العـــشـــــــيـــرة فــــي الأردن: الحــجـــــر يهزم بــيـــــت الشَعر

حسم الصراع بين بيت الشعر وبيت الحجر في الأردن لصالح الأخير. سيطر الحجر على المشهد العمراني، وامتد اثره إلى تفكيك النمط الاجتماعي الذي كان قائماً على مؤسسة العشيرة التي بسطت ثقافتها على المنطقة تاريخياً، وحملت على عاتقها إرساء أساسات الدولة الأردنية في عشرينيات القرن الماضي، وحماية وجودها وضمان استمرارها.الدولة التي ولدت من رحم العشيرة انحازت سريعاً الى الحجر، حيث دشنت منذ ثلاثينيات القرن
2012-10-17

محمد الفضيلات

صحافي من الاردن


شارك
حوالي 7 آلاف كنية في الأردن تتوزع على المواطنين من مختلف المنابت والأصول

حسم الصراع بين بيت الشعر وبيت الحجر في الأردن لصالح الأخير. سيطر الحجر على المشهد العمراني، وامتد اثره إلى تفكيك النمط الاجتماعي الذي كان قائماً على مؤسسة العشيرة التي بسطت ثقافتها على المنطقة تاريخياً، وحملت على عاتقها إرساء أساسات الدولة الأردنية في عشرينيات القرن الماضي، وحماية وجودها وضمان استمرارها.
الدولة التي ولدت من رحم العشيرة انحازت سريعاً الى الحجر، حيث دشنت منذ ثلاثينيات القرن العشرين حملة للسيطرة على المؤسسة العشائرية عبر سياسات ممنهجة وطويلة الأمد، بدأت بتوطين البدو وانتهت بلجم اثرهم داخل مشهد الدولة.
صاحب ذلك صراع عنيف بين العشائر المختلفة على مناطق النفوذ، وبين العشائر والدولة على طبيعة العلاقة والمنفعة المتبادلة. لم ينته الصراع بتدمير العشيرة، ولا كان يمكنه ذلك بالطبع، والأهم أنه كان لا يقصده. بل هو أنجز تشويهها للسيطرة على ديناميتها، وتركها معلقة في فضاء يحد من اندماجها مع الشكل الجديد للدولة، ويعيق في الوقت ذاته تراجعها الى مواقعها الاولى. واقع يعبر عنه وجود بيت فاره من الحجر ينتصب في مدخله بيت شعر صنع من وبر الجمل، الأغلى ثمناً والأعلى قدراً.

الأول، الأصلي والتنوع

تفتقر الدوائر الرسمية لإحصائيات لأعداد العشائر الاردنية، وتشير إحصائيات غير رسمية لوجود ما يقرب من 7 آلاف كنية تتوزع على المواطنين من مختلف المنابت والأصول.
تنشغل العشائر الاردنية منذ تاريخ وجودها في المنطقة وحتى اليوم بالبحث عن اجابات للأسئلة الكبيرة المتعلقة بالأول والأصلي، من دون ان تطرح إجابات شافية وكافية على هذه التساؤلات.
لم يحسم خلاف العشائر حول أيها أول من استوطن المنطقة، بعدما اتفقوا على ان المنطقة كانت مأهولة على مر التاريخ، وبالتالي فإن خلاف الاول يبقى شكلياً أمام خلاف «الاصلي» الذي يعود نسبه تاريخياً إلى المنطقة وليس طارئاً عليها. وهنا يجري الحديث عن عشائر تعود في أصولها الى الحجاز- السعودية حالياً - وأخرى للشام والعراق واليمن، وذلك قبل تأسيس الدولة الحديثة وتكريس الحدود.
خلاف الأصل يطفو على السطح في إطار المنافسة على المكتسبات، ومقدار الاستفادة من العلاقة مع الدولة. فمن يعتبر انه أصل البلاد ينحو دائماً للتعبير عن رفضه توزيع خيراتها بالتساوي مع من هو طارئ عليها، في مواصلة لمبدأ الغنيمة الذي حكم سلوك العشائر قبل الدولة. وبعيداً عن الأسئلة الصعبة، شكَّل التنوع إحدى سمات العشائرية في الأردن، التي توزعت وفقاً للنمط الاجتماعي الى ثلاثة تقسيمات، هي: العشائر البدوية، وتواجدت في أقصى الجنوب ومن اشهرها عشائر الحويطات، وفي وسط الاردن ممثلة بعشائر الصخور والعدوان، واعتمدت تلك العشائر في نمط حياتها على الرعي.
الى جانب البدوية كانت العشائر الفِلاحية التي تمركزت في مناطق حوران الاردنية وبني كنانة وعجلون شمالاً، وصولا الى السلط في الوسط، وهي المناطق التي حكمتها تحالفات عشائرية واعتمدت على الزراعة بشكل رئيسي. ويظهر الإحصاء الاول لسكان الاردن الذي نُفِّذ في العام 1921 الغلبة العددية للعشائر الفلاحية التي بلغ عدد افرادها 250 الفاً، فيما بلغ افراد العشائر البدوية 120 الفاً.
بينهما، توجد العشائر نصف البدوية نصف الفلاحية التي اعتمدت في نمط حياتها على المزاوجة بين الرعي والزراعة، ومن اشهر من يمثلها عشيرة بني حسن التي تعتبر الأكبر في الاردن ويطلق عليها عشيرة المليون، وتقطن في الشمال الشرقي للملكة. غير أن التنوع الذي ساد ما قبل الدولة انتهى، حيث انصهرت العشائر في نسق موحد يجنح نحو الحداثة، من دون ان يُسقط الاعتزاز بالأصول التي تبقى محل تفاخر.
الى جوار ما تقدم، توزعت العشائر بين مسلمة ومسيحية. واذا كان ما سبق ركز على المسلمة منها، فإن العشائر المسيحية التي وجدت في مراحل سابقة لوجود تلك المسلمة كانت في غالبها تقترب من نمط العشائر نصف البدوية نصف الفلاحية، ومن اشهرها عشائر العزيزات التي تقطن مدينة مادبا (30 كيلومتراً جنوب عمّان) وعشائر الدبابنة التي تقطن مدينة السلط (30 كيلومتراً شمال غربي عمّان) وعشائر الهلسة التي تقطن في مدينة الكرك (120 كليومتراً جنوب عمّان).
وهناك عشيرة تحمل الاسم ذاته وتتوزع بين مسلمين ومسيحيين، يعود ذلك الى دخول غالبية سكان المنطقة في الاسلام خلال الفترة الواقعة بين أعوام 630 الى 640 للميلاد من دون ان يلحق ذلك اثرا على مسميات العشائر في البداية، لتبدأ بعد ذلك محاولات للتمييز بين أبناء العشيرة الواحدة التي انقسمت دينياً من خلال استخدام (أل) التعريف، لتجد العشيرة نفسها لاحقا عشيرتين مختلفتين.

علاقة معقدة، عداء وولاء

لم يمنع التاريخ المتوتر، الذي جمع فيما بين العشائر من جهة، وبينها ونظام الحكم من جهة اخرى، من بروز مؤسسة العشيرة كحليف استراتيجي للنظام، وضامن لاستمراره، مؤسسة اعتمد عليها النظام في مفاصل تاريخية مهمة بدا أن فيها خطراً على وجوده.
من ابرز المحطات التي ظهرت فيها العشيرة لحشد التأكيد الشعبي للنظام أحداث ايلول 1970 الذي شهد الاقتتال بين منظمة التحرير الفلسطينية والجيش الاردني، حيث عبرت العشائر عن مساندتها للنظام في الصراع، بعد ان تم تصنيف الوجود الفلسطيني المسلح خطراً ليس على نظام الحكم وحده بل على الديموغرافيا. ففي حال سيطرة منظمة التحرير سيكسب الأردنيون من اصول فلسطينية ميزة على الشرق اردنيين.
كانت تلك الأحداث منعطفاً رئيسياً رسّخ هاجس الخوف بين العشائر وبين الأردنيين من اصول فلسطينية. ويقوم النظام مذاك بتوظيف هذا الخوف للحيلولة دون التقاء الأردنيين من اصول فلسطينية مع العشائر على ما يناهض سياسته.
وأما الجمع بين متناقضة العداء والولاء بين النظام والعشائر، فتفسر في سياق سياسة الاحتواء والتفتيت التي استهدفت العشائر ونجحت في القضاء على زعامات تقليدية انتفضت سابقاً على نظام الحكم، وإحلال زعامات جديدة ارتبطت بالنظام ارتباطاً عضويا قائماً على تبادل المنافع.
إضعاف العشيرة وإعادة انتاجها في صيغة جديدة كان ضرورة من اجل تقوية نظام الحكم. ومما ساهم في صوغ هذه العلاقة المعقدة هو اعتماد الجيش الاردني في تشكيله، منذ نشأته، على أبناء العشائر.

تاريخ قديم متجدد

وأما العلاقة المعقدة فلها تاريخ: تأسست إمارة شرقي الاردن في العام 1921، وتحولت الى مملكة بعد الاستقلال في العام 1946. لم يمض عامان على تأسيس الإمارة بدعم عشائري واتفاق بريطاني مع الامير آنذاك، عبدالله بن الحسين، جد الملك الحالي، حتى اندلعت في العام 1923 ثورة العدوان أو ثورة البلقاء تحت شعار «الأردن للأردنيين» والتي جاءت تعبيراً عن رفض التحالف بين حكومة شرق الاردن والبريطانيين. وقد سحقت تلك الثورة بمساعدة سلاح الجو البريطاني. وتكررت الانتفاضات/ الثورات العشائرية على نظام الحكم، وكان مبررها خرق النظام للاتفاق المبرم مع العشائر، والذي ينص على ان «الحكم للهاشميين والبلد للأردنيين».
صيغة الاتفاق التي تؤيد حكم الهاشميين، برزت في «معاهدة أم قيس» التي عقدت بين العشائر في العام 1920- قبل وصول الامير عبدالله بن الحسين - والتي نصت على وجود أمير عربي يقود البلاد في إطار رابطة ما وصفوه حينها بـ«العش الصغير» الذي كان هم العشائر النأي به عن وعد بلفور.
اختيار الأمير العربي جاء ترسيخاً لقناعة بعدم قدرة احد الأبناء المحليين للعشائر على قيادة بلد يعج بعشائر تصارعت تاريخياً على القيادة ومناطق النفوذ. فكان ان التقى طموح العشائر بالأمير العربي مع عجز الأمير عبدالله بن الحسين من الوصول الى سوريا لمواجهة الفرنسيين، ليصبح اميراً للبلاد وملكاً فيما بعد.
مظاهر الصراع الحديث بين العشائر والنظام تكررت إبان حكم الملك الراحل الحسين بن طلال الذي كان الأكثر اعتماداً على العشائر، حيث اندلعت «هبة نيسان» عام 1989 في مناطق العشائر نتيجة للظروف الاقتصادية السيئة التي تطورت فيما بعد للمطالبة بالحرية وعودة الحياة الحزبية، وهو ما كان.
عادت العشائر لتشعل فتيل الاحتجاج في الربيع الاردني الذي انطلق في عام 2011 في عهد الملك عبدالله الثاني بن الحسين، حيث بدأت أولى الاحتجاجات المطالِبة بإصلاح النظام في قرية «ذيبان» ذات الطابع العشائري، لتطالب العشائر تباعاً بالإصلاح القائم على العودة الى الصيغة التعاقدية بينها وبين النظام، والقائمة على تقاسم الحكم والملكية.

اغتيال العشيرة

يبدو تركيب المجتمع الاردني أنه يعطي الصدارة للبدو يليهم الفلاحون فالحضر، ما جعل الولاء للعشيرة يفوق الولاء للدولة، الأمر الذي رأت فيه الدولة مصدراً للخطر.
بدأت السلطة السياسية تواجه ذلك بالسيطرة على العشائر البدوية من خلال فتح أبواب الجيش على مصراعيه أمام ابنائها، إضافة للتوسع في خدمات التعليم والصحة في مناطق العشائر، الأمر الذي ساهم تدريجياً في توطينها وربطها بالدولة، في حين فتحت للعشائر الفلاحية أبواب التعيين في مؤسسات الدولة، ما نتج عنه هجر ابنائها للنمط الزراعي. غيرت تلك السياسة من أساليب الحياة التقليدية العشائرية وجعلتها تنحاز الى الحياة الحضرية، فتفكك الدور الاقتصادي والاجتماعي للعشيرة، بعد ان أخذت الدولة على عاتقها المسؤوليات التي كانت تقوم بها العشيرة تجاه افرادها.
وبعد خسارة تلك الأدوار، حاولت العشائر الحفاظ على دورها السياسي الذي تغير مع تنامي قوة الدولة، فأصبح متأثراً بسياسة الدولة وليس مؤثراً بها، وأصبح الخلاف السياسي ينحصر في حجم تمثيل العشيرة في الدولة بغض النظر عن أثر ذلك التمثيل.
لم تقاوم العشائر تلك السياسة، بل رأت فيها وسيلة لتحقيق المنافع وتحصيل المكتسبات. استمر الأمر على حاله حتى ثمانينيات القرن الماضي عندما بدأت الدولة تعتمد الاقتصاد الليبرالي والسوق المفتوح، لتنسحب بذلك من الدور الذي سبق وانتزعته من العشيرة. ولكن العشائر عجزت عن الاندماج بالمنظومة الاقتصادية الحديثة، بعد ان حرمت مناطقها، نتيجة للتوزيع غير العادل، من التنمية وتحولت الى جيوب للفقر، وعجزت كذلك عن العودة الى حياتها التقليدية السابقة للحداثة نتيجة للقضاء على الرعي والزراعة.
تلك هي عوامل عودة التوتر الشديد الى العلاقة بين العشائر - حتى تلك التي أعيد إنتاجها - والنظام، وما خرج الى العلن واشتهر تحت مسمى «تحرك الطفيلة» وهي منطقة تقع في جنوب الأردن، وسواه من مظاهر اندماج نسبة كبيرة من أبناء العشائر في الحراك الاصلاحي، الذي يعبرون عنه بصيغة قوية، متمترسين خلف شعار "نحن اصحاب البلد".

مقالات من الأردن

ما تبقّى من «الكرامة»

2018-04-26

في هذا المقال استعادة لمعركة «الكرامة»، ومحاولةٍ التورّط في البنيان السياسيّ الذي أنتجته بالنسبة لفلسطين والأردن، وموقعها من الوعي الصهيوني العام، فضلًا عن تتبّع ظلّها الرسمي وما تبقّى منها اليوم..

للكاتب نفسه

استخدامات متعددة للمساجد في الأردن

يوجد في الأردن 5954 مسجداً ، منها 216 مسجداً تحت الإنشاء. الأرقام كشفت عنها وزارة الاوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردنية في إحصائيات خاصة بنهاية عام 2013.ويحتل المسجد لدى الأردنيين، الذين...