شهدت أيام رمضان أعمال عنف من تفجيرات ومفخخات وانتحاريين بطريقة فيها من القسوة ما يجعل منافذ الحياة اليومية للعراقيين تضيق أكثر فأكثر. فإن كان الفاعل مجهولاً كالعادة ـ وهو فاعل مؤثر وموجود ـ فإن هناك فاعلاً معلوماً آخر يمشي تحت أغطية مختلفة، منها ما هو رسمي، ومنها ما هو ميليشياوي. ونعني بذلك ما حصل أخيراً من إغلاق لمقاه وكافتيريات في منطقة الكرادة وبعض المناطق الأخرى من بغداد بقوة السلاح.
تزامن الحالتين أثار جدلاً، لتواشج الصلة بين تفجير المقاهي من فاعل مجهول، وإغلاقها من جهة أخرى من قبل محافظ بغداد الجديد، علي التميمي، المعيَّن قبل نحو شهر ونصف شهر (وسمّى نفسه خادم بغداد، وهو ينتمي الى التيار الصدري) وعسكره، في ظلّ أنباء عن تشكيل محافظة بغداد، بإدارتها الجديدة، فرقة خاصة اسمها «فوج طوارئ»، من مهماتها إغلاق التجمعات الشبابية من مقاه وأماكن لهو في العاصمة. كما نقلت الصور والتصريحات وشهود العيان الطريقة المفاجئة التي تولاها المحافظ ومجموعاته العسكرية في التطاول على منافذ يومية يرتادها الشباب بعد الإفطار، بعدما شحّت سبل المتعة وانغلقت أبواب الوقت الفائض أمام الجميع. وفي هذا السلوك المتطرف تجاوز على الحريات العامة، وهي ممارسات ورثها التميمي من سلفه، المحافظ السابق لبغداد، صلاح عبد الرزاق (من حزب المالكي، «الدعوة الاسلامية»)، الذي عُرف بأنه «بطل» إقفال النوادي الليلية ومحال بيع الخمور في عاصمة الرشيد.
الفكرة فيها سذاجة. فالمحافظ التميمي عندما تسلم منصبه الجديد ارتدى بزة عمل مزينة بعبارة «خادم بغداد» وهي إشارة إلى أنه رجل خدمي وعملي غير مكتبي، بمعنى إن الميدان البغدادي هو ساحة عمله كل الوقت ليطّلع على احتياجات البغداديين. ولو سلّمنا جدلاً بهذه الفكرة، فعلى المسؤول الميداني أن يرى النقص الفادح في الخدمات من كهرباء تعسرت كثيرا على العراقيين، ومن مياه متقطعة في فصل الصيف الساخن، وشوارع وارصفة مهملة، وبطالة ضاربة في روح المجتمع، لا سيما بين الشباب الخريجين الذين لم يجدوا فرص العمل منذ عشر سنوات، بعد هيمنة حزبية مطلقة على الوظائف العامة وزج عناصر غير مؤهلة في مرافق الدولة.
خادم بغداد في أولى فعالياته الميدانية شنّ هجوماً على مقاهي منطقة الكرادة الواقعة وسط العاصمة، بذريعة شهر رمضان الذي لا يجوز فيه أن تُفتح المقاهي و«الكوفي شوب» والكافتيريات حتى ولو بعد الفطور! وهو أمر غريب جدا لأنه يفترض بالمحافظ أن يعرف إن المقاهي والكافتيريات هي من مظاهر العاصمة القديمة وتراثها المحلي، وربما يعرف أن مثل هذه الضروريات الاجتماعية ليست ترفاً بقدر ما هي إحدى وسائل الاتصال الاجتماعي... بما يعني محاولة طمس معالم بغداد التراثية والسياحية من جهة، ومن جهة أخرى فرض حصار نفسي على شرائح مجتمعية متعددة وأهمها الشباب العاطل، الذي وجد نفسه بين كماشات مختلفة. وآخر مقهيين تمّ إغلاقهما هما «أرادن» و«البغدادي» المطلّين على الشارع الرئيسي للكرادة.
اللافتات والأنباء الفورية أشارت بسرعة إلى أن عشائر وشباب منطقة الكرادة هم من قام بإغلاق هذه المقاهي، وذلك تحت مسمّى «شيوخ عشائر الكرادة الشرقية»، بمبرّر غريب هو «اللأخلاقية» من دون أن نفهم كيف يكون ذلك في مقاه مفتوحة وعلنية. ومن المؤكد ضلوع الشرطة المحلية بأفواج كثيرة بغلق هذه الأماكن. وقد صدرت أخيراً عن المتحدّث باسم عمليات بغداد، سعد معن، تصريحات تحاول تبرير هذا القرار، أعلن فيها أن «الأوامر صدرت بإغلاق المقاهي التي تشغّل القاصرات من الفتيات كنادلات»، وهو ما كذّبته وقائع إغلاق جميع مقاهي المنطقة، حتى تلك التي لا تعمل فيها نادلات قاصرات.
وتواصل مسلسل التناقضات في تصريحات المسؤولين العراقيين حول هذه «الفضيحة»، إذ أوضح رئيس الوزراء نوري المالكي أنه تم إلقاء القبض على الفاعلين ودان الميليشيات والعصابات التي حاولت أن تكون بديل الدولة في الحد من بعض المظاهر الاجتماعية، والنزوع الى فرض سيطرتها خلافا للقوانين المحلية والوطنية. وبطبيعة الحال، لم يسمِّ تلك الميليشيات ولا العصابات ولا الجهات التي تنتمي إليها. غير أن شيوخ ووجهاء منطقة الكرادة ردوا على رئيس الوزراء بشعارات وزعت في الأماكن المغلقة أشاروا فيها إلى «ضلوع» السيد المالكي بتنفيذ هذه الحملة وأنها تمت بأوامره!
واقع الحال يشير إلى أن جمهرة من العسكر والشرطة أحاطت بمقاهي الكرادة واغلقتها بقوة السلاح، وليس هناك عشائر مناطقية، ولا شباب ساهموا في هذه العمليات التي تكررت ايضا في الأيام التالية. وكل الشعارات واللافتات التي وضعت وتوضع يوميا هي من تدبير الجهة نفسها.
الصحافة المحلية والمواقع الثقافية والعامة ووسائل الاتصال كتويتر وفيسبوك، شهدت انتفاضات صريحة وسريعة ضد الخطوة. شبهات كثيرة تحيط بالأمر، منها ان التجمعات في المقاهي تؤسس لمعارضة، نفسية في مقامها الأول، ومن ثمَّ سياسية قد تتسع بشكل لا يمكن السيطرة عليه. وفي العراق ممارسات تتشبه بتلك التي قامت في مصر بغاية الأسلمة القسرية لشعب عريق، و«خادم بغداد» يرى الامور من زاوية حزبيته الإسلامية، فيربك الشارع العراقي على حساب الخدمات المنتظرة منه.
والمقاهي البغدادية ليست بعيدة عن مناقشة واقع الحال الاجتماعي والسياسي وتكوين بؤر تفترعها ثقافة الحس الوطني، إذ هي على مر تاريخها عرفت حضورا سياسيا كبيرا أرّق السلطات المتعاقبة، لهذا تخشاها تلك. فوجود هامش بسيط من الحريات سيصعّب السيطرة عليها. هذا كل ما في الأمر!
مواضيع
«خادم بغداد» يغلق مقاهي المدينة
مقالات من العراق
فتاة كقصبة ال"بامبو"
"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...
العراق: ما تداعيات انخفاض أسعار النفط على الموازنة ورواتب الموظفين؟
يعتمد العراق بنسبة كبيرة على بيع النفط الخام في تأمين إيراداته السنوية ودفع الرواتب وبقية المستحقات الأخرى، فيما يواجه قطاع الزراعة الذي كان يمثل أحد .روافد الإيرادات في السابق، تدهورا...
القضاء المدني وصراع البقاء في العراق
المعارك القانونية حول تعديل قانون الأحوال الشخصية في العراق، كانت ولا تزال مستمرة منذ سنوات. لكن الأمر هذه المرة وصل الى حد أن أصدرت "نقابة المحامين العراقيين" بياناً، أعلنت فيه...
للكاتب نفسه
البرلمان العراقي ومشكلة مزدوجي الجنسية
معركة سياسية قريبة يتوقع أن يشهدها البرلمان العراقي بشأن مشروع أقرّه مجلس الوزراء في 16 تموز/ يوليو الماضي، يقضي بإسقاط الجنسية الثانية عن أي مسؤول عراقي كي يحتفظ بمنصبه، وحصر...
أرسين لوبين في رمضان القديم
ما كان يشدنا الى رمضان أيام زمان هو طقوسه وفرادته، لكونه شهراً متميزاً بكل شيء. ربما هذه نظرة طفولية سريعة لما مضى، فالطفولة اصل الأشياء، وفطرة الأرواح. فمن تلك الطقوس...
انتخابات نيسان العراقية... ديموقراطية الموتى !
على نحو مبالغ فيه، يحيلك المشهد الى سنوات ماضية حينما امتلأت بغداد ومحافظات العراق بنفايات ملصقات المرشحين الى مجلس النواب أو مجالس المحافظات ، اكتظت بغداد من جديد ومناطق العراق...