ليس لدى نادية لون مفضل. لا تفضيلات بشكل عام. لم تكتشف هذا إلا عندما كبرت، فالآخرون لا يعرفون.. كانت تجيب على أسئلة التفضيلات، لكنها تكذب. ففي كل مرة تقول إجابة مختلفة، فيذكّرها أحدهم بها. وعلى هذه المسافة تقف نادية من كل شيء في حياتها، عائلتها، أخواتها بالأخص، فهي الوسطى بين أربع أخريات، لم يؤثر فيها إلغاؤها أو استبقاؤها بعيدة. كان الترتيب كالتالي: بنت بنت ولد بنت ولد بنت بنت
ظلت المسافة العمرية بين الشقيقات سبباً كافياً للتكتلات. الكبيرتان حزب وحد، والصغيرتان كما الكبيرتان، ونادية بعد أن توفي الولد الذي يصغرها، بقيت معلقة في فراشها الذي يتوسط الجميع. ووّلد لديها هذا الوضع شعوراً بأنها نجمة بحر ملصقة في حائط. كانت قد شاهدت ذلك الملصق في غرفة نوم إحدى صديقات أمها حين كانت أصغر. لكن هذه الوحدة لم تزعجها. تمضي حياتها بالرتابة المعهودة لدقات ساعة. الأشياء ذاتها والمواقف والأحاديث وإعلانات التلفزيون، ووجنة أبيها المنتفخة بالقات، وبجاحة ودلال الأخ الوحيد الذي كان حديثه يتراءى لها كالقيح اللزج كلما فتح فمه للكلام. يتطاير ذلك القيح اللزج ملتصقاً بكل شيء، وتحاول نادية بكل الطرق أن تبقى بعيدة عن طريقه، عن طريق القيح، لأنه يبقى عالقاً عليها طوال فترات ما بعد الظهر والمساءات العادية.
حين وصلت الجدة المشلولة للمدينة، كان لديها بقايا من صوت. تأملت نادية كل تفصيل فيها بذلك الحياد نفسه. الأخاديد العميقة في الوجه والعنق، الصدر المسطح لعجوز ثمانينية، الشعر الرمادي الهش، محكم الإخفاء تحت مصر" أحمر بخيوط ذهبية على الأطراف. كانت أصابعها معقوفة عاجزة، وعيناها الغائرتان تبحثان في كل مكان ثم تقفان على وجه ما بجزع. مجيئها صنع أحاديثاً كثيرة بطريقة ما، وأعاد حكايات دفينة، أو فلنقل حكايات مجهولة بالنسبة لنادية وأخواتها. كانت الأم قد حاولت قطع كل صلة بحكايات القرية بعد أن هاجرت عائلتها واحداً تلو الآخر إثر رحيلها مع زوجها. وهكذا لم يبق من داع لأي صلة بالقري.، كل الصلة كانت في تحيات الأعياد ورمضان، مجاملات كاذبة كانوا يقومون بها جميعاً. لكن الأم كانت واحدة من تلك العائلة، تعرف تماماً الحكايات والعلاقات والخفايا، لقاؤها الأول بالجدة كان مليئاً بالشفقة الصادقة، وكانت تعرف أن العجوز لا محالة ستكون جزعة بهذا اللقاء الغريب غير المتوقع بعد سنين من الجبروت والمواجهة. ركزت العينين الخائفتين محجريهما في وجه زوجة الابن التي بدت أصغر مما توقعتْ أن تراها، ولم تصدق العجوز الشفقة التي بدت واضحة على كنتها، ولم تكن لتصدق الدموع التي ذرفتها الأم في المطبخ بحضرة بناتها الخمس. بكت الأم من هول المفاجأة ومشاعر أخرى كالخوف والسعادة الخفية. كانت هذه العجوز يوماً ما أقوى شخص عرفته الأم، قالت لبناتها أن هذه العجوز كانت فعلياً " الجبل الذي لا يهزه ريح"، ولم يكن الزوج غير متفرج مسلوب الإرادة. ثم زوّجت أبناءها وفرضت عليهم أن يعيشوا بجوارها، واستعبدت نساءهم في عمل الأرض وعمل البيت، صنعت لهن جدولاً من الأعمال لم تكن إحداهن لتتجرأ على مخالفته، وأعلنت لهن بصراحة أنها قادرة على تزويج أبناءها مثتى وثلاث إنْ هن أعترضن. وحين أكمل "عثمان"، زوجها، تعليمه الجامعي، وكان أول شخص يحقق هذا من قريته، أعلنت الأم للزوجة التي كانت أماً لفتاتين في ذلك الوقت، أن الزوج الجامعي لن يستطيع العيش مع إمرأة أمية مثلها، وأنه ولا شك يريد أن يكمل حياته مع إمرأة من مستواه. حكت الأم لبناتها كيف أنها ظلت لشهور طويلة تبكي في الليالي والنهارات مصدّقة حقيقة أن الرجل الجامعي لابد وأن يعيش مع امرأة جامعية مثله وأن نهايتها ستكون الطلاق وستكون أول حالة طلاق في عائلتها.
موت
06-06-2019
اتفقت الفتيات ومعهن نادية، وهي التي بدون تفضيلات، بأنهن يشعرن بنوع من الإشمئزاز بسبب وجود العجوز. لم تعرف الصغرى فاطمة ماذا يعني بالضبط "اشمئزاز" ولماذا يشعرن به. كانت جدتها تظل تنادي عليها بحنان وتغمرها بالدعوات، وهكذا تفعل مع الأخريات. لكن الصغيرة كانت تحمل اسمها، وكان يعجبها أن تجلس بجانبها على السرير الذي يعلو ويهبط و يتحول لكرسي. وفي ساعات اهتزاز البيت بسبب القصف كانت الجدة تتلو دعواها الصادقات بأن يحمي البيت ومن فيه، وكانت نادية تتخيل أن تلك الدعوات تتحول لسقف هلامي يحمي الببيت من القصف، فتعبر الطائرات فلا تراه، ويمر مسلحو الميليشيا فلا يشاهدون باب عمارتهم الصدئ. ولم يعترض أحد على دعوات الجدة وضجيجها وقت القصف، كان فزعها العجوز يتحول لطمأنينة بالنسبة للآخرين، تتجمع الحفيدات حول سريرها، ويجلس الأب بكرشه الكبير على كرسي قديم في مواجهة السرير، وتظل الأم تعدو بين غرفة الجلوس وغرفة الولد الوحيد الذي يرفض أن يشارك الجميع جلستهم المضادة لرعب القصف وهدير الطائرات.
تكبر الحكايات في حياتنا كالأشجار المتسلقة. والحكايات ليست كالأحلام، نعرف تماما بداياتها والشعور المصاحب لها، نستطيع تكملتها إن لم يكملها لنا الراوي، ونحتفظ بالشعور المصاحب لها. ونادية التي تستخف بكل شيء، لم تكن تستمع لشيء من تخاريف جدتها. تجلس بجانبها متى حان دورها، تؤجل شحن هاتفها كي تنشغل به حينما تكون مع الجدة. في الأحايين التي يكون فيها صوت رصاص في الخارج، تطلب نادية من الجدة أن تحدثها عن أشياء من القرية. كانت نادية تطلب ذلك، كي يبدأ خيالها العجيب بتصوير الأشياء بشكل سوريالي وتنسى أين هي فلا تسمع صوت إطلاق النيران. ودائما ما كانت تنجح هذه الاستراتيجية. تتأمل هذه المرة العجوز في وجه نادية وتخبرها بحنان كيف أنها تشبه ماجدة ابنة عمها المرحومة. تسترسل نادية في الحكاية دون وعي: وكيف كانت ماجدة؟ تواصل الجدة: كانت صافية كالصبح، لها فم كالخاتم وعينان كاللالئ، وحاجبين مثل الأقواس، ضحكتها تغسل القلب، لم تكن طويلة ولا قصيرة، مثلك تماماً، ولها ثديين بحجم الرمان لا تخفيهم كما تفعلن أنتن بحمّالاتكن، تتراقص في مشيتها مثل الدجاجة البرية. ابتسمت العجوز كأنما تحلم بها، بينما إندهشت نادية من تشبيهات الجدة: كيف يكون الفم كالخاتم؟ شفتان صغيرتان ومضموتان كالخاتم. وكيف كالصبح؟ صافية بهية، ليس في وجهها شامة ولا كلف ولا حب الشباب. حسنا كيف تبدو الدجاجة البرية؟ دجاجة متبخترة تسكن الجبال ويصطادها الرجال، الله يرحمها. تستدرك نادية: كيف ماتت يا جدة؟ قتلوها. تتغضن ملامح الجدة أكثر، ويتداعى الألم من وجهها وعينيها ومن كل تفاصيلها، لا ترتعب نادية، لكن فوهة صغيرة من الخوف فتحت في أعماقها. من هم يا جدة؟ لا تجيب العجوز، كانت غائبة للحظة، ولم تكن متأكدة إن كان من الصواب أم من الخطأ أن تخبر الفتاة. إخوتها وأمها، قالت باقتضاب. كانت نادية تمعن النظر في وجهها العجوز، واختفى الخوف، كانت تعرف أن ابنة عمها ماتت، لم يخبرها أحد أنها قتلت، لذا فإن العجوز تهذي بلا شك.
____________
من دفاتر السفير العربي
اليمن بعدسة ريم مجاهد
____________
عادت نادية إلى هاتفها، كانت مدمنة فيسبوك من الطراز الرفيع، ولا يتعلق الأمر بإن تكون شخصاً ذا وجاهة على الفيسبوك، لا يتعلق بما تنشره أو بعدد متابعيك، كان الإدمان على فيسبوك في تلك الفترة هو الحياة اليومية لأشخاص مثل نادية، حيث دُمرت الحياة الطبيعية ولم يبق لها وجود خلال الحرب. نادية وآخرون اختاروا أن يعيشوا في الفيسبوك. كانت هناك عشرة ساعات على الأقل، من مجمل الأربعة وعشرون ساعة، يحيط بها أصدقاؤها الذين لم تلتق معظمهم ولن تلتقي، ولم تكن نادية تكتب شيئا ذو قيمة، كانت نشطة جداً، لا تترك منشوراً لأصدقاءها إلا وتواجدت فيه، وخاضت كل حروب الفيسبوك ودافعت بعنف عن وجهة نظرها في الحرب والسياسة، لذا كان اسمها المستعار حاضراً دائما، وكانت اقتباساتها الصباحية تتلقف الإعجابات بالعشرات، ولم تكن الغاية طبعاً من الفيسبوك فقط أن تحيط نفسها بالأصدقاء أو أن تطلع على مجريات الأحداث في العالم. كان هناك غرض خالص تتشاركه مع الآلاف من الشبان والشابات في مجتمعها والمجتمعات المشابهة: يبحثون عن الحب. ولم يكن من المخيف أو الغريب أن يكون هذا الحب افتراضيا وله مخاطره، كانت الغاية هي الشعور ذاته والقصة فحسب، وما يليه أو ما سيؤول إليه متروك للأقدار تقرره أو تعبث به.
ولأن حديث جدتها عن ابنة عمها الراحلة لم يرسب تماماً في قعر ذاكرتها، لذا وبينما تؤدي دورها المسائي في تنظيف المطبخ سألت أمها بدون جدية: هل فعلا ماجدة قتلت على يد إخوتها وأمها؟ شهقت الأم مفزوعة، وعنفت نادية، لكن الأخيرة دافعت عن نفسها بأن شرحت أن جدتها هي التي أكدت على هذا الموضوع، جلست الأم على الأرض، فكرت قليلا، ثم كمن يعترف سردت قصة قصيرة جداً ستغير حياة نادية: "ماجدة ابنة عمك لم تمت موتاً طبيعياً، بل انتحرت، كانت على علاقة بأحد شبان القرية، و.. هذا يكفي. لم تتزوج وانتحرت".
موت
06-06-2019
غذاء اليمنيين المحروس بشواهد القبور
04-04-2019