تندّر الاردنيون في الماضي على واقع الفساد المستشري بطرفة تقول "الاردن أقوى دولة في العالم، لم تنهر رغم كل السرقات والنهب". لكن الخوف من الانهيار طغى على المزاح. فقد بدأت مقدماته بأزمة اقتصادية خانقة سجل الدين العام فيها لأول مرة 19 مليار دولار نهاية العام 2011، بينما أعدّت الحكومة الموازنة العامة للعام 2012 بعجزِ متوقع بلغ 4 مليارات دولار.
يُعلق الاردنيون آمالاً على كشف الفساد ومحاسبة المسؤولين عنه واسترجاع الاموال المسروقة. يرون في ذلك وسيلة للخروج من المأزق الاقتصادي الذي انعكس على الواقع المعيشي للمواطنين. ترفع الحراكات الشعبية والشبابية استعادة الاموال المنهوبة في وجه الحلول الرسمية المتمثلة برفع الدعم عن السلع الاساسية والمشتقات النفطية. لكن الأزمة تفوق في حجمها الفساد نفسه، رغم أن جهات غير رسمية تقدر الاموال المنهوبة بـ 14 مليار دولار خلال سنوات حكم الملك عبد الله الثاني.
التنقيب عن الفساد في الاردن ليس مهمّة سهلة. رئيس الوزراء الاردني الاسبق، معروف البخيت، اعترف في حكومته الاولى العام 2007 بتحوّل الفساد الى مؤسسة يصعب محاربتها، وهو ما كلف حكومته الرحيل بعد ايام من الإعلان، قبل ان يعود البخيت نفسه رئيسا متهما بالفساد في العام 2011 وتُسقطه الاحتجاجات الشعبية.
وكان مدير المخابرات الاسبق، الجنرال القوي سميح البطيخي، دشن في العام 1996 أولى حملات الفساد المنظم في تاريخ المملكة بما عرف بـ "قضية التسهيلات البنكية "، حين قام بالتنسيق مع رجل الاعمال الاردني مجد الشمايلة بتقديم طلبات تسهيلات من البنوك الأردنية لتنفيذ عطاءات وهمية لدائرة المخابرات العامة. كشف عن القضية في العام 2002 وكان فسادها يتجاوز المليار دولار، وحكم على البطيخي بالسجن أربعة أعوام بتهمة الفساد، وإعادة مبلغ 24 مليون دولار.
ما بدا يومها حربا على مؤسسة الفساد يقودها الملك الشاب الذي جلس على العرش العام 1999، لم يتعدّ "زوبعةً في فنجان"، لفّها الصمت سريعا وأفلت من الحساب فيها مائة شخصية كبرى، فيما قضى البطيخي، الذي لعب دورا في إقصاء ولي العهد الأمير الحسن بن طلال في الساعات الأخيرة قبل موت الحسين لصالح الملك عبد الله، محكوميته في قصره الفاره على شاطئ العقبة.
وهكذا امتدت جذور مؤسسة الفساد. ورغم تداول تعبير "محاربة الفساد" في الخطابات الرسمية، إلا أنه بقي من المحرمات في الدائرة الشعبية، ليتعالى الهمس عن وجود رعاية رسمية للفساد يتورط فيها القصر.
انتزع الاردنيون الحق في التنقيب عن الفساد في العام 2011، رغم احتفاظ الاجهزة الرسمية بامتياز استخراجه. تأسست هيئة مكافحة الفساد في العام 2006 وتمتّعت بشخصية اعتبارية ذات استقلال مالي واداري. رأت الحكومة في "محاربة الفساد" استراتيجية لتهدئة الشارع الغاضب، ودرجت على التذكير في مختلف المناسبات بكم القضايا التي أحالتها وتُحيلها على الهيئة، للدلالة على جديّتها، غير ان السحر انقلب على الساحر، وخرج الشارع اكثر غضبا، مطالبا بالمزيد.
اجتاز الشارع خطوطاً حمراء وطالب بمحاسبة أشخاص بأسمائهم، ربطتهم علاقة مباشرة بالملك، لتورطهم في قضايا فساد من خلال استثمار موقعهم الوظيفي أو قربهم من القصر، الأمر الذي لم يتحقق ولم يتم التحرّي عنه من قبل الجهات المختصة.
الغزل الحكومي بمحاربة الفساد كمّا ونوعاً ما لبث ان انقلب حذراً، فنبهت التصريحات الرسمية الى آثار الحديث المتواصل عن الفساد على سُمعة الأردن، كسبب لهروب المستثمرين الأجانب. القضايا المحالة على هيئة مكافحة الفساد تعاني الانتقائية ويمرّ التحقيق بها بطيئا، وقد برّءت غالبية المتهمين في القضايا التي أحالتها الهيئة الى الجهات المختصة، سواء القضائية او مجلس النواب. اتفاقية الكازينو مثلاً التي قدرّت خسائرها على الدولة بمليار دولار ذهبت التأكيدات الرسمية بخصوصها الى أن الخزينة لم تتكبد اي خسائر جراء فسخ الاتفاقية.
غير ان أكثر ما اثار الجدل هو تبرئة النواب للمتهمين في فساد خصخصة شركة الفوسفات الناتج عن بيع اسهم الشركة والاستغلال الوظيفي الذي مارسه رئيس مجلس ادارتها، وليد الكردي، زوج الاميرة بسمة عمة الملك، والمقدر بملياري دولار، فيما حرم تعديل رسم التعدين الذي أجرته الشركة على طن الفوسفات خزينة الدولة من 20 مليون دولار سنويا.
النهايات غير السعيدة للكشف عن الفساد دون استخراجه ووجود حصانة لفاسدين مقربين من القصر ورؤساء وزراء سابقين، دفع الاردنيين للكف عن التنقيب عن الاربعين حرامي، ووجهوا نقدهم الى الملك مباشرة مُحمّلينه مسؤولية حماية الفساد... نقداَ مثّل زحفاَ غير مسبوق على شرعية نظام الحكم وعلى قدسية حافظت عليها العائلة المالكة طويلا.