تخطّت نواة الحركة النسويّة داخل الأراضي المحتلة سؤال الربط بين النضال الاجتماعي والنسوي وذاك السياسي، وحسمته بضرورة وجود هذا الربط. ليس فقط بسبب سطوة الاحتلال وعنصرية أفراده ومؤسساته في وقائعنا اليوميّة فحسب، وليس نتيجة إجماعٍ بطوليّ على ضرورة كشف الوجه السياسي في كل القضايا الأخرى. لكنه ربط يصبح حتمياً عندما تقف السياسة، والاحتلال، عائقًا في وجه تحقيق الانجازات النسويّة داخل المجتمع نفسه.
الإشكاليات الاساسية
عندما تتقاعس شرطة الاحتلال في جرائم قتل النساء الفلسطينيّات اللواتي تمرّدن على قمع المجتمع، عندما تعزز سلطات الاحتلال وجود القيادات التقليدية الحمائلية والدينية - ضد القيادات السياسية المدنيّة، عندما ترتبط المحاكم الشرعية بوزارة القضاء الإسرائيليّة، عند التناقض الجذري بين مطالبة الحركة النسوية بالقضاء المدني في شؤون العائلة من جهة، ومطلبها بالحفاظ على الهويّة الثقافيّة من جهة أخرى، فتكون المحكمة الشرعية سلطة الذكور، أما المدنيّة فسلطة الاحتلال. عندما تصرّ الحكومة الإسرائيليّة على قوانين قامعة للمرأة العربيّة، مثل الممانعة في قانون رفع سنّ الزواج، لأنها «تحترم الهوية الثقافية للأقلية العربيّة»، وعندما تتجمّد الهوية وتتوقف عن تطورها بسبب خوف المجتمع من التماهي مع المجتمع المستعمِر.
في هذا المشهد المعقّد الذي يجبر النسوي على الاصطدام بالسياسي، تصبح الحكومة الإسرائيلية أكثر حرصاَ على «ثقافة العرب وتقاليدهم» من القياديات الطلائعيات في الحركة النسويّة الفلسطينية. السؤال محسوم، لكن المشكلة هي بتطبيق هذا الربط، وتحويله إلى واقع عملي تتبناه الحركة النسويّة.
تعاني قياديّات الحركة النسوية في مختلف التيارات السياسية المحسوبة على اليسار في الداخل من المعضلة التي خاضتها رفيقاتهنّ في جميع الأقطار العربيّة تقريباً، وهي كتم الصوت النسوي في محاولة من هذه الأحزاب لاكتساب قبولٍ جماهيري عن طريق مسايرة الأوضاع الاجتماعيّة القائمة، وكذلك بحجّة أولوية المعركة ضد النظام والاستعمار. أما في فلسطين، ورغم أن مركز ثقل الحركة النسويّة آخذ بالانفصال عن الأحزاب السياسيّة، إلا أن واقع الاحتلال ينقذها من غلطة التواطؤ مع النظام الحاكم لأجل تحصيل بعض الإنجازات الاجتماعيّة، مثل تغييرات في قوانين الدولة أو زيادة الميزانيّات لتمكين النساء في سوق العمل وغيرها، وهذا ما تورّطت به بعض الحركات النسوية في ظل الدكتاتوريّات.
«لن نوزّع وروداَ حمراء»
«معظم الأحزاب عندنا تنادي بمساواة المرأة بالرجل، الجميع ينادي بالعدالة الاجتماعية والحريّة. لكن السؤال هو: من يجرؤ على رفع هذا الصوت بوضوح؟ من يطرح القضايا الموجعة، حتى لو كلّف هذا زعزعة تنظيميّة داخليّة؟» تسأل سهير أسعد (24 عاماَ)، وهي محاميّة متدرّبة وناشطة سياسية ونسويّة ومن المجموعة المؤسسة ل«ثُوري على كل سلطة»، وهي حركة نسويّة طلّابية بدأت عملها في جامعة القدس العبريّة بداية العام 2012، وجذبت إلى نشاطاتها الصادمة عدداً كبيراً من الطلاب الذين شدّتهم (أو أربكتهم) قدرة الانتقال بين الاجتماعي والسياسي بثبات وتناغم. بدأت المجموعة طريقها في فعالية احتجاجية تحت عنوان «حُرّيتي ممارسة يوميّة»، رفعت الطالبات خلالها اللافتات، وجسّدن مواقف قمع للنساء تبدأ بسؤال: «كيف يمكن أن تكون مستعمِراَ ونسوياً؟» وانتهت بـ«عذراء أو مش عذراء.. مش شُغلَكْ». بعد أسابيع قليلة نظّمت المجموعة نشاطاَ للتضامن مع الأسيرة هناء شلبي التي تحررت بعد إضرابها عن الطعام، حيث وزّعت الناشطات على الطالبات والطلاب العرب أقنعة تحمل وجه الأسيرة حتى امتلأت أروقة الجامعة الإسرائيلية وساحاتها بوجه هناء الشلبي، يلاحق الطلاب والمحاضرين الإسرائيليين. أما الندوات والنشاطات التثقيفية فقد افتتحت هذا العام بندوةٍ تحت عنوان «قولوا للمخابرات ما بترهبنا الاعتقالات»، لعرض أساليب المخابرات الإسرائيلية وكيفية مواجهتها أثناء الاعتقال والتحقيق. أما آخر النشاطات التي نظمتها المجموعة فكانت التصدّي للمدون المصري المطبّع مايكل نبيل أثناء إلقائه لمحاضرة في الجامعة الإسرائيليّة. وكانت المجموعة قد أصدرت بياناً بإسمها وقّعت عليه الكتل الطلابيّة الحزبية في الجامعة، «حتى الحركة الإسلاميّة»، تقول يارا السّعدي، طالبة ماجستير في الدراسات الثقافيّة في الجامعة العبريّة، وناشطة بارزة في حركة مقاطعة إسرائيل.
«قلنا اننا هذا العام لن نوزّع الورود على الطالبات»، شددت السّعدي. «انطلقت الفكرة من رفض تحويل يوم المرأة من يومٍ نضالي إلى يوم احتفالي، وفكّرنا في كيفية اعادة القيمة النضاليّة لهذا اليوم، وكان الجواب هو استرجاع النضال النسوي من التحليق الفكري والأكاديمي إلى الأرض: أن نتحدّث عن مشكلاتنا كشابّات فلسطينيّات نعيش في القُدس».
خرجت المجموعة من أسوار الحرم الجامعي، نظّمت مسيرة للتضامن مع الأسير سامر العيساوي في أحياء القدس، ونظّمت مشاركة في قطف الزيتون في أراض يهاجم فيها المستوطنون المزارعين الفلسطينيين. «الكتل الطلابيّة حتى اليوم عملت داخل الحرم، وهذا يفصل همومنا الطلابيّة عن المحيط القريب، ويكرّس تباينات اجتماعيّة موجودة أصلاً، والاحتلال جزء أساسي منها، خاصةً في القدس، بسبب الفصل بين الداخل والقدس والضفة الغربيّة».
لكن عمل المجموعة خارج الجامعة في القدس أو في الضفة الغربيّة يقتصر على القضايا السياسية، كقضايا الأسرى والتصدي للاستيطان، عندما سئلن: «لماذا لا تنزلن إلى البلدة القديمة وتتحدثن هناك عن التحرش الجنسي؟»، ذلك أن العمل على القضايا الاجتماعية الشائكة بين جمهور أكاديمي يبقى أسهل بكثير من الاحتكاك بالقرى والأحياء. «هذا أمر مؤقت» يقلنّ في المجموعة بشيء من الارتباك، ودون طرح الأسباب بثقة.
الاستعمار موقف ذكوري
يدور الحديث عن القضايا النسويّة باعتبارها قضايا اجتماعيّة داخليّة موازية للقضايا السياسيّة، لكننا نتجاهل ما هو أسوأ: ذكوريّة الفاشيّة الإسرائيليّة، عنجهيّة المستعمِر في تعامله مع المرأة الفلسطينية، والأسوأ من هذا، عنجهيته في التعامل مع النسويّات الفلسطينيّات كقاصرات بحاجة إلى إرشاد المتنوّر الأوروبي، بل ويطالب الإسرائيليون النسويّات الفلسطينيّات بتحويل معركتهن في داخل مجتمعهن إلى موقف ضد النضال الوطني الفلسطيني، إلى جانب نصائح حول وجوب ترك النضال السياسي باعتباره «يشوّه عدالة النضال النسوي».
في حديثها، تقول سهير أسعد، وهي من مؤسسات مجموعة «ثُوري على كل سلطة»، أن التعامل الصهيوني في الإعلام والسياسة مع النساء الفلسطينيّات هو صلب القضيّة النسويّة: «المطالبة بتهميش المرأة عن مركز صنع القرار، عن العمل السياسي الجاد والمعقّد، إبعادها عن الحيز العام الذي يؤثر على حياة الجميع وحصرها في حيّزها الخاص. وفكّ الارتباط هذا بين السياسي والاجتماعي، هو ما نناضل ضده». تذكر سهير أسعد خلال حديثها مثال النائبة حنين زعبي، وهي أول قيادية فلسطينية تُنتخب عن حزب عربي في البرلمان الإسرائيلي. وزراء وأعضاء برلمان صهاينة وقفوا أمام الكاميرات ومن على منابر الكنيست يشتمون زعبي. «إنك عزباء في سن الأربعين، حتى في مجتمعك لا أحد يريد الاقتراب منك، ولا نحن نريد الاقتراب منك»، قال أحدهم، «عزباء في سن الـ38، لنرى كيف كانوا سيعاملونك في غزّة!» قال آخر.
«أنت برلمانيّة جيّدة، شابة ومودرن، فلماذا لا تنشغلين بقضايا مساواة النساء، والقضايا التي يمكنها أن تفيد المجتمع، بدلاً من الانشغال في قضايا مستفزّة؟»، قال سياسي إسرائيلي لزُعبي.
النسوي والسياسي من جانبي الخط الأخضر
تتسارع في الضفة وغزّة تحوّلات سياسيّة كثيرة: الانتفاضة الأولى، أوسلو، الانتفاضة الثانية ثم مرحلة ما بعد ياسر عرفات، بما في ذلك الانقسام بين فتح وحماس... أوضاع سياسيّة غيّرت الكثير في البنية الاجتماعيّة الفلسطينية. وكمثال، الاقتصاد المشوّه لأسباب متعلقة باستراتيجيات إسرائيل والسلطة، لا سيما أن تحولات أشكال النضال في المجتمع أثرت في الاقتصاد أيضاً، بين عصامية الانتفاضة الأولى وريعية الضفة اليوم. والأهم، أنها تركت فجوات معرفيّة عميقة بين أجيال فلسطينية نشأت في ظروف مختلفة. برزت أيضاً إشكاليّات ديموغرافيّة بسبب حصر القتال في الانتفاضة الثانية في فئة عمريّة من الرجال، حصدت المعارك والمجازر أرواحهم، أو عطلت الأحكام بسنوات السجن الطويلة على الآلاف منهم، فعالية وجودهم الاجتماعي. ونتجت كذلك مشاكل ديموغرافية عن فصل الضفة عن غزّة، وعن قوانين المواطنة الإسرائيليّة.
تتمحور هذه التغيّرات المتسارعة كلها حول الصراع مع الوجود العسكري للاحتلال، وهي ترتكز على حقيقة أساسيّة: المواجهة لا تزال مفتوحة، والمجتمع يعيش زعزعةً، ولا يمكن للمطالبات النسوية أن تتعمد زيادتها. الفلسطينيون في الضفة وغزّة، بعكس الداخل لا «ينعمون» بثبات النظام السياسي الذي يعيشون في ظله، بغض النظر عن طبيعته. فذاك «الثبات» الذي ناله النظام الصهيوني من اعتراف الأنظمة العربيّة (بما فيه منظمة التحرير) به، هو حالة فتحت لفلسطينيي الداخل حيّزاً لنشاط ثقافي واجتماعي مختلف وأكثر اتساعاً مما نراه في الضفة وغزّة، وهذا ما مكّن من ظهور حركة سياسية/اجتماعيّة مثل «ثُوري على كل سلطة».
ينعكس ثبات النظام الصهيوني بالنسبة لفلسطينيي الداخل بثلاث صور أساسيّة:
أولاً، العمل على هامش الأكاديمية الإسرائيلية في مواجهة استشراق ممأسس. فالدراسة الإجتماعيّة الإسرائيلية للفلسطينيين تتجاهل ضرب الاستعمار للمجتمع، وتعتبر التخلّف قيمةً متأصلة فيه. لمواجهة هذا تجتهد الأكاديميات/يين الفلسطينيين لربط السياسي والنسوي. هذه المناكفة الأكاديميّة التي تثمر على المستوى النظري، متاحة في الداخل لكنها غير متاحة في جامعات الضفة وغزة.
ثانياً، شهدت السنوات الأخيرة زعزعةً للبرامج السياسيّة للأحزاب الفلسطينيّة في الداخل. سقوط حلّ الدولتين أسقط قبول التجزئة، وأسقط اعتبار الداخل مسألة حقوق داخلية في إسرائيل. وراح الكثير من المناضلين والمناضلات يعيدون صياغة فكرة الدولة العلمانيّة الواحدة وإسقاط «ثابتة» الاستعمار، وهم على علم أن خطاب الدولة الواحدة الذي مر بتهميش وتسخيف على مدى سنوات طويلة يحتاج إلى تغليف جذّاب وجديد، وقد اعتمدوا كثيراً على المرجعيات الغربية. لكن القيادة المحافظة للأحزاب السياسية أعاقت هذا التوجّه لكي تتمكن من مواصلة العمل داخل «حيز الديمقراطية الإسرائيليّة»، وكانت هي ذاتها القيادة التي أعاقت كل توجّه اجتماعي ونسوي جريء. هكذا اجتمع التمرّد على القيادة المحافظة في راديكالية النسوي وراديكالية السياسي.
ثالثاً، المواجهة المفتوحة والمباشرة مع العسكر الإسرائيلي في الضفة وغزّة جمدت مكان المرأة. للمرأة دور ثابت لا يمكن التنازل عنّه، ووسط المعركة لا يحتمل المجتمع زعزعة أسسه من الداخل. في ثقافة المواجهة المفتوحة مع الجيش الإسرائيلي، ورغم مئات الحالات البطوليّة التي خاضتها النساء، تنحسر صورة المرأة نحو توفير القاعدة الاجتماعيّة للعمل الفدائي. في الشعارات والرموز تبقى هي أم الشهيد، والفتاة التي تحضر الحجارة للشبّان، والأخت التي تعد الطعام وتوصله للفدائيين.
المواجهة المفتوحة في الضفة وغزّة تجمّد مكان المرأة في مجتمعٍ يلهث وراء التغيّرات متأهباً للإنفجار في أي لحظة، ولا يقبل فوق كل مصائبه زعزعةً أخرى من قلبه. أما في الداخل، فالمواجهة غير مباشرة، بطيئة ومركّبة. المجتمع الفلسطيني في الداخل يعيش نهج اقتصادي واجتماعي «مستقر»، يمكّن المرأة من إعادة النظر بمكانتها والتشكيك بالترتيب الاجتماعي القائم.