تطوف أحاديث السوريين في الداخل حول الغلاء والتقنين والحاضر القاتم، ويلهج الناس في ريفَي حماه وإدلب منذ شهر تقريباً بالنجاة من مصائد الموت التي تدبرها لهم غارات الطائرات السورية والروسية. كما يمكن أن نلمح الندم يطوف بين النظرات المتمهلة حين يتبادلها مرتادو المقاهي المكيّفة، المزودة بشاشات بلازما عريضة في ساعات المساء، وقد زاد النظام من ساعات بثّه الكهربائي خلال رمضان المنصرم وعطلة عيد الفطر الطويلة. أطباءٌ ومهندسون وأصحاب شهادات عليا لا ينثرون عاطفتهم وهم يتحدثون عن راهنهم، بعضهم نادمٌ على عدم مغادرة البلد حينما كانت أبواب الهجرة مشرعةً على ملئها قبل العام 2015، وبعضهم الآخر ناقمٌ لأنه كان ممنوعاً من السفر وقتذاك. يقارنون بين حياتهم الرثّة في الداخل وحياة أقرانهم في دول اللجوء الأوروبي. يعلمون بأن تاريخ هجرة الكفاءات من سوريا قد ارتبط بتاريخ صعود الدولة الأمنية، ودولة الحزب الواحد حين استمرأت تهميش النخب، وأعلت شأن المواطن الانتهازي، المنبهر بإنجازات النظام، ودفعت به إلى تسلّق مناصب الإدارة العامة ومفاصل صنع القرار.
الهجرة قبل الحرب: الكفاءات تبحث عن مكافأتها
عام 2007 وصل الفرق بين عدد المقيمين في سوريا من السوريين، وعدد الحاملين للجنسية السورية الى حوالي 3.3 مليون شخص، وهذا الفارق يعادل تقريباً 15 بالمئة من إجمالي تعداد السكان، وهو مؤشرٌ على عدد السوريين المقيمين خارج بلدهم وفق أرقام "التقرير الوطني للسكان".
وفي عام 2010 قدّرت "دائرة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة لقسم السكان في الأمم المتحدة في تقرير لها أن عدد المهاجرين السوريين بلغ قرابة 2.2 مليون مهاجر، أي ما يقارب عُشر عدد السكان، وأن القيمة المادية لخسارة الكفاءات العلمية السورية المهاجرة وصل إلى نحو 2.2 مليار دولار، في وقت بلغت فيه قيمة مكاسب الدول الحاضنة للأدمغة السورية المهاجرة حوالي 10 مليار دولار.
ليس تسلّط الحرب الطويل على المجتمع السوري هو الذي دفع بكفاءاته ونخبته العلمية إلى الهجرة وطلب اللجوء، بل أن ذاك الفرار من بلدٍ موصد الأفق، ابتلعت فيه الدولة الأمنية جميع المكونات الحية للمجتمع والسياسة معاً يعود تاريخاً إلى ما قبل العام 2011 بكثير
عام 2000، وصل عدد الأطباء السوريين في الولايات المتحدة إلى 6 آلاف من أصل 15 ألف طبيب عربي، وفي عام 2008 قدّر عدد الأطباء السوريين في ألمانيا بـ18 ألف طبيب، وتشير أرقام نقابتي الأطباء والصيادلة إلى هجرة ثلث عدد الأطباء السوريين وخُمس عدد الصيادلة..
إذاً ليس تسلّط الحرب الطويل على المجتمع السوري هو الذي دفع بكفاءاته ونخبته العلمية إلى الهجرة وطلب اللجوء، بل أن ذاك الفرار من بلدٍ موصد الأفق، ابتلعت فيه الدولة الأمنية جميع المكونات الحية للمجتمع والسياسة معاً، يعود تاريخاً إلى ما قبل العام 2011 بكثير. حيث سوريا البلدُ العربي الأكثر طرداً للكفاءات العلمية بحسب "التقرير العربي عن المعرفة" لعام 2009، كما وتأتي سوريا ضمن الترتيب ما قبل الأخير في نطاق الأوراق العلمية المنشورة في دوريات محكمة، وتُصنّف تقارير سابقة لمنظمة اليونسكو سوريا بالدولة الراكدة أو المهمّشة علمياً.
ولعل السوريين المتعلمين تعليماً جامعياً بكل درجاته، ولا سيما الاعلى منها، هم الأكثر تضرراً من نموذج الدولة الأمنية المستبدة، ومن سياساتها التي تعادي النهوض الحقيقي بالاقتصاد والمجتمع. وهذا يتضح إذا ما سلّمنا بنتائج دراسة سابقة لخبراء الهجرة والتنمية في الأمم المتحدة تدل أن نسبة المهاجرين من تلك الشريحة تشكل حوالي 35 في المئة من إجمالي المهاجرين السوريين إلى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 2000. في حين وصل فيه عدد الأطباء السوريين المقيمين في الولايات المتحدة إلى ستة آلاف طبيب من أصل 15 ألف طبيب عربي وفق أرقام "الجمعية الطبية العربية الأمريكية"، كما يقدر عدد الأطباء السوريين المقيمين في ألمانيا عام 2008 بنحو 18 ألف طبيب، وهذا الرقم يشكل حوالي ثلث تعداد الجالية السورية المقيمة في ألمانيا والمقدّرة حينها بقرابة 59 ألف سوري.
وقبل العام 2011، اكتفت السلطة في سوريا بتوثيق الجهات الجغرافيّة التي اهتدى إليها نزيف الكفاءات المستمر. نجحت في حساب معدلات ذلك الفقدان الحيوي، وثبّتته في معادلات حسابية دامغة ليكون باستطاعتها معاينة أرقام الفارين من نموذج الدولة الفاشلة التي تدير، ثم وفّقها الله بجمع قاعدة لبيانات مواطنيها المهاجرين... فحسب! فنشاط السفارات السورية لم يخرج بعد من عباءة العمل المخابراتي بهدف مراقبة السوريين في الخارج، أو تجديد جوازات سفرهم، أو وضع صناديق للاقتراع كلما حانت الانتخابات الموسميّة.
خسارة الحرب التي لن تعوّض
تسربت الحرب إلى معادلة البقاء، هزّت دعائمها الواهية، وجعلت الرغبة في الهجرة لا تقاوم، كما جعلت النزوح درباً من اتجاه واحد. ليس لأن الناتج المحلي الإجمالي قد انخفض إلى النصف بين عامي 2010 و 2016، وانخفض معه الوزن النسبي للإنتاج الصناعي بمقدار 10 بالمئة، بل لأن مخاطر البقاء في بلد تسوسهُ الحرب مثل سوريا بات يصعب الفكاك منها، بعدما ألقت الحرب بأحمالها على الجميع، وصارت خلاصةً مريرة يشقُّ على الناس قبولها. لكن وعلى الرغم من نمو كتلة الحوالات الخارجية في السنوات القليلة الماضية نتيجة موجة الهجرة الواسعة باتجاه دول الاتحاد الأوروبي بصورة أساسية، غير أنها بقيت كتلةً إنفاقية ابتلعتها أسواق التجزئة، فلم توظف في مشاريع صغيرة أو متوسطة، وهذا يتطابق مع انهزام القدرة الشرائية للدخول في سوريا، وحاجتها المتنامية إلى الاتكاء على مصادر إضافيّة للدخل تعينها على البقاء.
عن رحلة اللاجئين في ألمانيا إلى جامعاتهم
29-04-2019
وبحسب دراسة لمعهد بحوث العمالة (IAB)، والمكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين (BAMF)، والمعهد الألماني للبحوث الاقتصادية (DIW برلين) فإن 40 في المئة من السوريين الذين تقدموا بطلبات لجوء في ألمانيا بين عامي 2013 و2016 هم من الحاصلين على شهادة الدراسة الثانوية وما فوقها، وهذا فاقدٌ علمي يجب أخذه بالاعتبار من قبل السلطة في سوريا حين تقرر حساب القيمة الإجمالية لخسائر الحرب، وقيمتها في إحدى الدراسات غير الرسمية الصادرة عام 2017 بنحو 40 مليار دولار موزّعة بين خسائر اقتصادية مباشرة وخسائر لحقت بمؤسسات الدولة، وبين كلفة إعادة تأهيل النخب والكوادر اللازمة لإعادة إعمار البلاد متى انتهت الحرب. كما وصلت نسبة تسرّب الكادر التدريسي في جامعة دمشق إلى 43 في المئة حتى عام 2016، ونحو 45 في المئة في جامعة حلب، وهذه خسارة فادحة للكفاءات العلمية لا يوازيها إلا الخسارة في قطاع الطبابة والصحة حيث تشير أرقام نقابتي الأطباء والصيادلة إلى هجرة ثلث عدد الأطباء السوريين، وخُمس عدد الصيادلة، بالإضافة إلى هجرة نحو 8500 مهندس. أما العدد الكلي لحاملي درجة الإجازة الجامعية والذين غادروا البلاد منذ العام 2011 فقد وصل إلى 21.5 ألف سوري.
المقارنة بين كلفة تعويض الكفاءات والنخب العلمية والأكاديمية المهاجرة، وبين كلفة استرداد ما يمكن استرداده منها هو ما يجب أن يستحوذ على اهتمام السلطة القائمة عندما تقرر الانتقال إلى التفكير الوطني بحاضر بلاد قاربت أن تصير يباباً.