جبرائيل ندّاف معروف لدى الأوساط المحليّة والدوائر القريبة من الكنيسة الأرثوذكسية في مدينة الناصرة وفي الجليل. برز اسمه في الشهور الأخيرة بعدما أعلن مواقف مؤيدة لتجنيد الفلسطينيين المسيحيين في الجيش الإسرائيلي. كاهن الرعيّة الأرثوذكسية في الناصرة شارك في مؤتمرٍ لوزارة الأمن الصهيونيّة يهدف لاستدراج المسيحيين للخدمة في صفوف جيش الاحتلال، أو للخدمة في المؤسسات الحكوميّة تعويضاً عن الخدمة في الجيش. المؤتمر عقد في مستوطنة «نتسيريت عيليت» الكبيرة المشادة في العام 1957 فوق عشرات آلاف الدونمات المصادرة من أهالي الناصرة وضواحيها، وهي اشتهرت في وسائل الإعلام مؤخراً بعد سلسلةٍ من الإبداعات الفاشيّة وصلت ذروتها بمطالبة رئيس بلديتها إعلان مدينة الناصرة الفلسطينية المحاذية «مناطق عدو».
ندّاف هذا رجل دينٍ مرتبط بالسلطات الإسرائيليّة ارتباطاً صفيقاً. وقضيّة تجنيد الشباب المسيحيين لخدمة الاحتلال ليست إلا واحدة من الكوارث التي يمارسها بصفته الكنسيّة. فإلى جانب اهتمامه البالغ بالتجنيد، فهو عضو في إحدى لجان وزارة الخارجيّة الصهيونيّة، وهي لجنة رجال دين يتركّز عملها في تلميع وجه الاستعمار أمام العالم. ومن آخر إنجازاتها المبهرة أنها انتدبت نفر من المشايخ المسلمين ليحجّوا إلى فرنسا ويقيموا الصلاة في منزل السفير الإسرائيلي في شهر نيسان المنصرم. وإذا لم تكفِ نشاطات ندّاف في التجنيد والدبلوماسيّة، فيمكن إضافة أنه عضو في «لجنة الطاعة» لمصلحة السجون الإسرائيليّة، المسئولة عن أسر آلاف الفلسطينيين والتنكيل اليومي بهم. وأخيراً فالرجل سلفيّ التديّن، وسبق أن هاجم بحدّة المذاهب المسيحيّة الأخرى، وقد وصف على الهواء مباشرة - المذهب المسيحي المتجدد بـ«الإرهاب المدمّر للمجتمع».
خطاب جديد
تنقسم أغلبية الشارع الفلسطيني الساحقة التي ترفض الخدمة في جيش الاحتلال، إلى آراء يسخّف بعضها مكانة ندّاف ولا يعتبره يمثّل إلا نفسه، بينما الرأي الآخر يهوِّل. وبالحقيقة، فخطاب ندّاف يحمل تجديداً خطيراً لا يأخذ حقه في النقاش: فمحاولات تجنيد المسيحيين للجيش الإسرائيلي ليست جديدة، ومحاولات التفريق وعزل كل طائفة أو فئة من المجتمع الفلسطيني واستغلال الطائفيّة السائدة من أجل تفكيك المجتمع، أمور مفهومة ضمناَ: هذه ممارسات يطبقها كل استعمار واحتلال من أجل إلحاق الهزيمة بأهل الوطن.
الجديد أن الخطاب تغيّر. فندّاف لا يتحدّث بالخطاب التقليدي الذي عوّدتنا عليه الطائفية المقيتة، مِنْ أن المسيحيّين أقلية دينية مضطهدة في المجتمع الفلسطيني، وعلى الطائفة الانخراط في الجيش لتتمكن من حماية نفسها وتحقيق مصالحها مع الدولة الصهيونية. هو يعرض خطاباً سياسياً بحتاً، مبدئياً وليس انتهازياً. فهو يتحدّث عن المواطَنة الإسرائيلية باعتبارها وطنيّة وانتماء، ويتبنى المبدأ الصهيوني بربط حقوق الفلسطينيين بواجباتهم تجاه دولة الاحتلال (وكيف تكون واجبات تجاه من سطا علينا ودمّر بلدنا ومجتمعنا وحياتنا؟)، كما أنه يتحدّث عن تجنيد الدروز والمسلمين مثل اليهود تماماً («سواسية»!). ويتحدّث أيضًا عن «تقاسم العبء»، وهو مصطلح جديد نوعاً ما، تستخدمه الصهيونيّة العلمانيّة كأساس لتجنيد الفلسطينيين واليهود المتدينين المعفيين من الخدمة العسكرية ليدرسوا التلمود والتوراة. ويتحدّث ندّاف عن «الولاء» و«الخيانة»، وهي مصطلحات من مخزون يشهره أكثر الصهاينة تطرفاً في العنصرية.
"أمن الطائفة" لم يعد مقنعاً
لهذا الخطاب الجديد أسبابه، فأبواق التخويف والترهيب للمسيحيين لم تنفع لتجنيدهم، حتى في أكثر الحالات تطرفاً مثل «أحداث قرية المغار» في العام 2005 و«أحداث شفاعمرو» في العام 2009. وهي أحداث عنفٍ هزّت المجتمع الفلسطيني في الداخل بعد أن هاجم في كلا الحالتين مئات الشباب من الطائفة الدرزيّة بيوت المسيحيين ومحلاتهم التجاريّة على خلفيّة دينيّة. في العام 2005، وصلت الأحداث إلى تهجير مئات المسيحيين من القرية الجليليّة؛ في حينه ذهبت بعض القيادات السياسية لتعتبر ما حدث مدبراً من قبل السلطات الإسرائيليّة من أجل تشجيع المسيحيين على التجنّد في الجيش والحصول على السلاح لحماية أنفسهم.
اعتبارات السطوة الأمنية هذه لم تلق أصداءً مشجعة لدى 127,000 فلسطيني مسيحي في الداخل، ويُرجّح أن يكون ذلك بسبب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الجيّدة للطائفة، فهي صاحبة أعلى نسبة من الحاصلين على شهادة البكالوريا (التوجيهي) بين كل الفئات الدينيّة في الأراضي المحتلّة عام 1948، بمن فيهم اليهود، حيث حصل 64 في المئة من الطلاب المسيحيين على الشهادة مقابل 48 في المئة من الطلاب المسلمين، و55 في المئة من الطلاب الدروز، أما اليهود الذين تضخ الدولة أموالا مضاعفة لتعليمهم، فحصل 59 في المئة من طلابهم على الشهادة.
الحجة الأمنيّة لم تنطل على المسيحيّين، حتى وإن كانوا أقلية تبلغ نسبتها نحو 10 في المئة فقط من الفلسطينيين. وتشير المعطيات الصهيونية إلى 250 مجنّداً مسيحياً، وهي أرقام يُرجح أن تكون مضخمةً، ورغم ذلك فهي هزيلة.
المدني والعسكري واحد
يُسدي جبرائيل ندّاف معروفاً للحركة الوطنيّة الفلسطينية ولجان مناهضة التجنيد، إذ يصرّ دائماً على ربط الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال ربطاً مباشراً بما يُسمّى بالخدمة المدنيّة (أيِّ مدنيّة في دولة غذاء وجودها العسكرة؟). هكذا يُسمّون المشروع الذي ابتدعه الصهاينة لاستدراج فلسطينيي الداخل إلى التطوّع في مؤسسات الاحتلال ذات الطابع المدنيّ- مستشفيات، محاكم، وزارات - بدلًا من التطوع في الجيش.
تُجمع كل التيارات الفلسطينية على أن هذا المشروع (الذي تنفذه وزارة الأمن الإسرائيليّة) ليس إلا تمهيداً لفرض الخدمة العسكريّة عن طريق كسر الحاجز النفسي بين الشاب الفلسطيني ومؤسسات الاحتلال. لقد صرفت المؤسسات والأحزاب السياسية الفلسطينية طاقات وموارد كبيرة جداً (لكن ليست كافية) لتثبّت شعاراً أساسياً: «الخدمة المدنيّة - طريقك للجيش»، ولتكشف خديعة الإسرائيليين ومصيدتهم. والآن يأتي ندّاف ويعرض لهم حقيقة الحال على طبقٍ من ذهب.
"ما علاقة الجيش بالسياسة؟"
في مقابلة مطوّلة مع «صوت إسرائيل»، يقول جبرائيل ندّاف أن لا علاقة له بالسياسة. حين سألته المذيعة (ومن النادر في هذه الإذاعة أن يكون الضيف إسرائيليّ الخطاب أكثر من المذيع)، عن كونه رجل دين ويتدخّل بالسياسة، أجاب ندّاف ببراءة: «أنا أتدخل بالسياسة؟ أبدًا! ما علاقة الجيش بالسياسة؟».
لرجل الدين هذا دور سياسي بامتياز، وهو دور خطير. وقد هاجم جزء من العلمانيين ندّاف من باب أنّه رجل يوظّف نفوذه الكنسي لأغراض سياسيّة. وفي هذا الادعاء الكثير من النفاق: على مدى عشرات السنوات، أعطت الحركات الوطنية الفلسطينية في الداخل رجال الدين منبراً سياسياً واستفادت منهم حين كان خطابهم وطنياً. كان القس شحادة شحادة، على سبيل المثال، شخصيةً مركزيّة في «لجنة الدفاع عن الأراضي» التي قادت يوم الأرض 1976 في الجليل، ولا يزال حتّى اليوم المطران عطا لله حنا شخصيّة محوريّة في السياسة.
التشابك بين العمل السياسي والديني متجذّر. ففي مدينة الناصرة مثلاً، هناك مجلس للطائفة الأرثدوكسية. وقد فرض المجلس حرمانًا على نداف بعد تصريحاته. والمجلس هو المالك الرسمي لكنيسة البشارة وسائر ممتلكات الطائفة. فأي مفارقة أن تتولى رئاسة هذا المجلس قيادات محليّة للحزب الشيوعي؟ يدّعي ندّاف أن هذا الحرمان يأتي على خلفيّة شخصيّة بسبب خلافٍ بينه وبين رئيس مجلس الطائفة الذي «أعلن أنه ملحد ولا يؤمن بأن المسيح ابن الله». التشابك الغريب يطرح أسئلة عن دور رجال الدين عند شعبٍ يقبع تحت احتلال، ويعيش حالة تحرر وطنيّ متعثرة وعمل سياسي متثاقل... عن مكانتهم ومدى تأثيرهم ومخاطر منحهم النفوذ السياسي، حتى وأن كانت مواقفهم السياسيّة مشرّفة، لأنهم يستندون الى «قدسية» يصعب السجال معها حين يلزم.
لا يحتاج الجيش الإسرائيلي الى مساهمة من العرب الفلسطينيين، ولا الهدف من سياسات التجنيد تحسين أداء الجيش وزيادة عدده. الهدف الأساسي هو طمس الهويّة الفلسطينيّة، كسر الحواجز الثقافية والوطنية والاجتماعيّة التي تمنع الفلسطينيين من خدمة الاستعمار. التجنيد معناه مصادرة الوعي، بعد مصادرة الأرض ولقمة العيش والبنى الاجتماعيّة. والقيادة السياسية والمجتمعيّة تعرف أنه معترك مفصليّ، وامتحانها الآن في أن تحمي قواعدها من هذا الخطر الداهم.