علي

في هذه الحلقة الثالثة من رواية اليمن اليوم، يمن الحرب والخرابات، ، نتعرف على عليّ، الشاب الريفي الذي وصل الى الجامعة وعاش في المدينة متنقلاً بينها وبين قريته..
2019-06-27

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
الطيب ضو البيت - السودان

يعكس وعي عليّ رغبته الملحة في الحياة والحب. وبالنسبة لفتى ريفي، كانت المدينة بحراً يجرب السباحة فيه: ملامحه الكابية، هزاله، ملابسه النظيفة غير الأنيقة، سعة إطلاعه، واحترامه لكل القوانين. تخلى عليّ تقريباً عن جلده أثناء دراسته الجامعية، انتزع منه ما أستطاع: لهجته القروية الفجة، لحيته المتناثرة، نمط ملابسه البسيط. تبقت ملامحه الكابية وهزاله، وأيضا أسنانه المصفرة. ما زال يحاول. في سنته الثانية أصبح أضحوكة زملاءه عندما قرر أن يبوح لهم بإعجابه بإحدى أغنى الفتيات في الكلية. في السنة الثالثة أصبح محشوراً في غرف "الشات". بعد الجامعة عمل "طابعاً" في إحدى الصحف المحلية وأصبح الإنترنت في متناول يده في الليالي التي يعمل فيها، تعرف على الفيسبوك، ليصبح شاهداً سلبياً على الأحداث، قبل أن يتحول مساره فيصبح مشاركاً فيها.

في قريته، ظل عليّ كما كان، أحد أولادها الكثر، لكنه أحد القلائل الذي يقطنون العاصمة والذين تخرجوا من جامعاتها. وهو ما زال مثالاً ناجحاً للمراهق الذي يعتني بنفسه مادياً. في الصف السادس اشترى "معزة" صغيرة، وبعدها أصبح لعليّ حياته المالية المستقلة، وبدون تلك المعزة البيضاء لم يكن عليّ ليكمل الجامعة. صغارها الذين تكاثروا، تعتني بهم الأم والأخوات حتى موسم الأعياد. يباعون فيجلبون كسوة عليّ ومصاريفه، أو يشترون بأثمانهم صغاراً آخرين أرخص ثمناً يكبرون ويلقون المصير ذاته، لكنهم يشقون طريق الفتى المجتهد. عليّ أحد رموز قريته، العانس الوحيد في سنه. تزوجت الفتيات اللواتي في سِنّه وما بعد وبعد سِنّه، ولم تبق سوى الفتيات اللواتي شهد ولادتهن حين مراهقاً. وما أن تقترح عليّه أمه أسماؤهن حتى ينتفض مرتاعاً من الفكرة، وتستغرب هي ردة فعله التي لا يمكن أن تصدر عن ذكر طبيعي. لم تكن تعرف أن رفض عليّ ليست فقط أنهن ما زلن أطفالاً، بل أيضا فكرة الحب الملتهب التي مزقت قلب ابنها بالحنين منذ كان صبياً.

____________
من دفاتر السفير العربي
اليمن بعدسة ريم مجاهد
____________

تلك الفكرة التي وجدها أخيراً على الفايسبوك. كان عليّ يبحث في كل الأماكن إلا على الفايسبوك. وعلى عكس نادية، لم يبد عليّ إهتماماً حقيقياً بمواضيع الحب في العالم الإفتراضي. كانت السياسة شغله الشاغل، ولكي يثبت لنفسه وللآخرين فكرة يساريته وإنتمائه لأيديولوجيته، انخرط في سجالات مستمرة بدءاً من صيف الثورة (2011)، دافع عن مبادئه باستماتة، وكان غالبا ما يبدو ساذجاً وحالماً، خاصة لأولئك الذي سبقوه في الحلم. كان عليّ في السياسة مثله في الحب: خاماً وجديداً على التجربة، لذا من الطبيعي أن يكون ساذجاً لدرجة ما، أو لدرجات كثر. وربما لهذا السبب دمرت التجربتان حياته، إذ تبين أنهما كانتا تسيران بخطين متوازيين، ولم تكونا لتلتقيا: الحب والمبادئ . ففي العالم الحقيقي، يمكنك فقط أن تقول شيئاً لكنك ليس دائما تستطيع فعله، على الأقل ليس عليّ.

يمضغ عليّ قاته بجانب النافذة الحديدية للغرفة التي يتشاركها ثلاثة. غرفة مستطيلة وممر ضيق يؤدي إلى حمام ومطبخ متجاورين، في الممر المغطى بسجادٍ كان يوما ما أزرق اللون، يرمي الشبان الثلاثة أحذيتهم بأحجامها المختلفة. لم تكن كثيرة، لا يملك الواحد منهم أكثر من حذائين رياضيين. قريباً من المطبخ، غُرِس مسمار بجذع دائري أكبر من العادة، وكمسمار جحا، كان هذا مسمار شوقي، الشاب الأصغر في الشقة، يعلق عليه ثيابه نصف المتسخة، وحقيبته، وشال يوم الجمعة، وجاكيت الشتاء، الجلدي الممزق عند المرفقين. أما عليّ والآخر فقد احتفظا بكرتونتين كانتا يوماً لقناني الماء، وفي الكرتونتين تتجمع الثياب المتسخة، وخاصة الجوارب المتعفنة. كانت رائحة الكرتونتين لا تطاق في أيام الخميس. في يوم الجمعة قبل الصلاة، يحمل الشبان عفن ملابسهم للمغسلة القريبة، ثم في نهار السبت يمرون لاستردادها. لم يهتم عليّ يوماً بأي من تلك التفاصيل، كانت تفاصيل شوقي لوحده، حاول جاهداً أن يحافظ على الحمام نظيفاً، أن يلزمهم بالقوانين التي إخترعها، وجداول التنظيف المعلقة دون أن تُقرأ على باب المطبخ وفي الحمام نفسه، بحيث فكر أنه لن يسمح لهما بالتبرز دون قراءة التعليمات. الشيء الوحيد الذي كان يلفت انتباه عليّ هو سجاد الغرفة والممر، تلك الألوان الميتة كانت دوماً تذكره بجثة ما، ولأن عليّ يسكن تلك الشقة منذ أربع سنوات، ارتبطت ذكرى كل موت بذلك السجاد، وبقي في الذاكرة جثة حقيقية.

المدينة مطفأة في الأسفل. لليال طويلة أضاءتها القذائف والصواريخ، مدينة لا صوت يعلو فيها على صوت الرصاص والمولدات الكهربائية. في أيام القصف الأولى، كانت الشوارع تفرغ من متجوليها بعد العاشرة. تكتظ السماء حين تفرغ الشوارع. تحوم الطائرات بصوتها المرعب، ويعد الناس اللحظات لوصول ملاك الموت. كل من يتحرك بعد الحادية عشرة يبدو كلص ينسل بين الجدران. رجال محنيو الرؤوس، يسيرون بسرعة وخفة، ما زالت أفواههم ملأى بالقات وعيونهم محمرة، في إحدى الليالي وبينما عليّ عائد من منزل صاحبه، غذ الخطى ليصل الى هضبته المطلة على المدينة وحرائقها. وبينما كان ينسل مثل كل الرجال تحت الشبابيك المطفأة لبيوت الفقراء الذين لا يملكون مولدات كهربائية، حلقت طائرة على إرتفاع غير بعيد، تبعتها أخريات. لم يقرر جسد عليّ إن كان بارداً أم ساخناً، ولم يعرف إن كان مرعوباً أم فاقد الإحساس. كل من كان هناك عرف أن الطائرات لم تكن بذاك القرب، لكن أصواتها المرعبة تنبئ عن حمولة سيفرج عنها. تقافز رجال من مختلف الاتجاهات، محاولين إيجاد مخابئ. شاهد رجلاً يلتصق بأحد الأبواب المغلقة، وآخر يحتمي بشجرة، شاهد رجلاً يمسك كيساً كبيراً ويحاول إبعاده عن ساقيه بينما كان يجري. رجال هنا وهناك صنعوا قرارات النجاة بلحظة، بينما تسمّر عليّ لا يلوي على شيء، لم يكن هناك من مخبأ، ولم يستطع التفكير أبعد من أن يجد باباً مفتوحاً فيختبئ في درجاته. وبالطبع لن يجده في هذا الليل الزاخر بالرعب. ارتعدت الأرض، قذفت بعليّ قوة جبارة، ارتد عن الجدار المقابل وانكفأ على وجهه، أحس أن وجهه سُحق تماماً، وشعر بعظام ظهره تتفكك، ارتفعت صلوات من خلف النوافذ، وبكى أطفال شبه نائمون، وبدأت ولولة نساء ورجال يذكرون اسم الله كثيراً، وما زالت الطائرات تحوم. تمنى عليّ أن يكون في حلم وأن يصحو ليجد الطائرات تقصف الجبل، لكن رطوبة الدم التي أحس بها على وجهه وفي فمه أيقظته من حلم "الحلم".

حين أفاق، تفقد هاتفه، ودونما تفكير، كان عليّ يحتفي بنجاته ويعترف، كمن يقول كلماته الأخيرة، كتب رسالة واتساب:

" سلمى، يا حبيبتي، أنا أحبك جداً، أحبك لأني حي ولأني كدت أن أموت، أحبك في كل تفاصيل هذه المدينة المحروقة، أرجوكِ، أريد أن أراك، أريد أن أخلق وجهك في ذاكرتي، كدت أموت يا سلمى، كادت الشظايا أن تمزقني، لكني نجوت لأجلك، لأجل أن أراك".

في أقصى المدينة، في شقة من غرفتين، كانت سلمى تحاول أن تنام، بعد سماع صوت الانفجارات. بعد نصف ساعة من إرسال عليّ لرسالته، استسلمت سلمى أخيراً للفضول وقررت أن تشغل شبكة الإنترنت على هاتفها، والتي ستكلفها الكثير. حين تسملت رسالة عليّ، قفزت جالسة، لم ينتبه من يشاركونها الغرفة، أمها ما زالت تبتهل، قرأت الرسالة مرة أخرى. اشتعلت كتلة نارية في أعماقها، أُطْفِئت بالرعب، ثم عادت وأشتعلت. فكرت بكم الحقائق التي لم تفصح عنها، دافعت عن نفسها حين لمحت كلمة " أكاذيب". هي فقط لم تقل الحقيقة، لأن أحداً لم يسألها، لكن كلمة الأكاذيب عادت للأمام، كم من الأكاذيب يجب أن تنسجها الآن؟

الحلقة الأولى
الحلقة الثانية

مقالات من اليمن

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...

اليمن: كوارث السيول في "تهامة"

اتّسمت الاستجابة الرسمية في تعاطيها مع الكارثة، بمستوى متواضع، يتجلّى من خلاله الأثر البالغ للحرب والصراعات السياسية، في الوصول إلى هذه الحال البائسة التي ظهرت عليها الجهات المسؤولة في حكومتي...