السيسي وإدارة الموارد في مصر

وضع السيسي الموارد تحت سيطرة الجيش بذريعة ضعف وترهّل هياكل المؤسسات المدنية للدولة، وعدم كفاءتها مقارنة بالجيش وأجهزته المختلفة. ولكن الأمر لا يرتبط فقط بالكفاءة، وإنما بالسيطرة وبالولاء.
2019-05-30

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
| en
دلير شاكر - العراق

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

كيف يمكن أن نفهم طبيعة وشكل إدارة السيسي للموارد في مصر، البشرية منها والطبيعية. وكيف يعيد السيسي استغلال موقع مصر الجغرافي وكيف يقوم بإدارته من الناحية الأمنية والجيوسياسية؟

السيسي من أم الدنيا إلى "إحنا فقرا أوي"

كان هدف السيسي المركزي واضحاً منذ البداية: يقول عنه أنه استعادة قوة وهيبة الدولة المصرية. ولذا فهو كان شديد الحرص على الاستحواذ الكامل على أغلب موارد الدولة، وتعظيمها من خلال الجيش تحديداً وليس من خلال أجهزة الدولة نفسها. وليس المقصود ب"تعظيم موارد الدولة" تعظيم موارد السكان أنفسهم، وتحسين شروط حياتهم.. أو على الأقل ليس في هذه المرحلة، كما يدّعي السيسي، متحججاً بأننا "فقرا أوي، فقرا أوي" على حد تعبيره. أما توسع الجيش أو استحواذ السيسي على الموارد عبر الجيش ووضعها تحت سيطرته، فيأتي تحت ذريعة ضعف وترهل هياكل المؤسسات المدنية للدولة، وعدم كفاءتها مقارنة بالجيش وأجهزته المختلفة. ولكن الأمر لا يرتبط فقط بالكفاءة وإنما بالولاء والسيطرة. وقد ربط السيسي تعظيم السيطرة على الموارد تحت قيادة الجيش باستعادة قوة الدولة، وتماسك الحكم بعد عقود من ترهل جهاز الدولة وسيطرة نخب الحزب الوطني ورجال الأعمال على الموارد، ثم عدم تماسك قبضة الحكم على البلاد بعد الثورة. وبدأ السيسي حكمه بوعود أن "مصر أم الدنيا وستصبح قد الدنيا". وانتهى الآن إلى خطاب دائم يؤكد على فقر مصر، وعدم قدرة الدولة على تلبية العديد من الخدمات للمواطنين.

ولكن في مقابل عموم الجمهور والتملص من تحسين شروط حياتهم بغاية إحكام قبضته على الحكم، حاول السيسي تحسين شروط حياة الجيش، فقام برفع مرتّباتهم على عدة مراحل وتحسين الخدمات المقدمة إليهم. كما قام برفع معاشات التقاعد الخاصة بهم، وذلك لتعويض فارق التضخم وارتفاع الأسعار بسبب تعويم الجنيه المصري. في مقابل الجيش، اعتمد السيسي على الزيادات التي أقرت لمؤسسة القضاء منذ 2009 حتى 2014، طبقاً لبعض المصادر الداخلية. وبالمقابل، رفض السيسي طلب رئيس المجلس الأعلى للقضاء زيادة رواتب القضاة بعد تذمرهم من غلاء المعيشة. وجرى توجيه جواب شديد اللهجة إليهم من وزارة المالية. واعتمد السيسي الأمر نفسه مع الداخلية، ولكنه أولى اهتماماً شديداً بها من ناحية التطوير والدعم المعنوي. وهناك شكاوي كثيرة من الداخلية وتذمر مكتوم، لكونهم يقارنون بين أوضاعهم، وتلك الزيادات التي تخص الجيش.

حسّن السيسي شروط الحياة لمؤسسة الجيش، بينما اشتكى وزير التعليم ووزيرة الصحة من غياب الموارد المالية اللازمة لعمل وزارتيهما. يتضح إذاً أن الهدف الأول من إدارة الموارد، وإعادة توزيعها هو الإمساك بعصب الدولة وضمان ولائه في ظل حالة القمع، وفي ظل الصراع المستعر داخلياً وخارجياً.

وتعطي هذه الخيارات في إدارة الموارد المالية للدولة بعض المؤشرات على توجه السيسي العام في الإدارة العامة للدولة ومواردها. فمنذ أسابيع، اشتكى كل من وزير التعليم ووزيرة الصحة من غياب الموارد المالية اللازمة لقيام الوزارتين بأعمالهما وتحقيق وتنفيذ الخطط المختلفة. يتضح إذاً أن الهدف الأول من إدارة الموارد وإعادة توزيعها هو الإمساك بعصب الدولة، وضمان ولائه في ظل حالة مستمرة من القمع، ومن الصراع الداخلي والخارجي.

ويمكن أن نرصد ثلاث مراحل لسيطرة السيسي على الموارد وإدارتها في مصر. وهي ليست مرتبة زمنياً ولكنها متداخلة. المرحلة الأولى هي السيطرة على جهاز الدولة، وكانت آخر محطاتها هي تعديل الدستور لإحكام السيطرة على القضاء ومنح السيسي المزيد من المدد الرئاسية. المرحلة الثانية، هي استحواذ الجيش الواسع على أدوات الإنتاج والموارد الطبيعية مثل سيطرته الكاملة على الأراضي والمحاجر وتوسع الجيش في شركات القطاع العام نفسه. والمرحلة الثالثة هي التوسع في القروض والاستدانة الداخلية والخارجية. ويحدث ذلك في ظل رفع الدعم، والتخلص من الأعباء الاجتماعية الواقعة على كاهل الدولة لتوفير موارد من الميزانية تسمح بالقيام بمشروعات السيسي الضخمة.

الجيش والداخلية

يعتبر عمرو عدلي (1)، الباحث بالاقتصاد السياسي، أننا بقيادة السيسي نكون أمام نمط من الاقتصاد يمكن تسميته برأسمالية الجيش، وهو فرع من رأسمالية الدولة، حيث تضطلع مؤسسات الدولة وأجهزتها وشركاتها بالنشاط الاقتصادي تبعاً لمنطق السوق وبغية تحقيق أرباح كأي كيان سوقي. ولكن وخلافاً لحالات رأسمالية الدولة السابقة تاريخياً، كالقطاع العام في عهد عبد الناصر، فإن المرحلة الراهنة تشهد تنامياً لدور مؤسسات وشركات تابعة للمؤسسة العسكرية في شتى الأنشطة، وعلى نحو أكثر اتساعاً بكثير مما كان قائماً في عهد مبارك. فالسيسي منح أجهزة المخابرات والداخلية، من خلال قرار رئاسي، حق إنشاء شركات أمن خاصة بها. كذلك توسع في القرارت الرئاسية التي تمنح الهيئة الهندسية (عسكرية) حق القيام بالمشاريع الاستثمارية المختلفة، وتخصيص وإعادة تخصيص الأراضي لصالح هيئات مختلفة داخل الجيش ليستحوذ هذا الأخير على واحد من أهم الموارد في مصر، وهي الأرض. وهذا تَحوّل لأحد المضاربين في السوق العقاري. ولعل أبرز مثال على ذلك هي العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين التي تمّ تخصيص أراضيهما من خلال قرارات رئاسية مباشرة لصالح الجيش. ولكنه في الوقت نفسه لا يستهدف إحياء القطاع العام (بل على العكس، يتم الدفع إلى خصخصة ما تبقى منه، أو الإتيان بالقطاع الخاص المحلي والأجنبي في شراكات معه)، والتعويل على المؤسسة العسكرية، خاصة في مشروعات البنية الأساسية والإسكان وبعض الصناعات. ويشير وائل جمال (2)، الباحث الاقتصادي، أن الجيش يتغول أيضاً على القطاع العام، ولعل أبرز مثالين على ذلك هما قطاعي صناعة الحديد والأسمنت وبعض صناعات الأدوية.

استغل السيسي أيضاً الموارد المالية للدولة وعلاقاته بالإمارات والسعودية لتسليح الجيش والداخلية المصرية. فمصر أصبحت ثالث مستورد للسلاح (3) في العالم طبقاً لمعهد استوكهولم للسلام الذي يشير إلى زيادة واردات مصر من الأسلحة، في الفترة بين 2014 و2018، ثلاثة أضعاف ما كانت عليه بين عامي 2009 و2013. وجرت إعادة تسليح الجيش المصري من فرنسا وألمانيا وروسيا، مع استمرارها بشراء الأسلحة من الولايات المتحدة الأمريكية، استكمالاً للمعونة الأمريكية منذ كامب دافيد. ويشير أحد تقارير قناة "فرانس 24" إلى اشتراك السعودية في تمويل صفقة الميسترال الفرنسية (4).

وتنوَّع تسليح الداخلية بين المعدات والمركبات والمدرعات والذخائر وقنابل الغاز وحقوق إنتاج الأعيرة النارية. كما جرى أيضاً استيراد معدات وتقنيات تجسس بمليارات الدولارات، ساعدت الإمارات في العديد منها طبقاً للمصدر نفسه (5). وتسليح الداخلية وتطوير تقنيات المراقبة يعد مفهوماً في سياق الحرب الداخلية التي يخوضها النظام ضد جماعة الإخوان المسلمين و"الجماعات الإرهابية"، ولمحاصرة القوى الديمقراطية. ولكن هذا التطور النوعي في إعادة التسليح فاقم من حجم ديون مصر، وهو اعتمد بالأساس، مثله مثل بقية بنود الإنفاق في الدولة، على التوسع في الاستدانة.

مع وجود السرية بخصوص ملف التسليح وميزانية القوات المسلحة، طبقاً للدستور، فمن غير الممكن معرفة كيفية تحميل هذه النفقات للموازنة العامة، ومدى تأثيرها على المستقبل في ما يتعلق بمسألة الديون على وجه الخصوص.

أما التوسع في إعادة تسليح الجيش فقابل للتحليل من أكثر من زاوية. أولاً، السبب الداخلي هو إرضاء الجيش كمؤسسة وتثبيت أركان السيسي عبر ضمان ولائها من خلال رفع كفاءتها وتطويرها. وتنوع مصادر السلاح كان له مردودٌ إيجابي داخل الجيش ورفع من أسهم السيسي لديه، حيث يعتبر أول من نجح في تنويع هذه المصادر منذ كامب دافيد، أو هذه على الأقل رؤية العديد من الضباط الآن. وبهذا نجح السيسي أيضاً في المناورة مع الولايات المتحدة بعد تهديد هذه الأخيرة لأكثر من مرة بقطع المعونة العسكرية. ثانياً، التسابق الإقليمي في التسلح والخوف من التوترات القائمة في المنطقة، وقد عرض السيسي أكثر من مرة مصر على الخليج كقوة محتملة. نجحت هذه الصفقات في شراء سكوت الدول الغربية على انتهاكات حقوق الإنسان، وكسر الغزلة التي حاولت بعض الدول فرضها على مصر بعد سيطرة الجيش على الحكم في 3 تموز/ يوليو 2013. ومع وجود السرية بخصوص ملف التسليح وميزانية القوات المسلحة، طبقاً للدستور، فمن غير الممكن معرفة كيفية تحميل هذه النفقات للموازنة العامة، ومدى تأثيرها، وبالأخص مستقبلاً في ما يتعلق بمسألة الديون.

وبالقطع يطرح هنا سؤال خيارات الأولوية في الانفاق وغياب أي نوع من التشارك والشفافية العامة في مسألة إنفاق موارد الدولة.

الطاقة: هاجس السيسي ونجاحه الأكبر

جاء السيسي إلى الحكم في وقت كانت الكهرباء في حالة انقطاع دائم في عموم البلاد. وهذه كانت أحد المشاكل الكبرى التي واجهت محمد مرسي في فترة حكمه القصيرة. والحالة لم تكن خطيئة أي منهما، فكلاهما ورث محطات توليد طاقة مهترئة من مبارك، وضعف شديد في توليد الطاقة الكهربائية من مصادر مختلفة، والاعتماد على الوقود الأحفوري بنسبة 89 في المئة. اعتمد السيسي على تنويع مصادر الطاقة المنتجة للكهرباء، وخصص لها 614 مليار جنيه مصري من 2014 إلى 2020. وكان اتفاق مصر مع شركة "سيمنز" الألمانية أحد أبرز النجاحات في هذا المجال. وقام ببناء محطات طاقة الرياح ومشروع عملاق بمنطقة بنبان للطاقة الشمسية. وكذلك بدأ بمشروع المفاعل النووي بمنطقة الضبعة.

حقق السيسي نجاحاً مبهراً في مسألة الطاقة الكهربائية، فانتهى العجز بالكامل وأصبح لدى مصر فائض يقدر بما بين 25 إلى 35 في المئة. وتشاع كثير من الأخبار عن توجه مصر لتصدير الكهرباء، وهو ما لم تتضح ملامحه حتى الآن. وبالفعل، بعد تحقيق هذا الفائض، توقفت بعض المحطات عن الإنتاج لعدم الحاجة. ولا شك أنه نجاح كان هناك احتياجٌ ماس له. ولكنه يطرح سؤالاً عن التخطيط وعن توظيف هذه الموارد. فالنجاح مصحوب بشكوك حول تكامل التخطيط والجدول الزمني، حيث كان يجب الاستفادة المباشرة من هذه الفوائض، أو في أسوء الظروف التوسع قدر الحاجة والإنفاق على قطاعات أخرى داخل المجتمع والدولة تعيش عجزاً. ثم أنه، وعلى الرغم من هذا النجاح في تطوير قطاع الكهرباء ومن كفاية الإنتاج، فالتكلفة على المواطن تزداد كل يوم. وقد حولت الدولة الكهرباء من خدمة إلى سلعة تجارية.

لا يتوقف الأمر في مسألة الكهرباء عند حدود السؤال الاجتماعي. فهذا النجاح جاء على حساب تكلفة عالية وُفِّرت من الاستدانة. فحتى تقوم مصر ببناء ثلاث محطات توليد كهرباء عبر شركة "سيمنز" الألمانية، اقترضت 6.7 مليار دولار تم من خلال تحالف عدة ممولين (هم Deutsche Bank AG, HSBC Holdings Plc and KfW-IPEX Bank AG). ويشير تقرير لوكالة "بلومبرج" صدر مؤخراً، أن مصر تلقت عرضاً من كل من "بلاك ستون" الصينية و"إدرا" الماليزية لشراء المحطات الثلاث، يقومان بعدها ببيع الكهرباء للحكومة المصرية التي ستقوم بدورها ببيعها للمواطنين. ويرى مدير "مؤسسة القلعة" أن هذه الصفقة كانت لتساعد على تقليل حجم الديون المصرية، والإتيان باستثمارات أجنبية مباشرة إلى مصر (6).

اعتمد السيسي على تنويع مصادر الطاقة المنتجة للكهرباء، وخصص للقطاع 614 مليار جنيه بين 2014 و2020، وقام ببناء محطات طاقة الرياح ومشروع عملاق بمنطقة بنبان للطاقة الشمسية. وكذلك بدأ بمشروع المفاعل النووي بمنطقة الضبعة. وهو حقق نجاحاً كبيراً، فانتهى العجز بالكامل وأصبح لدى مصر فائض يقدر بما بين 25 إلى 35 في المئة.

وتتوسع مشاريع طاقة الرياح أيضاً في مناطق البحر الأحمر، مثل مشروع جبل الزيت الذي يضم 300 توربينة، تنتج 580 ميغاوات، تكلفتها 12 مليار جنيه، وتفوق مساحتها 100 كيلومتر مربع، وكذلك مشاريع أخرى بالعين السخنة. ويعد الاعتماد على طاقة الرياح مكسباً حقيقياً لمصر من حيث استغلال الموارد الطبيعية بشكل إيجابي، وعدم تلويث البيئة وقابليته للاستدامة وتوليد طاقة نظيفة وآمنة.

وساعدت محطات الكهرباء الجديدة مثل محطة بلطيم في كفر الشيخ التي أنشأتها الشركة الألمانية "سيمنز" والمعتمدة على الغاز مباشرة من البحر، في حل مشاكل انقطاع التيار في محافظات الريف، أو ضعفه. وعلى الرغم من تحول الكهرباء إلى سلعة لكن ذلك لم يمنع حدوث توازن بين المدن والأرياف لجهة توفر تلك السلعة. فأيام مبارك، كان يتم معظم توزيع الأحمال - وبالتالي الانقطاع - على مناطق الريف لعدم تأثير احتجاجهم مثلما لو وقعت في المدن الكبرى.

ومن جهة أخرى، يثير "مشروع الضبعة للطاقة النووية" الكثير من الجدل. فبعض مسؤولي الدولة تحدثوا عن إنتاج الطاقة من خلال المفاعل النووي كمسألة حياة أو موت بالنسبة لمصر، وهم يرون أنه مهم للغاية في تنويع مصادر الطاقة. لأن الطاقة النووية في فرنسا مثلا تمثل حوالي 70 في المئة من مجمل إنتاج الكهرباء، وهي طاقة رخيصة على المدى البعيد لأن المفاعل يعمل حوالي 80 سنة، بينما مشروعات الطاقة الشمسية عالية التكلفة وتنتهي صلاحيتها خلال 25 سنة ثم لا بد من استبدالها. ولكن في المقابل يشير تقرير "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" إلى خطورة الطاقة النووية، وأنها ليست بالطاقة الرخيصة ولا الآمنة. وارتكز التقرير على ثلاثة عوامل. أولاً المخاطر من أي كارثة قد تحدث، مما سيعني تدميراً شبه كامل للساحل الشمالي الذي يعد من أكثر الشواطئ جمالاً في العالم، وكذلك خطورة التخلص من النفايات النووية وتكلفة العملية. ثانياً، عدم توفر الكفاءات المصرية في هذا المجال. ثالثاً، مقارنات السعر المعدل لتوليد الكهرباء (LCOE) والذي يضع في الاعتبار تكلفة البناء والتشغيل وأسعار الوقود والعمر الافتراضي للمحطات، توضّح أن السعر المعدل لكل ميغاوات/ساعة من الطاقة النووية يبلغ حوالي ضعف سعر كل من دورة الغاز المركبة والخلايا الشمسية وثلاثة أضعاف طاقة الرياح (حسب تقرير (7) "معلومات الطاقة الأمريكية" EIA -  لعام 2017).

وساعدت اكتشافات الغاز في شرق الدلتا و"حقل زهر" على تحقيق اكتفاء ذاتي من الغاز، وبدء التصدير بدلاً من الاستيراد. ومع هذا يستمر استيراد مصر للغاز من إسرائيل وهو أمر غريب وغير مفهوم، بالأخص في العقد الأخير. على كلٍّ، ساعدت هذه الاكتشافات السيسي على تحسين موارد الدولة، والتخطيط لتحويل مصر إلى واحدة من أكبر مناطق تسييل الغاز. كما تحول غاز البحر المتوسط إلى مجال حيوي للصراع بين مصر وتركيا، وإلى تقارب مصر مع إيطاليا واليونان. ويلقي هذا الصراع بعبء كبير على موارد الدولة في سباق التسلح والمناورات في البحر المتوسط.
وعلى المستوى الداخلي، فالحال مع الكهرباء هو نفسه مع الغاز. فخطة توصيل الغاز للمنازل تتحقق في وقت قياسي في المحافظات المختلفة، مثل محافظة البحيرة التي أنجزت ذلك خلال سنة ونصف. ولكن في المقابل تشهد قيمة فواتير الغاز المترتبة على المشتركين ارتفاعاً كبيراً.

تحويل خدمات الدولة إلى سلع

يفصح السيسي في أحد الفيديوهات المسربة عام 2013، أثناء اجتماعه مع بعض ضباط الجيش، عن توجهه بما يتعلق بالخدمات التي تقدمها الدولة ومسألة الدعم. لم يتطلب الأمر الكثير من الوقت حتى حوّل الرئيس تلك الرؤية الى موقف علني أدلى به في أكثر من لقاء: الشعب المصري تمّ تدليله عن طريق الخدمات التي تقدمها له الدولة، وحان وقت بيع تلك الخدمات بسعر تكلفتها الحقيقية. ومَثّل هذا الموقف الاتجاه الأول لإدارة السيسي بخصوص موارد الدولة. ويشير عمرو عدلي إلى أن هذا التوجه في استخدام الموارد العامة حسب قواعد السوق يهدف إلى تحقيق أعلى ربحية ممكنة، وبالتالي الإعلاء من منطق السوق الاقتصادي على حساب أي منطق اجتماعي آخر من الممكن أن يحكم استخدامات الموارد العامة، كالحرص على العدالة الاجتماعية أو المساواة. وهو ما نراه واقعاً مع الموارد الطبيعية الأخرى كالأراضي الصحراوية التي تخضع بشكل متزايد لمنطق السوق من حيث التسعير (وفي بعض الأحيان المضاربة)، وتهيئة الإطار القانوني لشركات ومؤسسات مملوكة أو تابعة للدولة كي تستخدم الموارد الطبيعية بمنطق السوق، أي استكمال التسليع الذي كان قد بدأ مع ملف الأراضي في عهد مبارك الأخير. وينطبق الأمر نفسه على الغاز الطبيعي والمحروقات، والتي أمست تخضع بشكل متزايد للتسعير بحسب برنامج تقشفي يهدف للتقليل من الخسائر التي تتكبدها الخزانة العامة للدولة، وغيرها من المؤسسات العامة العاملة في مجال إنتاج وتوزيع المحروقات.

ولكن مرة أخرى، تطرح هذه المقاربة النيوليبرالية لكل من موارد وخدمات الدولة سؤالاً مركزياً: أين حق الجمهور في تلك الموارد؟ بمعنى لماذا لا تنعكس اكتشافات الغاز الكبيرة التي شهدتها مصر مؤخراً، والتي تساعد على إنتاج الطاقة الكهربائية - وهي نفسها مصدر طاقة - تحسيناً لحياة السكان؟ هل هذه الموارد ملكٌ لسكان البلاد أم أنها ثروات في يد أوليغارشيا متحكمة بجهاز الدولة، تقوم بتسليعها وبيعها، كأي رجل أعمال، للسكان الذين يقبعون تحت حكمها؟ وهنا يمكن رصد مسار الدولة المصرية والأوليغارشيا العسكرية الحاكمة من الحقبة الناصرية وصولاً إلى السيسي. فالأول استغل موارد الدولة لعقد صفقة تبادلية مع المجتمع قائمة على مقايضة الحرية بالخدمات والأمن الاجتماعي. بينما انتهى المطاف على يد الأخير إلى تغييب الشعب عن حقه في الثروة والخدمات وكذلك في الحريات. وهو مآل يبدو الآن منطقياً بأثر رجعي كنتيجة لتهميش السكان من كل من الحكم وأدوات الإنتاج، وعدم إدماجهم في العملية السياسية والإنتاجية، وبالطبع تهميشهم من حق إدارة موارد البلاد. ومن هنا فحجة الدولة بأننا فقراء ونعاني من نقص في الموارد ما هي إلا مناورة خطابية وأيديولوجية هدفها المركزي القمع ودفع الجمهور للقبول بالسياسات المالية للدولة وبشكل إدارتها.

فالسيسي الذي يعتدُّ بفقر الموارد هو نفسه الذي أهدر مقداراً كبيراً من العملة الصعبة على مشروع تفريعة قناة السويس الجديدة. وبالمنطق نفسه، اعتمد السيسي على بيع سندات هذه التفريعة لتمويل المشروع. ولكن إصراره على إنهاء المشروع في عام واحد كانت له تداعيات كبيرة على الجنيه. ولم يكن مفهوماً لماذا الإصرار على تشييد المشروع في عام واحد، بينما تشير جميع التقارير الاقتصادية إلى تراجع في التجارة العالمية. ثانياً، لم ينعكس المشروع بأي شكل من الأشكال إيجابياً على إيرادات القناة، بل تشهد إيراداتها تراجعاً ملحوظاً. بينما كان قد قيل أن دخل القناة سيتضاعف 300 في المئة بمعنى أن يصل إلى 15 مليار دولار (حوالي 250 مليار جنيه بأسعار الصرف حالياً) في سنة 2023. وفيما بعد، قيل إن المشروع كان هدفه المركزي ليس الربح ولا زيادة المدخول بل رفع الروح المعنوية للشعب المصري وتأكيد قدرته على الإنجاز.

لماذا لا تنعكس اكتشافات الغاز الكبيرة تحسيناً لحياة السكان؟ هل هذه الموارد ملكٌ لسكان البلاد، أم أنها ثروات في يد أوليغارشيا متحكمة بجهاز الدولة، تقوم بتسليعها وبيعها، كأي رجل أعمال، للسكان الذين يقبعون تحت حكمها؟

التوجه لاستخدام الموارد العامة حسب قواعد السوق يهدف إلى تحقيق أعلى ربحية ممكنة. وهو يُعلي من منطق السوق الاقتصادي على حساب أي منطق اجتماعي آخر من الممكن أن يحكم استخدامات الموارد العامة، كالحرص على العدالة الاجتماعية أو المساواة.

وثمة أمر مشترك بين تفريعة القناة والعاصمة الإدارية الجديدة. وهي رؤية السيسي لنفسه كمقاول ومستخرج للموارد من الداخل المصري. فهو يرى وجود سيولة مالية كبيرة لدى العديد من المصريين، ويمكن استخراجها عن طريق فتح سبل لتدفق هذه الأموال في مشاريعه. والأمر لا يخلو أيضاً من فتح مجال لغسيل الأموال عبر الاستثمار المباشر. وهو ما يراه بعض الداعمين للنظام كحنكة في استغلال أموال مخبأة. كذلك يستفيد القطاع المصرفي من أزمة الاستدانة والديون. فكلما اقترضت الدولة المصرية من الداخل انتعش هذا القطاع.. الأمر الذي بدأ يتجه بمصر إلى اقتصاد قائم على الاستدانة الدائمة، وهو ما لا يمانعه الكثيرون من أصحاب التوجه النيوليبرالي والتجار والمستثمرين العقاريين. ولكن يظل السؤال المستقبلي محوري في هذا الأمر: فمن سيتحمل تكلفة هذه الاستدانة الدائمة؟ وما حل هذا العبء على الأجيال القادمة؟

ولا يتوقف الأمر عند نزوع السيسي إلى التوسع في الدين الداخلي. فهو أيضاً يتوسع بشكل كبير في الاقتراض من الخارج. ويزداد التماهي بين دور الدولة (بما في ذلك تقديم الخدمات العامة، واستخدام الموارد العامة) وبين أجندة "إجماع واشنطن" (8) النيوليبرالية. ويعود هذا بالأساس إلى تجدد الدور التقليدي لصندوق النقد الدولي، مع تدخله كمقرض في نهاية 2016، وكضامن للمزيد من الاقتراض من جانب الحكومة المصرية في أسواق السندات العالمية. كما يمارس السيسي الترتيب نفسه مع الصين. فمصر تقترض من الصين قرابة 3 مليار دولار لتمويل مشروعات في العاصمة الإدارية ولتمويل القطار الكهربائي فيها. وفي إحدى اللقاءات التلفزيونية مع وزير المالية، أكد الرجل ببساطة عدم توفر موارد مالية له، وبالتالي فهو سيقوم بالاقتراض مرة أخرى. وهذه دائرة يمكن ألاّ تنتهي، فيقع الاقتصاد المصري فريسة الاستدانة الدائمة. وهكذا فهو يصبح شديد الهشاشة وعرضة للهزات الاقتصادية. ويرى بعض المحللين أن بوادر أزمة عقارية قد تلوح في الأفق نتيجة التوسع الكبير في القطاع العقاري.

هل مصر بلد فقير؟

الحديث الدائم لدى المعارضة المصرية هو أن مصر بلد غني بالموارد الطبيعية من بحار، ونهر ضارب بطول البلاد، والثروات الطبيعية مثل الغاز والبترول والمحاجر المختلفة. ويرى هذا الطرح أن مشكلة مصر الرئيسية هي في الفساد والنهب الممنهج الذي تتعرض له منذ الحقبة الاستعمارية، ثم على يد النخب الوطنية العسكرية التي حكمت مصر بعد الاستقلال. ولكن الحقيقة أن مصر ليست بلداً غنيّاً بهذا الشكل، ولكنها ليست بلداً فقيراً أيضاً. فمصر ليست ضمن مصاف الدول الغنية بالموارد التي تعود بفوائد مالية ضخمة مثل روسيا، أمريكا، السعودية، كندا، إيران، الصين، البرازيل، استراليا، العراق، فنزويلا. ومصر تحديداً تختلف عن النموذج الخليجي مثل السعودية القائم على استخراج كميات مهولة من البترول، ولا يتطلب الأمر فيه أكثر من قوى أجنبية لاستخراجه وتوزيع فوائض تصديره على النخب الحاكمة بما فيها مقدار كبير من النهب والفساد لضمان الولاء أو لتغطية مصاريف وبذخ الأسرة الحاكمة، ثم استخدام الريع في بناء المدن وتشيد بعض المشاريع الاستثمارية وتقديم الخدمات لعموم الجمهور. ولكن موارد مصر، كي تصبح بلداً ثرياً، يتطلب نمط حكم آخر وعلاقات إنتاج مختلفة. فتعظيم الموارد في مصر يتطلب إدارة رشيدة، وإدماج لعموم السكان في العملية الإنتاجية، وتحسين قدرات وشروط إنتاجهم. ولنأخذ على سبيل المثال قطاع السياحة. فمصر فيها آثار وإمكانيات سياحية مهولة. وعلى مستوى الشرق الأوسط تأتي بعد السعودية في عدد السياح. وبالطبع تقوم "السياحة" السعودية على الحج. ولكن لا يأتي مصر أكثر من 10 ملايين سائح في أفضل الحالات. وهو أمر لا ينسجم مع حجم الإمكانيات المتاحة ومقارنتها بدول مثل اسبانيا والبرتغال. وهذا مرده الأساسي (عدا عامل الاضطراب السياسي والأمني، وحتى حينما لا يكون قائماً)، إلى سوء الإدارة وعدم كفاءة البنية التحتية وقلة مهارة العرض والتفاعل، والاعتماد فقط على وجود الآثار والشواطئ الخلابة. بل هناك بعض الشواطئ لا يأتيها إطلاقاً السياح من الخارج، مثل الساحل الشمالي الممتد لما يزيد على 600 كيلومتر أغلبها من أفضل شواطئ العالم.

وقد نجح السيسي من خلال إحكام قبضته على البلاد واستعادة جانب كبير من الأمن، في مساعدة السياحة على الانتعاش مرة أخرى، بالأخص في آخر عامين. ولكن هل قامت الإدارة بتحسين شروط هذا المورد بعيداً عن الأمن والاستثمار الجاد فيه؟ الإجابة حتى الآن هي بالنفي.

الأمر نفسه ينطبق على بقية إدارة الموارد. فالسيسي يتوسع بشدة في بناء الطرق، والاستثمار العقاري والمضاربة في الأرض، ومشاريع الطاقة. وهي أمور فيها الكثير من الجوانب الإيجابية. ولكن مشاريع الطرق والعقارات لا تتصدى إلى أسئلة الاقتصاد الملحة والمأزومة في مصر. وأنها كما أشرنا تفْرط في الاستدانة الداخلية والخارجية، ولا تساعد على بناء نمط إنتاجي، الأمر الذي يزيد من مشكلة توفّر العملة الصعبة في غياب التصدير. وفي غياب الإنتاج، تظل محاولات السيسي الدؤوبة للحد من الاستيراد والتضييق عليه معالجة وقتية، وإن كانت جيدة في بعض جوانبها.

وكما يتضح من سياسات السيسي، فأغلب الإنفاق منصبٌّ على القطاع العسكري والأمني بينما تتقلص ميزانية قطاعي الصحة والتعليم. وهو ما يوضح رؤية قائمة على تهميش السكان لعدم احتياجهم في هذا النوع من الحوكمة.

ويتضح من تحصيل الضرائب استمرار مصر على النهج الريعي. معدل التحصيل الضريبي في مصر منخفض للغاية لا يتعدى 14 -15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وجزء من مصادر هذه الحصيلة المنخفضة يأتي من مصادر ريعية مثل قناة السويس وقطاع البترول والقطاع المالي. فمن بين 462 مليار جنيه تم تحصيلها كضرائب في العام المالي 2016 – 2017 (وهي آخر أرقام فعلية متاحة)، جاء 22 مليار من ضرائب قناة السويس و42 مليار من هيئة البترول فضلاً عن الضرائب التي جاءت من أنشطة ريعية أخرى مثل الاستثمار في الديون والأوراق المالية.

ويشير الباحث الاقتصادي أسامة دياب (9) إلى أن الدولة المصرية، في سعيها لحشد الموارد، تعتمد بشكل محدود على العنصر البشري، فتأتي أغلب مواردها من الاقتراض والمنح ودخل قناة السويس والنفط، بعكس الاقتصاديات الصناعية وما بعد الصناعية التي تأتي أغلب مواردها من ضرائب النشاط الصناعي والتجاري والخدمي، وتعتمد الدولة بالتالي في مواردها على العنصر البشري بشكل أكبر، كعمال في قلب عملية الإنتاج وخلق القيمة أولاً، وكمستهلكين لتصريف هذه القيمة المولَّدة ثانياً.

ويمكن تلخيص معضلة إدارة الموارد في مصر وسؤال هل مصر دولة فقيرة أم غنية في ثلاثة أمور:1- تخلّف هياكل الاقتصاد المصري، وعدم قدرته على الخروج من دوامة التراكم البدائي للثروة والاعتماد على الريع والاقتراض. 2- عدم تطوير قوى الإنتاج نفسها. 3- غلبة الطابع الأمني في إدارة البلاد والاعتماد على حكم القلة، كما يتضح من توسع الجيش وأجهزته وتقاسم بقية الاقتصاد مع القطاعات الرأسمالية المصرية والعالمية. فمصر تعاني نهباً كبيراً جداً لفائض القيمة مع فائض بشري ضخم غير مستغَل ومهمَّش بل ويتعرض لقمع دائم ويخضع لإدارة بوليسية عنيفة. وهو ما يطرح أسئلة كثيرة حول كيفية إدارة موارد البلاد وسؤال الديمقراطية والتشارك فيها. ولهذا لا عجب أن مصر من أكثر بلدان العالم التي تتسم بغياب البيانات والاحصائيات الاقتصادية والمعلومات التي تتعلق بالمشاريع المختلفة.

محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

_____________
1. حوار قام به الباحث مع دكتور عمرو عدلي في أيار/ مايو 2019
2. حوار قام به الباحث مع الباحث الاقتصادي وائل جمال في أيار/ مايو 2019
3. تقرير لمدى مصر في 12 آذار/ مارس 2019
4. تقرير فرانس 24 في 23/09/2015
5. تقرير فرانس 24 في 06/07/2017
6. Magdy, Mirette (2019): Egypt Mulls Blackstone Unit Offer to Take Over Power Plants, published in May 27 2019
7. المبادرة المصرية (2019): ورقة موقف: الطاقة النووية الأغلى والأخطر، نشر في 23 نيسان/ إبريل 2019
8. إجماع واشنطن Washington Consensus هي مسودة طرحها جون وليامسون عام 1989 لتكون علاجاً ووصفة من عشرة بنود لـ"الدول الفاشلة" التي واجهت صعوبات مالية وإدارية واقتصادية، تحتوي توجيهات لكيفية تنويع اقتصادها وإدارة مواردها الطبيعية ، بالإضافة إلى دعوته البنك الدولي ومؤسسة النقد الدولية لتبني هذه البنود
9. لقاء قام به الباحث مع دكتور أسامة دياب الباحث الاقتصادي، في أيار/ مايو 2019

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...