نهاية العام الدراسي في العراق: الاحتفال بإعدام الكتب

كانت مجموعة من الأطفال يشكلون دائرة حول شيء ما وسط الشارع. كانوا يمزقون كتبهم ويحتفلون بشيء من الجموح وكأنهم يتجمعون حول بئر روى عطشهم.
2019-06-12

ليث ناطق

إعلامي من العراق


شارك
نضال شامخ - تونس

أراوغ التصدعات والـ"طسات" في شارع منطقتنا الرئيسي، أقطعه بسيارتي الصغيرة وكأنني خرجت من معركةٍ الكل فيها خاسر مع سوء الخدمات. لكن تركيزي على اقتناص الحفريات لتجنبها لا يمنعني من ملاحظة بعض المعالم على جانبَي الطريق، وأكثرُ ما يُبهجني منظر تلاميذ المدارس وهم يتدفقون مِن أو إلى مدارسهم. ومن الواضح أنني لست الوحيد الذي يُسعده هذا المشهد، فكل من يراهم تصيبه السعادة ذاتها لدرجة تجعل أغلبهم يبتسمون بغض النظر عن سعادة الأطفال من عدمها. نعم هم لا يضحكون دائماً، البهجة ليست رفيقهم الوحيد، لكن أقصى درجاتها كانت تجتاحهم في آخر مرور لي في هذا الشارع. كان المشهد هستيرياً: أصوات ضحكاتهم تخترق زجاج السيارة، يتقافزون ويركضون على نحو فيه شيء من الخطورة التي تستدعي تركيزاً مضاعفاً من السائقين كلما اقتربوا من موقع المدارس.

لماذا يكره الصغار مدارسهم

لم أستطع التغلب على فضولي. اتجت ببطء نحو المدرسة التي تقع في ركن شارع فرعي تمتد فيه مدرستان إضافيتان. كانت هناك مجموعة من الأطفال يشكلون دائرة حول شيء ما. حين وصلت التفتوا إلي. كانوا يمزقون كتبهم ويحتفلون بشيء من الجموح وكأنهم يتجمعون حول بئر روى عطشهم الذي يمتد لسبعة أشهر من كل سنة.

قد يبدو ما قاموا به غريباً بالنسبة لشخص أمتعتْه مدرسته وحجزت لها مكانا في الجانب الناصع من ذاكرته. لكن التعجب يزول إذا ما جرى التعرف على مسببات هذا الفعل ودوافعه النفسية وهي كثيرة متراكمة، قد لا تسعها اللغة.

الصعود والانحدار

كقطاعات كثيرة في الدولة العراقية، حقق قطاع التربية والتعليم ذروته في العقد السابع من القرن العشرين، لكنه اصطدم بحرب طويلة أنهكت الدولة واخترقت أسوار التعليم حين تحولت بوصلة التعليم للتعبئة الحربية وتمجيد صدام حسين وأفعاله. ليس هذا فحسب، فقد قضمت التكلفة الباهظة للحرب عنصراً مدرسياً مهماًمع بدايتها في الثمانينات الفائتة، هو الوجبة المدرسية التي كانت توزع للتلاميذ بعناية وحرص صحي، فأفقدتهم فرصة التشارك بفعل محبّب لدى الأطفال وحمّلت ذويهم مسؤولية أكبر.

ومذ ذلك الحين وحتى العام الماضي، غابت الوجبة المدرسية. الّا أنها عادت على نطاق تجريبي ضيق، اقتصر على مدارس المناطق التي تناوبت سيطرة داعش وتحريرها منه على تدميرها.

قضمت التكلفة الباهظة للحرب العراقية الايرانية عنصراً مدرسياً مهما مع بدايتها في الثمانينات الفائتة، هو الوجبة المدرسية التي كانت توزع للتلاميذ بعناية وحرص صحي، فأفقدتهم فرصة التشارك بفعل محبّب لدى الأطفال وحمّلت ذويهم مسؤولية أكبر.

ارتفعت سرعة انحدار المؤسسة التربوية مع بداية العقد الأخير من القرن العشرين وانتهاء المغامرة الصدّامية الحمقاء في الكويت. أطبق الحصار الإقتصادي على العراق وحياة أهله ونخر مفاصل الدولة أجمعها، فبدأت نتائجه بالظهور في المدارس: قَبل معلمون الرشوة وتوجه عدد كبير منهم الى التدريس الخصوصي ومحاصرة التلاميذ في المدرسة لإجبارهم عليه، إضافة الى التراجع النوعي في القرطاسية الموزعة وعجز الأهل عن توفيرها من السوق لأطفالهم. فصار قلم الرصاص الرديء المتكون من جرائد ملفوفة لا يسير أكثر من كلمتين أو حرفين أحياناً على الورق الأكثر خشونة، ويتكسّر.

أعباء الخطاب وظلال الفساد

من جهة أخرى، واجه الصغار عبء التعاطي مع خطاب المناهج الدراسية الذي ارتفع فيه صوت التعبئة البعثية والتوجيه السياسي والديني أيضاً، فصارت صورة صدام حسين تتصدر جميع الكتب المنهجية، التي يعاد توزيعها على التلاميذ كل عام. وعلى التلميذ ايجاد حل للصفحات الممزقة. فبطبيعة الحال جميع الصفحات معرضة للتلف، الشيء الذي لا ينطبق على الصفحة التي تحمل صورة "الرئيس" أو الصفحات الأخرى المثقلة بأقواله.

امتدت أزمة المناهج ومضامينها لما بعد الاحتلال الأمريكي وسقوط نظام صدام حسين، فشهدت المناهج تغيراً جذرياً نَقل التلاميذ الى ضفة تُناقض ما كانت عليه في السابق تماماً. ولم تخلُ المناهج الجديدة من خطاب سياسي أو ديني فيه شيء من المذهبية هذه المرة. وبما أن الفساد يصدِّر نفسه دائما كهوية لهذا النظام، شهدت المناهج تغييرات مستمرة تفسح المجال للمستفيدين من صفقات طبع الكتب المدرسية، الشيء الذي فجر صراعات بين أقطاب في العملية السياسية، ظهروا في وسائل الإعلام يتقاذفون الاتهامات في مناسبات عديدة.

ارتفعت سرعة انحدار المؤسسة التربوية مع بداية العقد الأخير من القرن العشرين وانتهاء المغامرة الصدّامية الحمقاء في الكويت. أطبق الحصار الإقتصادي على العراق وحياة أهله ونخر مفاصل الدولة أجمعها.

وبما أن الهم الأول للطابع ومَن خلفه هو الإفادة من كثرة المطبوع وتكرار تغييره، حملت المناهج تعقيدات كثيرة وصعوبات بالغة وأخطاء لا يمكن إغفالها، ربما أكثرها سخرية المعادلة الواردة في كتاب الصف الثاني الإبتدائي – يدخله التلاميذ بعمر 7 أو 8 سنوات - والتي تجسدت سخريتها بعجز رئيس قسم العلوم الصرفة في مديرية المناهج في وزارة التربية عن حلها في لقاء متلفز.

وفي إحدى تقارير المديرية غير المنشورة والخاصة بالعام 2018، كشف أحد الباحثين العاملين في المديرية عن وجود نحو 180 خطأ في كتاب العلوم الخاص بالصف السادس الإبتدائي وحده (معلومة حصل عليها الكاتب بشكل مباشر).

بقايا مدارس

يتعين على التلميذ في المدارس العراقية التعاطي مع هذه التعقيدات المتزايدة وهو يجلس في صف مدرسي يفتقر الى كل شيء كي يكون صفاً. مقاعده إن وجدت فهي مكسّرة، وإن سلمت فهي قاسية على أجساد الصغار، وجدرانه كئيبة مغلّفة بالسخام أو يكسوها طلاء غير مناسب ورديء، وشبابيكه مكسّرة لا تعترض البرد في الشتاء أو لهيب الصيف العراقي، إضافاً لافتقار الصفوف في المدارس العراقية الى التكييف والإنارة المناسبين. يتمتع التلاميذ بفسحة كلّ درسين في الحالة الشائعة، يغادرون فيها الصف الى الساحة المدرسية.. التي يجتمع فيها حطام المقاعد القديمة وفي أحد أطرافها الحمامات المحطمة أبوابها والمعطلة صنابيرها، المأوى الآمن للميكروبات.

بعد الاحتلال الأمريكي وسقوط نظام صدام حسين، شهدت المناهج تغيراً جذرياً نقل التلاميذ الى ضفة تُناقض ما كانت عليه في السابق تماماً. ولم تخلُ المناهج الجديدة من خطاب سياسي أو ديني، فيه شيء من المذهبية هذه المرة.

هذا غير الاكتظاظ الكبير الذي تشهده المدارس وصفوفها جراء النقص الكبير في الأبنية المدرسية والارتفاع السكاني المتزايد. وصل عدد التلاميذ في المرحلة الإبتدائية – تتكون من 6 درجات - الى نحو 6 ملايين و200 ألف تلميذ وفق الجهاز المركزي للإحصاء، يتوزعون على 15965 مدرسة ابتدائية فيها 167367 صفاً مدرسياً، ما يعني أن حصة الصف الواحد من التلاميذ قرابة 38 تلميذاً. ويرتفع هذا العدد الى 50 أو أكثر في بعض المدارس الواقعة في المناطق ذات الاكتظاظ السكاني.

بالإضافة لما تقدم، هناك أسباب أخرى كتدني مستوى بعض المعلمين وغياب وسائل الإيضاح والترفيه، وهي تخلق الرحم الخصب لولادة كره التلاميذ لمدرستهم، وتمثل مبرراً لترك نحو 132 ألفا من التلاميذ المدرسة في المرحلة الإبتدائية. وهذا ما شهده العام الدراسي 2017 – 2018 وحده، حسب تقرير الجهاز المركزي للإحصاء أيضاً والذي لم يشمل محافظات إقليم كردستان ولا المحافظات التي سبق واستولى عليها تنظيم داعش.

اقرأ/ي أيضا

مقالات من العراق

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

"اللا حياة" العراقية.. التجهيل الذي يحوّل كورونا إلى خرافة مميتة

ليث ناطق 2021-06-10

لماذا يغيب الوعي الصحي عن المجتمع العراقي؟ الإجابةً تستدعي مجموعةً أخرى من الأسئلة: لماذا يتراجع مستوى الرعاية الصحية، وتتردى الصحة العمومية؟ أين المستشفيات والمراكز الصحية الصالحة؟ كيف يسكن العراقي ويشرب،...