أرسين لوبين في رمضان القديم

ما كان يشدنا الى رمضان أيام زمان هو طقوسه وفرادته، لكونه شهراً متميزاً بكل شيء. ربما هذه نظرة طفولية سريعة لما مضى، فالطفولة اصل الأشياء، وفطرة الأرواح. فمن تلك الطقوس اليومية الفردية التي يسبغها رمضان على الحياة بصورة عامة، تبقى متلازِمة إحيائها قانوناً نفسياً يتدرج مع العمر ويكتسب قطعيته في مراحل مختلفة من النمو النفسي والعقلي.يوم كان والدي رحمه الله يصوم، يكون البيت في نفير عالٍ من
2013-07-17

وارد بدر السالم

كاتب من العراق


شارك
(أحمد الربيعي ــ أ ف ب)

ما كان يشدنا الى رمضان أيام زمان هو طقوسه وفرادته، لكونه شهراً متميزاً بكل شيء. ربما هذه نظرة طفولية سريعة لما مضى، فالطفولة اصل الأشياء، وفطرة الأرواح. فمن تلك الطقوس اليومية الفردية التي يسبغها رمضان على الحياة بصورة عامة، تبقى متلازِمة إحيائها قانوناً نفسياً يتدرج مع العمر ويكتسب قطعيته في مراحل مختلفة من النمو النفسي والعقلي.
يوم كان والدي رحمه الله يصوم، يكون البيت في نفير عالٍ من الاستعداد للهدوء وعدم الصخب. فالصائم له مزاجه وطقسه الروحي واعتباراته التي لم نكن ندركها. لهذا كنّا نهرب من الصائمين كي لا نثير حفائظهم ونوتّر أعصابهم، لا سيما في أجوائنا الحارة جداً في البصرة، إذا ما صادف رمضان أن يكون في مثل هذه التوقيت الذي عليه نحن اليوم من حرارة خمسينية قاتلة لا ترحم.
ربما رمضان أحد أسباب عكوفي على القراءة. لا أتذكر بالضبط. غير أن سطوة الوالد كانت تُلجئنا الى أن نلوذ بالصمت وعدم إثارته، وبما أن مطالعة الكتب المدرسية مزعجة ومملة، فالبدائل كانت غير متوفرة للأسف في ذاك الزمن. لا تلفزيون. لا مذياع. لا صحف. وبما أن الجو الصيفي الساخن يجبرنا هو أيضا ان نلوذ بظلال البيت، إذن لا بد من بدائل نزجي بها نهارات رمضان الكئيبة علينا. فالصوم بحد ذاته بالنسبة لتلك الأعمار مجرد وسيلة طقسية نتشارك بها مع الأهل والجيران والآخرين، وهو لا يتعدى بضعة أيام تُقضى بشرب جرعات من المياه خفية. والتسلل الى قدور الطبخ خلسة. ومن ثم يكون الإفطار علنياً، إذ لا مفر من الإقرار بعجزنا عن مواصلة هذا الطقس المتعب في تلك الأعمار البريئة.
في مثل هذه الاختناقات، أجد عادة كتباً في غرفة والدي لشرلوك هولمز وأرسين لوبين وروايات جرجي زيدان التاريخية وروايات أغاثا كريستي البوليسية، فهي فرصة ثمينة لتمضية الأوقات الرمضانية، لا سيما في ظهيرتها الملتهبة، وهو نوع من الهرب النفسي لثقل الوقت الذي نستشعره على الصائم، ليكون الوقت فينا أكثر ثقلاً وبطئاً، فالضوابط تقضي بالهدوء، والساعات لا تسير كالمعتاد وصيف البصرة لا ينتهي كما هو معروف!
سيبدد هؤلاء الأشخاص الغامضون ساعات مريرة تمر بها الطفولة، بعصبية لا مبرر لها، كما كنا نعتقد، من دون معرفة خوالج الصائم ولا اضطراباته الغذائية وحاجته الى الماء وتوقف الزمن الصيفي بشكل خاص.
في المدينة يكون النظام هكذا تقريباً: قراءة إجبارية وإغفاءات متتالية ونوم اضطراري وهرب لا مفر من تشكيل صورته عبر القراءة ولا غيرها، والحقد الباطني على هذا الشهر الذي يمنعنا من ممارسة يوميات أكثر جمالاً ومتعة وانتشاراً مع الأصحاب، ولعبتنا المفضلة كرة القدم الصغيرة المصنوعة من البلاستيك المطاطي المتوفر بكثرة. تلك أيام المدينة الصيفية الضاجة بالخمول والفقر أيضاً، والهرب من واقع طقوسي. ويكون الليل بالتالي هو المفضل لدينا كصغار، نشهد فيه انفراج الأسارير والارتواء والوجوه المتفتحة والتزاور وتبادل الأطعمة وروائح المطابخ وأكل الحلوى ولعب المحيبس... فمثل هذه هي ما شكلت فرادة في الانتباهات الأولى لمثل هذا الشهر، وهي تشكّلات استمرت عمرياً ولم تتغيّر، فالطقوس ذاتها والصيف ذاته وعصبية الصائمين لم تتغير صيفاً ولا شتاء.
لكن يحدث أن تتضافر سنوات معينة في عقدة فلكية مفهومة، ليكون رمضان شتوياً. عندها يكون الأمر أكثر بساطة ودِعةً، فالآباء والأمهات لا يشعرون، ونحن معهم، بمرور النهار البارد أو الممطر، فنصف الوقت يكون في المدرسة أو الدوام الرسمي للكبار، ولا تبقى إلا ساعات لا يستطيع زمن الشتاء إبطاءها، لهذا يكون رمضان الشتوي غيره عن رمضان الصيفي في استقبال مثل هذا التاريخ السنوي.
في رحلتي الشتاء والصيف، ومع تقادم العمر، سيكون واضحاً لنا إن ما حصل من تشكلات ذهنية اولية، طقوساً ومعارفَ دينية اولية أو اجتماعية، هو نواة أولى لبعض المفاهيم التي تستدرج المرء منذ طفولته الى غابة أوسع وأكثر تشابكاً.
ربما كنت أفضل من الكثير من أقراني، أن أقضي ظهيرات رمضان المثقلة بالبطء بالقراءة. فبعد مرافقة ارسين لوبين واغاثا كريستي، جاء دستويفسكي وتشيخوف وأدغار ألان بو ونجيب محفوظ وأحمد شوقي والجواهري وطه حسين وغيرهم..
رمضانكم مبارك. وكل عام وأنتم بخير.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه