الجولان السوري: كثافة التحوّلات الهادئة

مجدل شمس، بقعاثا، مسعدة، عين قنية، والغجر هي القرى الخمس التي بقيت بعد عمليات التهجير والهدم الإسرائيليّة منذ هزيمة 1967. يعيش في هذه القرى نحو 25 ألف إنسان، تحوّلوا مع الوقت إلى وضعيةٍ سياسيّة واجتماعيّة خاصةً تجدر قراءتها وتقييمها بشكلٍ منفرد. يظن المرء أحيانًا أنه يحمّل هذه القرى أكثر مما تحتمل، لكن الحقيقة أن كثافة التفاعلات السياسيّة والاجتماعيّة في هذا الحيّز الضيّق تأخذ مشاكل ومعضلات
2013-09-18

مجد كيّال

كاتب فلسطيني من حيفا


شارك
مروى طربية - الجولان السوري المحتلّ (خاص "السفير العربي")

مجدل شمس، بقعاثا، مسعدة، عين قنية، والغجر هي القرى الخمس التي بقيت بعد عمليات التهجير والهدم الإسرائيليّة منذ هزيمة 1967. يعيش في هذه القرى نحو 25 ألف إنسان، تحوّلوا مع الوقت إلى وضعيةٍ سياسيّة واجتماعيّة خاصةً تجدر قراءتها وتقييمها بشكلٍ منفرد. يظن المرء أحيانًا أنه يحمّل هذه القرى أكثر مما تحتمل، لكن الحقيقة أن كثافة التفاعلات السياسيّة والاجتماعيّة في هذا الحيّز الضيّق تأخذ مشاكل ومعضلات كثيرة يعيشها الفلسطينيّون (مثلاً) وتضعها في وضعيّات أكثر صعوبةً وتطرفاً وتعقيداً. ويعيش الناس هذه الكثافة رغم ضيق الحيّز الاجتماعي وشحّ إمكانات التأثير السياسي.

هي حياةٌ على امتداد خطّ وقف إطلاق النّار وتحت تواجد عسكريّ روتينيّ. هو مستقبل مجتمعي وشخصيّ ترتبط كل تفاصيله بمعادلات السياسة المضطربة حد الجنون، وهي يوميّات تتعثر كل مجالاتها بواقع المكانة القانونيّة والسياسيّة. هذا كله قبل ذكر التحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، والتعددية السياسيّة العميقة، التي عرَّاها الشرخ الكامن فيها مع بدء الثورة في سوريا. ويعيش السوريون في قرى الجولان المُحتل هذا المشهد الملتهب في فضاءٍ تغلفه طبقة سميكة من الجغرافيا والبيئة والطبيعة الزاهية، والأطباع الإجتماعيّة التي تُخفي هذا الكم من التفاعلات المحتدمة والمتقدمة بسرعة وكثافة. مجتمعٌ قرويّ صغير وهادئ، تلفه معالم طبيعيّة خلابة ومهيبة، على إيقاع بطيء للحياة وانقطاع للامتداد الاجتماعي، يحوّل هذه القرى (بعكس القرى الفلسطينية داخل الخط الأخضر اليوم مثلاً) إلى بؤرٍ فيها شيء من العزلة الريفيّة الكلاسيكيّة.

لكن الهالة الجماليّة للطبيعة في منطقة الجولان جوفاء: كل معلمٍ خلّاب تسكنه أداة حرب، كل جبل يسكنه جهاز مراقبة، كل تجمّع ماء تسبح فيه مضخة أحد الإسرائيليين. بساتين الكرز تلوّن المشهد وتحكم الإيقاع، أما اللحن الذي يُعزف على هذا الإيقاع فتحكمه بساتين الألغام بين بيوت مجدل شمس.

مجتمع تُغيّره مراحل الصراع

يمكن استعراض مسار التحوّلات الاجتماعية في قرى الجولان عن طريق تتبع المسار السياسي/النضالي ضد الاحتلال الإسرائيلي. فلا يمكن السؤال عن تشكّل اجتماعي دون تتبع المسار السياسي في قرى تقع تحت إحتلال، إذ يشكّل هذا منظومة العلاقات الداخليّة في المجتمع، يوطِّدها ويؤججها حتّى يعيد ترتيبها كل مرة من جديد.

يمكن تعيين أربع نقاط تحوّل أساسيّة في المسار السياسي/الاجتماعي، كلها مرتبطة برؤية المجتمع لنفسه من خلال الصراع. مرحلةٌ أولى يعي فيها المجتمع ضعفه فيُبدي ولاءً وثقة بالتخلّص من الإحتلال عبر القوّة النظاميّة التي ينتمي لها وبات خارجها (بمعنى الدولة والجيش السوريين). مرحلةٌ ثانية تنفجر فيها المواجهة الشعبيّة مع الاحتلال في الداخل، ترافقها محاولات لتسليح الحركة الشعبيّة. ومرحلة ثالثة تنكشف فيها أنماط التواطؤ/الانهزاميّة بين الدولة الأم وبين الإحتلال، يرافقها غالباً انفتاح اقتصاديّ. والمرحلة الأخيرة هي التي يتّجه فيها المجتمع إلى الإنشغال بنفسه وسط تراكم الشك حول إمكان التحرر، وهي مرحلة يميّزها بناء المؤسسات المهنيّة والعمل داخل أطر تنظيم غير سياسية بشكل مباشر، ويرافقها ظهور قويّ للمجال الثقافي على حساب السياسي.

الإضراب ومعركة الهويّة: بداية تمركُز

في المرحلة الأولى لا تستوعب القرى نفسها كمركز سياسيّ. المفهوم ضمنًا أنها قرى نائية لا دور لها في صناعة الحدث. فكيف يكون الحال حين تُهجّر الأغلبية الساحقة وتهدم القرى وتُسلب الأرض؟ في العام 1967، كان عدد سكّان الجولان 140 ألف إنسان هُجروا ولم يبق منهم في حينه أكثر من ستة آلاف سوريّ. هذه مرحلة انتظار الدولة والجيش وانتظار التحرير، حيث لا يمكن التنازل عنهما في ظل غياب قيادة سياسية محليّة في هذه القرى المتشظيّة بفعل الحرب. هذه مرحلة لا تعرف فيها القرى قيمتها الاستراتيجية ولا حتّى رمزيّتها، مرحلة ما قبل الأغاني الثورية التي تُمجّد هذه القرى الصغيرة النائية.

في المرحلة الثانية نكون أمام صدام حتمي مباشر بين أبناء القرى والاحتلال، في اللحظة التي يتخذ فيها الإحتلال خطوات أحاديّة الجانب من شأنها أن تحدث تغييرات جيوسياسية وقانونيّة لا رجعة فيها، وسط صمت الدولة الأم والجيوش النظامية. وإذا أردنا لهذه المرحلة عنوانًا فلا بد أن يكون «الاضراب الكبير». ستة أشهر متتالية من الإضراب الذي أعلنه أهالي الجولان في 14 شباط /فبراير 1982 رفضاً للقرار الإسرائيلي بضمّ الجولان وتطبيق القانون الإسرائيلي فيه، وتحميل أهله الجنسية الإسرائيليّة. «الهيئات الروحيّة» الدرزيّة التي اجتمعت في العام 1980 اعتبرت من يقبل الجنسية الإسرائيليّة «كافرا بدينه وخارجا على تقاليد الطائفة العربية الدرزية، ويتعرض للمقاطعة في كافة المناسبات والطقوس الدينية والاجتماعية». بدأ الإضراب الكبير وفرض الجيش الإسرائيلي حصاراً يمنع وصول المعونات والمواد الغذائية والطبيّة، كما منع وصول أي وسائل إعلام إلى هناك. ستة أشهر تحوّل فيها المجتمع في الجولان إلى معركةٍ تقع في مركزها العصاميّة الاقتصاديّة في مواجهة الحصار.

وفي نيسان/ابريل 1982 دخلت قوّات الجيش الإسرائيلي قرى الجولان في محاولة لفرض الجنسية الإسرائيليّة بالقوّة، مصادِرة الهوية التي وزعها الحاكم العسكري بعد هزيمة الـ 67، وموزعة الهويّات الإسرائيليّة العاديّة. وكانت تلك معركة الهويّة التي أشرف عليها من الجانب الإسرائيلي وزير الدفاع في حينه آرييل شارون، بينما كانت شعبية وعفويّة من الجانب السوري.

في العام ذاته بدأت تبلورت «حركة المقاومة» المسلحة ضد الإحتلال الإسرائيلي. ولعلّ أحد الشواهد على كثافة وقوّة التفاعلات الاجتماعيّة وسُرعتها في الجولان (وسط غياب القيادة السياسيّة كما سبقت الاشارة اليه)، هو السنّ الصغير جداً لقيادات حركة المقاومة المسلّحة في الجولان. فالشهيد هايل أبو زيد مثلاً، وهو رمز من رموز المقاومة في الجولان، كان من مؤسسي الحركة وهو في سن السادسة عشر، ولم يكن رفاقه غالباً أكبر منه بكثير. في الأغاني، أصبحت مجدل شمس رمزاً ثورياً، وهتف بإسمها الجميع: «ما نبدل الهويّة، هويّتي معروفة، عربيّة سوريّة» غنّى الجميع، حتى الفلسطينيين في الداخل. هكذا بدأت القرى تتعامل مع نفسها على أنها مركز للعمل السياسي وليست فقط تابع، وهي علامة بداية التشكيك في جدوى انتظار الجيوش النظاميّة. ولكن الأهم هو أنها بدأت تفرز قيادات سياسيّة محلية تحتل حيزاً في موازاة القيادة الروحانيّة التقليديّة، وبدأت تشكل ثقافة نضاليّة لها رموزها وخطابها.

ثورة الشك

لم تكن المرحلة الثالثة، مرحلة التسعينات، تقتصر على الجولان فقط، بل تمحور هذا العقد حول اتفاقيّة أوسلو وتسوية (وبالأحرى تصفية) القضيّة الفلسطينية التي شكّلت وتشكّل قلب الصراع العربي ضد الصهيونيّة. ورغم أن النظام السوري لم يُعلن أي نيّة بالتنازل عن الجولان، إلا أن مجرّد التفاوض مع الإحتلال هزّ في حينه الثقة به والطاعة له لدى من يواجهون الاحتلال يومياً ويعرفون وحشيّته. ليس هذا فقط، بل ان أهالي قرى الجولان كانوا يسمعون الأنباء عن المفاوضات وهم على أرض الواقع يشهدون السطو المسلح على أرضهم ومواردها، واستمرار تطوير المستوطنات وتوسيعها. تكثفت أطماع الاحتلال في الأرض: حتى يومنا هذا، 70 في المئة من المحاصيل الزراعيّة، واللحوم والحليب في إسرائيل مصدرها من مستوطنات الجولان، إلى جانب سرقة المياه السوريّة لتوفير 25 في المئة من حاجات المياه في إسرائيل.

يكون الشك عنوان هذه المرحلة حين يرى المجتمع دولته تفاوض كياناً محتلاً، يكون ذلك بداية ضوء أخضر لنوع من تطبيع التعامل مع المُحتل، ويرافق ذلك بالعادة تحسّن في الوضع الإقتصاديّ، كما يؤدي (من ضمن المسار «الإيجابي» في العملية السياسية) الى تسهيلات في التصدير وإمكانيّات الإنتاج الزراعي. هذا ينسجم مع نضوج حالة سياسية ناشطة وموجات من الشباب المتعلّم إما في جامعات إسرائيليّة أو في دول أوروبيّة أو في الإتحاد السوفيتي، ناهيك عن إمكانيّة تعلّم طلاب الجولان في دمشق.

في هذه اللحظة التاريخيّة، يلجأ فيها المجتمع للبحث عن نفسه، وسط تراكم الشك بإمكان التحرر من الإحتلال في الظرف السياسي القائم. وتبدأ عملية بناء مؤسسات وجمعيّات وتنظيمات اجتماعيّة لا تهدف فقط لـ«تعزيز الصمود»، بل تلبي الحاجات باعتبارها بديلاً للدولة، تؤسس لتواجد طويل الأمد، من منطلق إنعدام الثقة بإمكانيّة تحرير الأرض، أو إستعادة حركة المقاومة في الجولان من جهة، ومن جهة أخرى من منطلق الوفاء الوطني ورفض الخضوع للاحتلال. ولا يمكن تجاهل أن ما يؤدي إلى هذا الانضباط في رفض «الأسرلة» له أيضاً علاقة بالتعداد السكّاني الصغير، وسلطة رجال الدين في المجتمع الدرزي (كل القرى ما عدا قرية الغجر - هي درزية) التي حافظت على المجتمع في الجولان كوحدة مغلقة تحكمها قواعد تقليديّة حديديّة مثل النبذ والمقاطعة التامة لكل من يتزوّج من خارج الجولان... أو يحصل على الجنسيّة الإسرائيليّة.

هذه المؤسسات، مثل جمعية «الجولان للتنميّة» و«المجمع الطبّي» و«مركز السياحة البديلة» وغيرها الكثير، هي جمعيّات تعبّر عن مرحلة جديد من شكل العمل السياسي والاجتماعي، ينتج عنها اختلاف يصل حدّ الشرخ بين القديم والجديد. أولاً بين فئات عمريّة، ثانياً بين انتماءات ومرجعيّات سياسيّة، ثالثًا بين توجّهات تنظيميّة: بين من جهة فئة عملت طوال حياتها ضمن التنظيم السياسي وترى في تلبية الحاجات الاجتماعية عاملاً سياسياً يقع على عاتق التنظيم الأيديولوجي، ومن جهة أخرى المهنيين والأكاديميين. الصدام، قبل أن تبدأ الثورة السوريّة، لم يظهر جلياً على وجه المجتمع الجولاني الذي حافظ على إيقاع هادئ، ملتزم وبطيء. لكن اختفاء الصدام بين هذه الاختلافات لفترة طويلة أنتج تعبيراً ثقافياً عن هذه الإشكاليّات، فأطلق في الجولان حركةً مسرحيّة مذهلة نسبة لفضائه، تعرض شكسبير وموليير إلى جانب إنتاجاتها الذاتية، وكذلك إنتاجات موسيقيّة غالباً ما تكون بعيدة عن الموسيقى الشرقيّة، إلى جانب مؤسسات تعنى بالفنون التشكيلية... شكل من التعلق بالحياة، كما هي مرغوبة، رغم كل شيء.

بين البستان والحقل

يكثّف الجولان، في مساحة قراه الصغيرة وتعداد سكانها الضئيل، حالات سياسيّة واجتماعيّة تحتاج الشعوب عقوداً حتى تمر بها. كان ذلك يحدث في ظل خلفيّة تقليديّة لا تُبرز الصراعات على السطح، حتى أتت الثورة السوريّة وفجّرت خلافات داخليّة عميقة تتجاوز تأييد ورفض الثورة. وهذه في الجولان كثيرة، لكنها كلها تتوسل إيقاع الطبيعة المحيطة، حتى في الأسماء: الفرقة الموسيقيّة «نص تفّاحة» تغني اليوم تأييدا للثورة السوريّة، أما فرقة «توت أرض» فتغنّي عن الإحتباس الحراري على أنغام الـ«ريغيي» الجمايكي، وهناك أيضاً رجال بشوارب لا زالوا ينشدون منذ هزيمة الـ 67، بالنبرة ذاتها والمشية وتشابك الأيادي وشيب الشعر تحت العمائم: «جولان يا نبع الثوّار الْما نضب، يا قاهر العدوان يا عزّ العرب».

... بستان الكرز يحكم الإيقاع والألوان والأسماء في واقع الجولان، لكن «حقل الألغام» وحده يكتب الكلمات واللحن.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه

فلسطين: حقوقيّون في ظلال الـ"درونز"

مجد كيّال 2022-01-06

تلعب إسرائيل دوراً محورياً في تشكيل رؤية الحروب في عصر "الدرونز". فهي اعتمدت في حروبها السريعة بعد حرب 1967، على الارتكاز لسلاح الجو، وقدرات المراقبة والسيطرة عن بعد، وتجنب التوغّل...

لحظة كل الممكنات وكل المخاطر

مجد كيّال 2021-05-26

الحرب العميقة تنطلق على مستويين. الأوّل هو المستوى الأمني، وقد بدأت إسرائيل تسعى إلى ترميم صورة "الوحش" التي كسرناها. ولكن هناك مستوى أخطر: حين تهدأ الأخبار، تبدأ المؤسسة الأمنيّة ببسط...