدستوري" الذي حكم تونس بين 1956 و2011 ثم عاد جزء منهم إلى الحكم في 2014 تحت يافطة حزب "نداء تونس" الفائز بالانتخابات التشريعية والرئاسية) لديهم قناعة راسخة بأن اغضاب إسرائيل سيجلب عليهم غضب الأوروبيين والأمريكيين، أي رعاة "الانتقال الديموقراطي" و"الشركاء الاقتصاديين" والمقرضين والمانحين والمتحكمين في وكالات الأسفار الكبرى ووكالات التقييم الإئتماني وواضعي التصنيفات الأمنية و"اللوائح السوداء" و"المعايير الدولية" للشفافية والحوكمة الرشيدة.
بعد الثورة طُرحت مسألة تجريم التطبيع ودسترتها، وعُرِض مشروع قانون على "المجلس التأسيسي" في 2012، لكن الإسلاميين ("حركة النهضة") وحلفائهم الذين كانوا يهيمنون على المجلس رفضوه وتعللوا بأن توطئة الدستور أشارت إلى دعم حركة التحرر الفلسطيني مما يعني ضمنياً عدم التطبيع مع إسرائيل.. وهذه مغالطة لأن "تجريم التطبيع" يعني إجراءات ردعية.
هناك "صدف" غريبة تقوي الشكوك في موقف الطبقة الحاكمة من التطبيع. مثلاً وزارة السياحة أصبحت منذ كانون الثاني/ يناير 2014 حكراً على وزراء سبق لهم زيارة إسرائيل أو تحوم حولهم شبهات تطبيع قوية: آمال كربول وسلمى اللومي وأخيراً روني الطرابلسي. كما ان أطول وزير خارجية عمراً في منصبه منذ 2011 هو الوزير الحالي خميس الجهيناوي (منذ كانون الثاني / يناير 2016) وهو كان الديبلوماسي الذي كلفه نظام بن علي بإفتتاح تمثيلية تونسية في "تل أبيب". قد يعتبر البعض هذا التمشي براغماتيا وعقلانياً باعتبار ظروف تونس الاقتصادية والأمنية التي لا تسمح لها بترف "العنتريات" و"المثاليات" (كما يقال)، وقد يرى آخرون ان هذا تطبيع سلبي أو صامت، كما يمكن ان يُقرأ ويُفهم كتمهيد للتطبيع خاصة وأن مشاريع تصفية القضية الفلسطينية لم تعد مجرد نوايا بل صفقات وخطط واضحة وعلنية. لكن مِنْ نِعَم الديموقراطية (حتى وإن كانت عرجاء) انه لم يعد بإمكان الحاكمين ان يتجاهلوا الشعب تماماً أو أن يفرضوا عليه سياسات معينة إعتماداً على القمع. يعني، مرحلياً على الاقل، لا يمكن لعاقل أن يتخيل أن حكام تونس قادرون على تمرير التطبيع مع إسرائيل.. لكن هناك مساعي حثيثة من أجل الاختراق الناعم للرفض الشعبي لمسألة التطبيع.
اختراقات تتنوع وتتطور باستمرار..
تدرك إسرائيل ان نشر ثقافة التطبيع في تونس بشكل سريع ومعمم أمر صعب جداً بل شبه مستحيل، لذا تحاول في مرحلة أولى ان تستقطب جزء من النخب التونسية ممن قد يكون لهم فيما بعد تأثيراً على الرأي العام، كما يتسرب الرمل من أعلى إلى أسفل الساعة الرملية. وهي نجحت خلال عقد التسعينات المنصرم وحتى العقد الذي تلاه في إغراء بعض الفنانين التونسيين للغناء في إسرائيل خاصة أولئك الذين يؤدون ألوانا موسيقية تقليدية يحن لها اليهود التونسيون الذي استقروا هناك. كما تمكنت خلال فترة التطبيع الرسمي من استقدام وفود من رجال أعمال تونسيين إلى إسرائيل للمشاركة في لقاءات ذات طابع اقتصادي.
ويبقى الأخطر هم المثقفون من أكاديميين وغيرهم الذين استمالتهم اسرائيل (أو ربما عرضوا خدماتهم من تلقاء أنفسهم!) للترويج لثقافة "السلام" كما تراه هي.
صمام الأمان الأول ضد التطبيع في تونس هو الشعب نفسه. فدعمه للقضية الفلسطينية ليس أمراً طارئاً ولا مشروطاً. فمنذ بداية الاحتلال الصهيوني لفلسطين وأراضي عربية أخرى تطوع تونسيون للالتحاق بالمقاومة وشهدت تونس آلاف التحركات المساندة
وبعد سقوط الديكتاتورية في كانون الثاني/ يناير 2011 تطورت محاولات الاختراق كماً ونوعاً. فغياب القبضة الحديدية التي تمسك بكل شيء، بما في ذلك العلاقات مع الخارج، ودخول البلاد مرحلة من النشاط السياسي والمدني غير المسبوق، وفتح عدة منظمات دولية وغير حكومية فروعاً لها في تونس، وتوافد مبعوثي ومراسلي وسائل إعلام من مختلف انحاء العالم.. كلها عوامل تجعل من تونس أرضاً مكشوفة لكل من يحاول التأثير في الشأن العام. ويستغل مروجو ثقافة التطبيع تحول البلاد إلى ورشة كبيرة للتحرك تحت عدة يافطات: ملتقيات لمكونات من المجتمع المدني، تظاهرات ثقافية وفنية وأكاديمية، استعمال ورقة "حقوق الأقليات"، دورات تدريبية ورحلات لتكوين الشباب قادة المستقبل. طبعاً هم لا يتحركون بشكل مفضوح بل يعملون بمبدأ "السم في الدسم" وينتظرون النتائج على مدى متوسط وطويل. اما المساعي التطبيعية العلنية من قبيل استدعاء فنانين داعمين للصهيونية أو الدفاع عن حضور وفود رياضية إسرائيلية للمشاركة في تظاهرات دولية تقام في تونس فعادة ما تفشل اما بالضغط على الحكومة أو التظاهر أو التوجه إلى المحاكم، وكل هذا بفضل جهود تونسيين وتونسيات من سياسيين ونقابيين ومثقفين وناشطين في المجتمع المدني يناهضون التطبيع ويفضحون المنادين به.
سعوديون في إسرائيل: التطبيع يحفر مجراه
11-08-2016
هناك أيضا التطبيع بالخداع والاحتيال، فمثلا تكرر في السنوات الأخيرة ظهور تونسيين في وسائل الإعلام الإسرائيلية وأغلبهم ليسوا من المطبعين. كل ما في الأمر أن صحافيين أجانب يأتون للتصوير والعمل في تونس دون التصريح بالجهة الحقيقية التي يعملون لحسابها فيدّعون مثلاً انهم تابعون لقناة ألمانية أو فرنسية لكنهم في الواقع يعملون لحساب الإسرائيليين. وهكذا يجد الكثيرون أنفسهم وقد تعاملوا مع قنوات ومواقع إعلامية إسرائيلية دون علمهم. وهذا غيض من فيض، فالمحاولات لا تتوقف رغم يقظة المناهضين، وقد تأخذ أحياناً أشكالاً غير متوقعة.
هل أصبحت "السياحة الدينية" بوابة للتطبيع؟
لليهود حضور قوي في تاريخ تونس، حتى ان وجودهم فيها سابق لوجود العرب والمسلمين. حضور ما زالت آثاره موجودة إلى اليوم في التراث الغنائي والملابس والحلي والأكلات والحرف التقليدية. وإلى حدود أواخر القرن التاسع عشر كان هناك تعايش كبير بين الأقلية اليهودية والأغلبية المسلمة في تونس، وتقلّد الكثير من اليهود مناصب في الدولة وكانت لهم مكانة كبيرة في النشاط الاقتصادي. لكن مع قدوم الاستعمار الفرنسي وكذلك مع ظهور الحركة الصهيونية وبداية نشاطها الدعائي في شمال افريقيا، بدأت الأمور تتغير والشروخ تتعمق. وبالطبع مثّل النشاط الصهيوني في فلسطين وفيما بعد قرار التقسيم ضربة كبيرة للتعايش اليهودي - الإسلامي في تونس.
في أواخر الأربعينات الفائتة كان عدد اليهود التونسيين يتجاوز المئة ألف، ثم بدأت موجات المغادرة الجماعية نحو فرنسا وإسرائيل. وهذا حدث في مرحلة أولى بعد خروج الاستعمار الفرنسي ثم إثر حرب 1967 في مرحلة ثانية. هذه المغادرة هي إحدى جرائم الصهيونية التي سلخت الملايين من اليهود من أوطانهم وشعوبهم وبيئاتهم الأصلية لتغريهم بالعيش في "وطن قومي" بُني على أراضي وجماجم شعب آخر. لم تفعل السلطات التونسية أي شيء تقريباً لإثناء مواطنيها اليهود عن الهجرة الجماعية بل يبدو أنها سهلت لهم الأمر. في المقابل لم يعد بإمكان المغادرين باتجاه إسرائيل العودة إلى تونس بجوازات سفر إسرائيلية. اليوم لا يتجاوز عدد اليهود في تونس 1500 شخص يعيش أغلبهم في جزيرة جربة (جنوب شرق البلاد) حيث يوجد "معبد الغريبة" أقدم وأكبر كنيس يهودي في تونس. ويحتضن هذا المعبد سنوياً موسم حج (بعد 33 يوماً من "عيد الفصح") بحضور الآلاف من يهود تونس وبلدان أخرى، وسط حراسة أمنية مشددة جداً خاصة بعد ان استهدفت عملية إرهابية الكنيس في 2002. في زمن بن علي كان هذا الحج، وما يرافقه من احتفالات وسياحة دينية، يتم بدون تغطية إعلامية كبيرة وبلا صخب. ولم يكن هذا الشكل من السياحة الدينية يقلق التونسيين بصفة عامة. لكن في السنوات الأخيرة بدأ الكثيرون ينزعجون من تواتر الأخبار والتقارير عن قدوم إسرائيليين إلى تونس خلال الاحتفالات. كما أن العديد من السياسيين التونسيين أصبحوا فجأة يحرصون على التواجد في المكان خلال هذا الحدث والتقاط صور مع شخصيات يهودية محلية وأجنبية بشكل يبعث على الارتياب في النوايا والمقاصد الحقيقية. ودائماً ما تنفي السلطات الأمنية دخول إسرائيليين إلى تونس بجوازات سفر إسرائيلية. لكن التقرير المستفز الذي بثته القناة 12 الإسرائيلية حول حج الغريبة 2019 كان صادماً بشكل قوي للتونسيين وأحرج الحكومة كثيراً خاصة وزير السياحة الذي كان تعيينه في منصبه أصلاً مثيراً للجدل، لا بسبب ديانته ولكن لشبهات حول علاقته بإسرائيل، وكذلك لتضارب المصالح. فهو رجل أعمال في المجال السياحي. أظهر التقرير "حجيجا" إسرائيليين في تونس يهتفون بحياة إسرائيل ويتنقلون بكل حرية، ترافقهم وسائل إعلام إسرائيلية وحماية أمنية تونسية مشددة. طبعا لا تفوت إسرائيل أي فرصة للاحتفاء بحضور إسرائيليين في دول عربية أو العكس، لكن مثل هذا التقرير ليس له من تأثير غير تنامي "معاداة السامية" وتفاقم الخلط بين اليهودية والصهيونية..وربما هذا ما تريده إسرائيل فعلاً.
في منتصف القرن العشرين كان عدد اليهود التونسيين يتجاوز المئة ألف، ثم بدأت هجرتهم الجماعية نحو فرنسا وإسرائيل، بداية بعد خروج الاستعمار الفرنسي، ثم إثر حرب 1967. هذه المغادرة هي إحدى جرائم الصهيونية التي سلخت الملايين من اليهود من أوطانهم وشعوبهم وبيئاتهم الأصلية لتغريهم بالعيش في "وطن قومي" بُني على أراضي وجماجم شعب آخر.
طبعاً من حق أتباع كل الديانات زيارة تونس ومقدساتها، لكن لا يجب ان يمثل ذلك اختراقاً سياسياً وامنياً ولا ابتزازاً ولا اعتداء على سيادة البلاد والثوابت الوطنية لعموم شعبها. بمعنى آخر يجب التصدي لهذه الظاهرة لكن دون السقوط في التعصب الديني. والاختراق عبر البوابة الدينية ليس في إتجاه واحد فقط، فهناك وكالات أسفار تونسية تنظم رحلات إلى القدس ومدن فلسطينية أخرى محتلة، عبر الأردن، تحت غطاء زيارة بيت المقدس وآثار إسلامية أخرى. ويثير هذا الأمر غضب الكثير من التونسيين الذين يرون ان "السياحة الدينية" ليست إلا كسراً للحاجز النفسي وخطوة خطيرة في مشوار تطبيع العلاقات مع الصهاينة. وقد يشترك تونسيون في هذه الرحلات عن حسن نية، حين لا يدركون أصلاً انهم يطبعون بل يعتقدون أنهم ينتصرون للفلسطينيين ويحمون المقدسات الإسلامية. لكن وجودهم هناك يضفي شرعية على المحتل كما ما يتمتعون به من سهولة تنقل وقدرة على الوصول إلى أراضي محتلة بينما يُحرم من ذلك ملايين الفلسطينيين في الداخل والشتات. ويبقى السؤال: كيف تحصل وكالة الأسفار على التصاريح والتسهيلات، هل هناك دخل للحكومة التونسية؟ هل هناك علاقة مباشرة بين وكالات الأسفار والإسرائيليين أم أن هناك وسطاء عرب أو أوروبيين؟ هذا ما يطالب ناشطون تونسيون بكشفه للعموم.
صمام الأمان الأول ضد التطبيع في تونس هو الشعب نفسه. فدعمه للقضية الفلسطينية ليس أمراً طارئاً ولا مشروطاً. فمنذ بداية الاحتلال الصهيوني لفلسطين وأراضي عربية أخرى تطوع تونسيون للالتحاق بالمقاومة وشهدت تونس آلاف التحركات المساندة. كما ان تحرير الأراضي العربية ومناهضة الصهيونية مثلت أحدى المرتكزات العقائدية للقوى السياسية التونسية التقدمية العروبية واليسارية وصولاً الى الحركة العمالية. تونس التي لا تعد من "دول الطوق" احتضنت منظمة التحرير الفلسطينية ودفعت ثمن ذلك قصفاً لأراضيها وقتلاً للعشرات من مواطنيها، وهي بكل تأكيد ليست تربة خصبة لمشاريع التطبيع والخذلان، لكن الحذر واجب. لا يمكن إنكار تراجع حضور القضية الفلسطينية في تونس وغيرها من البلدان العربية لأسباب تتعلق بالصراعات الإقليمية والانقسامات الأيديولوجية والمذهبية/الطائفية وتردي احوال كل بلد وانشغاله بهمومه الحياتية الطاحنة. كما لا يمكن ان نتجاهل ان إسرائيل والقوى الغربية الداعمة لها والأنظمة العربية المتواطئة معها تشحذ سكاكينها السياسية والعسكرية والإعلامية بهمة وعزم لذبح فلسطين وغلق "ملفها" نهائياً. ومع تكثف محاولات الاختراق الصهيونية لتونس وتطور نشاط المطبّعين التونسيين أصبح من واجب المكونات السياسية والمدنية المناهضة لمثل هذه المشاريع أن تكون اكثر يقظة وأن تواصل فضح كل المحاولات، مع الضغط على النواب والحكومة لتمرير قانون تجريم التطبيع. طبعاً "تجريم التطبيع" لن يكون له أي معنى إذا لم تبذل القوى المطالِبة به جهداً لإعادة توضيح الأمور في أذهان الناس: القضية الفلسطينية ليست حرب أديان (حتى وإنْ استنهضت الخلفية الدينية لشرعنة الاحتلال أو لمقاومته) بل قضية تحرر وطني مناهض للاستيطان الصهيوني العنصري والتوسعي الذي تدعمه الامبريالية الغربية. بعض الأفكار البديهية تُنسى أو تُطمس بمرور الزمن وتراكم الأغبرة والأوساخ..