أزمة حقيقية ستواجه بلدان منطقتنا: أزمة المياه، أو «الفجوة المائية». وستكون معياراً حقيقياً يقابل مادة النفط، حتى تصبح قطرة الماء تساوي قطرة النفط! فالعلاقات بين الدول المتشاطئة، من زاويتها السياسية في أقل تقدير، موضع إشكالية فعلية. وتُستغل الموارد المختلفة، وهنا المياه، للضغط السياسي كما يحصل عادة مع النفط.
والعراق موطن نهرين دوليين كبيرين (دجلة ـ 1900 كلم، والفرات ـ 2780 كلم) ينبعان من خارج حدوده: دجلة من تركيا ويصب في العراق مباشرة، والفرات يمر عبر الأراضي السورية قادماً من تركيا ايضا. وهما يلتقيان في شط العرب ويسيران معاً، مختلطين، على مدى 200 كلم قبل أن يصبا في الخليج العربي. ويكوِّن العراق المجرى الأسفل للأنهار وجميع روافدها التي تنبع هي الاخرى من تركيا، باستثناء «الزاب الصغير» و«ديالى» اللذين ينبعان من إيران، الى جانب وجود العديد من الأنهار الصغيرة الحدودية .
يدخل دجلة الأراضي العراقية من منطقة «فيش خابور»، أما الفرات فيمر عبر الأراضي السورية حيث كانت المياه لا تستخدم إلا بنسبة ضئيلة لكون غالبية الأراضي السورية تسقى بنظام الري القديم (النواعير)، أو الري السيحي. وفي الماضي، كان العراق يتعرض الى فيضانات كارثية تغرق الكثير من المدن والقرى، وخاصة في شهر نيسان/إبريل من كل عام. وقد شهدت كل الفترات الماضية أزمات مائية بين العراق وجيرانه أدت الى إبرام اتفاقيات وبروتوكولات عديدة، كان يتمّ تنفيذ بعضها، في حين يبقى البعض الآخر قيد الإهمال لأسباب أمنية وسياسية.
تبدأ المشكلة المائية من تركيا وتنتهي بها الى حد بعيد. فالتقرير الذي أعدته «المنظمة الدولية للبحوث» أكد أن هناك نقصاً كبيراً في الحصص المائية ضمن حوض نهر الفرات. فالإيراد المائي سيبلغ 32 ملياراً و140 مليون متر مكعب بحلول عام 2040، مقابل احتياجات العراق التي ستبلغ حينها 23 مليار متر مكعب. أما حاجة كل من سوريا وتركيا فستصل إلى 30 مليار متر مكعب. وعلى هذا الأساس، وبحسب المنظمة، فإن الواردات النهائية للنهر لن تكفي لتغطية الاحتياجات الكلية، ما يؤدي إلى خسارة العراق، المصب الأخير للأنهار، موارده المائية بالكامل. وهذا، مع توقع جفاف نهر دجلة عام 2040، يعني أن العراق مقبل على كارثة تصحر كبيرة، والمتوقع أنه سيتحول الى جزء من صحراء البادية الغربية خلال ثلاثة عقود مقبلة. أي ...غداً! خاصة أن حاجة العراق السنوية من المياه تقدر بـ50 مليار متر مكعب، 60 في المئة منها يوفرها دجلة والباقي يأتي من الفرات، فضلاً عن طاقة خزن فيه للسدود والخزانات والنواظم بنحو 149 مليار متر مكعب.
وقد أظهر المسح الميداني، الذي أجراه الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة الموارد المائية العراقية، عن أن 21 في المئة من سكان المدن العراقية لا يحصلون حالياً على مياه صالحة للشرب. وترتفع النسبة في الأرياف لتصل الى 40 في المئة.
تاريخ العلاقة بين دول الفرات
في الماضي، لم يثر استغلال المياه في العراق أي مشكلة بسبب وقوع نهر الفرات من منبعه الى مصبه تحت سيادة دولة واحدة، هي الإمبراطورية العثمانية. ولكن بعد ذلك، قسِّم مجرى النهر بين ثلاث دول، هي تركيا وسوريا والعراق، وتغيرت هويته، اذ أصبح بعد عام 1918 نهراً دولياً. وبالرغم من الاتفاقيات الثلاثية والثنائية التي عقدت بين العراق وسوريا وتركيا منذ عام 1920، لتقسيم المياه في ما بينها، والتي كان آخرها عام 2008، بين رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ورئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان خلال زيارته للعراق، إلا أن الجانب التركي واصل نقضها، وقام ببناء السدود البالغة 22 سداً لحد الآن، مانعاً بهذا تدفق المياه الى العراق وفق النسب المطلوبة.
يقع تنظيم القوانين الدولية لنهري دجلة والفرات ضمن نطاق معاهدة لوزان التي أُقرت العام 1932، والمادة 109 التي تحدثت عن الحقوق والمصالح المشتركة، بحيث يتم، وفي حالة تعثر الاتفاق بين الدول، اللجوء الى التحكيم العام. وافق العراق في العام 1947، على عقد معاهدة صداقة وحسن جوار مع تركيا، ألحق بها ستة بروتوكولات تضمنت تنظيم الانتفاع بمياه نهري دجلة والفرات، وتفادي أضرار الفيضانات، وإقامة مشروعات للمحافظة على المياه، وأنْ توافق تركيا على مبدأ إقامة أية مشروعات تثبُت ضرورة إقامتها. وفي العام 1966، قامت تركيا ببناء سد «كيبان» الذي بلغت سعة الخزن فيه حينها 30,5 مليار متر مكعب، وإنشاء محطة كهربائية قوتها خمسة مليارات كيلوواط . اما سوريا فقد قامت ببناء سد كبير على نهر الفرات يسمح بتخزين المياه بحجم إجمالي قدره 11,9 مليار متر مكعب ومحطة كهربائية بقوة 800 الف كيلوواط. وهكذا بدأت كل من تركيا وسوريا بتنفيذ مشاريع استغلال مياه الفرات من دون مراعاة لحقوق العراق المكتسبة في مياه النهر، التي قدّرها الخبراء حينها بـ 18 مليار متر مكعب.
وبعد تاريخ من العلاقات المائية المتأزمة بين سوريا والعراق، توصل البلدان، في العام 1990، إلى اتفاقية لاقتسام مياه نهر الفرات، بنسبة 58 في المئة للعراق و42 في المئة لسوريا على اعتبار أن مساحة العراق أكبر. وبالرجوع إلى البيانات المتعلقة بتصريف نهر الفرات، ومقارنتها مع حجم المطالب الاستهلاكية للدول الثلاث، ترى تركيا انه من المستحيل تنفيذ ذلك. حيث أن 88.7 في المئة من إجمالي إيرادات نهر الفرات المائية تأتي من تركيا، في حين تساهم سوريا بنحو 11.5 في المئة، بينما العراق لا يساهم بأية كمية. وكانت هذه المبررات عاملا مساعدا وأساسيا لاستمرار الجانب التركي بحرمان العراق من المياه.
يبلغ ارتفاع منسوب المياه في سد «ليسودام» في منطقة «حسن كييف» التركية أكثر من 60 متراً، حيث سيكتمل بناؤه عام 2014 ليصادر أكثر من 50 في المئة من مياه نهر دجلة، الذي سيصبح هو الآخر شحيحاً كالفرات، الذي صادر سد «أتاتورك» نسبة كبيرة من مياهه تصل الى 60 في المئة. وهما جزء من مشروع «الغاب» التركي الذي خطط لتشييد 22 سداً بسعة خزن تتجاوز 100 مليار متر مكعب. وسيحرم شح المياه العراق من ثلث مساحة أراضيه الصالحة للزراعة، فضلاً عن تسببه بنقص الحصص المائية التي تؤثر سلباً في مجالات مياه الشرب وتوليد الطاقة والصناعة، وبدرجة كبيرة في إنعاش منطقة الأهوار. إذ سيستكمل سد «ليسودام» بسد «جزرة»، ما يؤدي إلى تحويل جميع كميات المياه من دجلة الى الأراضي الزراعية التركية قبل عبورها الحدود التركية العراقية. وقد وصفت المياه الشحيحة التي ستصل حينها، بأنها ستكون على درجة ملوحة عالية التركيز.
أما السدود العراقية، وهي سد «دربنديخان» ويقع على نهر «ديالى»، فسعته الخزنية هي 3 مليارات متر مكعب، وسد «دوكان» على نهر «الزاب الصغير»، وسعته الخزنية 6 مليارات متر مكعب، وسد «العظيم» الذي يقع على نهر «العظيم» وقد شيد مؤخراً ويسع 1.5 مليار متر مكعب، وسد «الموصل» ويقع على نهر دجلة شمال مدينة الموصل، وطاقته الخزنية 11 مليار متر مكعب، وسد «حديثة» ويقع على نهر الفرات شمال مدينة حديثة ويسع 8 مليارات متر مكعب، وسد «بخمة» الذي لم ينجز بعد، ويقع على «الزاب الكبير» وطاقته الخزنية 17 مليار متر مكعب. وكل هذه السدود تجمع كمية من المياه لا تفي بالحاجة المحلية استهلاكا وزراعة.
سلة الغذاء
بسبب عوامل التصحر والجفاف وازدياد درجة الملوحة وتدهور التقنية الزراعية، يتعرض العراق الى انكشاف غذائي غير مسبوق. فشح مياه نهر الفرات الشديد أثّر على الزراعة وخصوصا في منطقة حوض الفرات الأوسط التي تشتهر بزراعة الأرز. ويقول مسؤولون متخصصون إن العراق يحتاج الى تدفق للمياه بمعدل لا يقل عن 700 متر مكعب في الثانية لتغطية احتياجاته. ويبلغ مستوى تدفق المياه حالياً في نهر الفرات 230 متراً مكعباً في الثانية. وان الحصة المائية الداخلة الى العراق من جهة سوريا (اقل من 200 م3/ ثانية) تخالف اتفاق عام 1990.
أما السياسة المائية الإيرانية، فإنها اقل تأثيرا من التركية، لكنها تشكل خطرا على الزراعة وخصوصا في المنطقة الجنوبية، حيث أقامت إيران عدة مشاريع أهمها تلك المقامة على نهر «الكارون» الذي يعد الرافد الرئيسي لشط العرب، مما زاد من نسبة الملوحة فيه. ووفق هذا، وعلاوة على تصحر مساحات من الأراضي العراقية، فإن الأهوار الجنوبية الممتدة على ستة آلاف ميل مربع لن يكون بمقدورها إعانة المساحات الزراعية الكبيرة بسبب تعرضها الى الجفاف هي الاخرى. وقد بدأ منذ أعوام تقلص مساحات الزراعة في بعض المحافظات الجنوبية والوسطى. وعلى سبيل المثال، فإن وزارة الموارد المائية اوضحت في نشراتها أن 68,750 هكتاراً من الأراضي قد زرعت بالأرز خلال عام 2008 في المحافظات الوسطى والجنوبية، وهي تمثل نسبة 50 في المئة من الاراضي المخصصة سابقاً لهذه الزراعة. ووفقاً لتقرير صدر العام 2007 من «محطة المشخاب لبحوث الأرز في النجف»، فقد وصل مجموع المساحة المزروعة بالأرز في تلك السنة إلى 125,000 هكتار أنتجت حوالي 400,000 طن من أنواع الأرز المختلفة المفضلة محلياً. عدا ذلك، فإن أسراً كثيرة اضطرت للهجرة من مناطق الأهوار، التي يفترض أنها غنية بالمياه، كما حصل في هور «أبو زرك» جنوب العراق، شرق الناصرية، وهو يعد من أعمق الاهوار في العراق، حيث يتراوح عمقه بين 2 و7 أمتار، ومساحته تبلغ 65 ألف دونم، منها 40 ألف دونم مغمورة بالمياه، وتحيط به 25 قرية تعتمد معظمها على مهنة تربية الجاموس والأبقار وصيد الأسماك. وهو من الأهوار المؤهلة لأن تكون محمية طبيعية للتنوع الإحيائي الفريد عالمياً الذي تتميز به هذه المنطقة، ويكاد يكون سلة غذائية متكاملة لوفرة المياه في أعماقه ولاحتوائه على أنواع عديدة من الأسماك والطيور، ووفرة الغذاء الطبيعي فيه.
وتشكل الأهوار في الجنوب العراقي الحوض الطبيعي لنهري دجلة والفرات وتوابعهما. وهي تكونت منذ آلاف السنين من تغذية هذين النهرين، وأهمها أهوار «الجبايش» في «ذي قار» التي تبلغ مساحتها نحو 600 كلم مربع، فضلا عن أهوار «الحمّار» و«الحويزة» ومجموعة أخرى من المسطحات المائية المتصلة تقريبا ببعضها البعض، والموزعة على أرض تزيد مساحتها على ثلاثة ملايين دونم جنوبي العراق.
الأزمة من جانبها المحلي
لا ينبغي وضع اللوم على الجانبين التركي والسوري فحسب في التسبب بهذه الأزمة الخطيرة. ومع أن نهري دجلة والفرات هما المصب في العراق وليسا المنبع، مما يؤدي الى عدم التحكم بمقادير المياه الممكنة لتحقيق الرفاه الغذائي والاستهلاكي، ومع أن العراق يقع في منطقة شبه جافة، فإن هناك جملة من العوامل التي أسهمت في تعميق هذه الأزمة من الجانب العراقي نفسه، خلال السنوات الأخيرة. وفي خلاصة آراء المختصين والتصريحات الصحافية الرسمية، يشار بشكل كافٍ الى اهتراء الأساليب الإدارية في معالجة هذه الأزمة، والى البيروقراطية، ودخول الاعتبار السياسي محل التقني. والمثال في الجانب الإيراني فاقع، فوسط صمت مطبق، بدأت إيران بعد عام 2003 بالضغط على الحكومة العراقية عبر منافذ المياه التي يمتلكها، وحوّلت 90 من أنهرها الصغيرة الجارية الى العراق الى داخلها، أو أنشأت سدوداً عليها من دون إشعار الجانب العراقي بذلك. ويذكر هذا المسلك بما فعله الشاه الإيراني عام 1960، حين أنشأ سداً على نهر «الوند» ليقطع المياه عن «خانقين» و«مندلي».
موضوع المياه، الحيوي بكل أبعاده وتفاصيله تلك، لا يحل بالتأكيد بالقوة من جانب العراق، برغم شعوره بالغبن، وبرغم الاضرار الكبيرة اللاحقة به. ولكن السؤال المثار بالمقابل يتعلق بمدى الاهمال الذي يبديه حكامه الحاليون، وعدم انشغالهم بالأمر، وانعدام امتلاكهم لرؤيا حول كيفية معالجته، ولأجهزة اختصاص قادرة على التفاوض الاقليمي والدولي الدؤوب والعنيد، وعلى طرح المشكل قبل فوات الأوان وتغيّر طبيعة العراق: من بلاد ما بين النهرين، حضن الحضارة البشرية والزراعية تاريخياً... الى صحراء.